إغلاق المجالات الجوية.. ورقة أخرى للضغط على موسكو

 مصطفى عبد اللاه

 

تسعي الدول الغربية منذ أن بدأت عملية الاجتياح الروسي لدولة أوكرانيا يوم 24 فبراير إلى فرض العديد من القيود الاقتصادية على موسكو، وذلك من أجل إثنائها عن خططها الرامية إلى احتلال العاصمة كييف واسقاط حكم الرئيس فلوديمير زيلينسكي الذي وقف خلال السنوات الماضية في صف الغرب، وذلك لطموحه في ضم البلاد إلى حلف الناتو، وهو ما رأته موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، لذلك حركت الأخيرة ما يقارب على 200 ألف عسكري داخل الأراضي الأوكرانية.

القيود التي فرضتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، تنوعت ما بين منع لعدد من الكيانات المالية الكبرى في روسيا من استخدام نظام سويفت SWIFT الذي ينظم عملية تحويل الأموال بين 11 مؤسسة مالية في 200 دولة حول العالم، وتجميد لأصول عدد من الشخصيات البارزة والمسؤولة عن اندلاع الأزمة ومن بينهم الرئيسين الروسي والبيلاروسي فلاديمير بوتين واليكسندر لوكاشينكو، بالإضافة إلى محاولة منع بيع أدوات الدين السيادية الروسية في الخارج والمقدرة حاليًا بأكثر من مائتي مليار دولار أمريكي، وأيضًا منع تصدير بعض المنتجات الصناعية والتكنولوجية إلى روسيا.

وإلى جانب كل ذلك، قامت أغلب الدول الغربية بإغلاق مجالاتها الجوية في وجه الطيران الروسي، وذلك لزيادة الضغط على حركة الاقتصاد الروسي؛ إذ تعتمد روسيا الاتحادية على صناعة الطيران في تأمين ما نسبته 1.8% من إجمالي الناتج المحلي للدولة، بقيمة تجاوز 22.6 مليار دولار سنويًا، ويسهم هذا القطاع في توفير ما يزيد على المليون فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، وهو ما يؤمن مصادر دخل 1.4% من قوة العمل المتاحة في الداخل الروسي.

الإغلاقات تتوالى

مع تصاعد العمليات العسكرية على الأراضي الأوكرانية على مدار الأيام الماضية، قامت 29 دولة غربية بفرض عمليات إغلاق أمام الطيران الروسي الراغب في عبور مجالاتها الجوية أو الهبوط في مطاراتها المحلية، وذلك في محاولة جادة لردع تحركات الآلة العسكرية الروسية على أراضي جارتها أوكرانيا، لكن عمليات الإغلاق تلك لم تتم دفعة واحدة، بل توالت بين يومي 25 فبراير و27 فبراير على شكل موجات من ردات الفعل الغربي تجاه ما يحدث في أوكرانيا.

  • يوم 24 فبراير 2022

كانت المملكة المتحدة أول من أغلقت مطاراتها أمام الطيران الوارد من دولة روسيا الاتحادية، ففي اليوم الذي أقدمت فيه تلك الأخيرة على اقتحام أوكرانيا، أعلنت سلطة الطيران المدني وقفها استقبال أي رحلات تشغلها شركة ايروفلوت Aeroflot والتي تعد الناقل الوطني في روسيا الاتحادية، وذلك بناء على قرار رئيس الوزراء الذي أعلنه بجلسة مجلس العموم البريطاني في ذات اليوم.

يوم 25 فبراير 2022

بدأت في هذا اليوم اثنتان من الدول الأوروبية وهما بولندا وبلغاريا حذو خطى المملكة المتحدة، لذلك أغلقت الدولتان المطارات المحلية أمام حركة الطائرات الروسية. وتعدت القرارات المتخذة ذلك الأمر إلى منع شركات النقل الجوي الروسية من استخدام المجلات الجوية الوطنية. ولقد كانت بولندا الأولى في إعلان قرارها حول هذا الشأن، فقد صرح رئيس الوزراء ماتيوس مورافيكي Mateusz Morawiecki عن نية بلاده غلق الأجواء البولندية أمام الطيران الروسي، وهو ما تم تنفيذه فعليًا في نهاية اليوم.

دولة بلغاريا كانت التالية، حيث أعلنت هي الأخرى عن نيتها منع عمليات الهبوط والإقلاع لحركة الطيران الروسي على مطاراتها، فضلًا عن إغلاق المجال الجوي الوطني في وجه الأخيرة فوق أراضيها بشكل كامل. ولقد نشرت وزارة النقل البلغارية في مساء ذات اليوم بيانًا رسميًا يوضح قرار الحكومة بهذا الصدد، ونوه البيان إلى أن تفعيل القرار لن يكون محل تنفيذ قبل صبيحة اليوم التالي.

  • يوم 26 فبراير 2022

اشتداد دعاوى الرأي العام الأوروبي الراغبة في وقف الاعتداء على دولة أوكرانيا حفز 6 من الدول الأوروبية إلى إغلاق مجالاتها الجوية في وجه الطيران الروسي، ولقد كانت البداية من دول البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وإستونيا التي أعلنت حكوماتها بشكل شبه متزامن عن اتخاذ قرارات بمنع حركة الطيران الروسي فوق أراضيها، وهو ما تسبب في قطع خطوط الطيران المباشرة بين روسيا وبين إقليم كلينينغراد اوبلاست Kaliningrad Oblast التابع لها، والواقع إلى الغرب من دول البلطيق الثلاث على الساحل الجنوبي الشرقي من بحر البلطيق.

سلوفينيا كانت التالية بعد دول البلطيق، حيث أعلنت حكومتها خلال أحد اللقاءات الصحفية قرارها إغلاق المجال الجوي الوطني في نفس اليوم أمام حركة الطيران الروسية، وأوضحت أن ذلك القرار سيظل قائمًا حتى زوال الأسباب التي أدت إلى اتخاذه، في إشارة إلى الاقتحام العسكري الروسي لدولة أوكرانيا. ولقد تلتها دولة رومانيا التي أعلنت هي الأخرى على لسان متحدث حكومتها الرسمي دان كاربونارو Dan Carbunaru عن وقوفها إلى جانب كافة دول وسط أوروبا في قراراتها ضد الجانب الروسي إثر الهجوم على أوكرانيا.

ولقد أتت التشيك في نهاية الدول التي تبنت موقفًا مماثلًا ضد حركة الطيران الروسي خلال ذلك اليوم، فقد أعلن وزير النقل في الحكومة التشيكية مارتين كوبكا Martin Kupka في تمام الرابعة عصرًا عن نية بلاده إغلاق المجال الجوي أمام شركات الطيران الروسية، موضحًا أن القرار سيبدأ تنفيذه خلال ساعات قليلة مع حلول منتصف الليل.

وكذا، بدأت مجموعة من شركات الطيران الأوروبية الكبرى في الإعلان عن تعليق رحلاتها المارة بالمجال الجوي الروسي، خاصة المتوجه منها إلى مناطق شرق آسيا، وكان في مقدمة تلك الشركات الخطوط الفرنسية Air France والخطوط الملكية الهولندية KLM، والخطوط الألمانية Lufthansa، والخطوط الفنلندية Finnair، وهو ما أعطى مؤشرًا على اقتراب الدول المالكة لتلك الشركات من إعلان الاغلاق أمام حركة الطيران الروسية المارة بها والمستخدمة لمطاراتها.

  • يوم 27 فبراير 2022

يعد يوم الأحد الماضي واحد من أصعب الأيام التي مرت بصناعة الطيران الروسية خلال تاريخها، ففي هذا اليوم أغلقت كافة دول القارة الأوروبية تقريبًا أجواءها أمام الطائرات الروسية، فبعد أن كانت التوقعات تشير إلى احتمالية إعلان كل من ألمانيا وفرنسا قراريهما بإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية باستثناء الطائرات المستخدمة في حالات الطوارئ، خرجت أورسولا فون دير لين Ursula Gertrud von der Leyen رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي لتعلن عن نتيجة اجتماع دول الاتحاد الأوروبي، معلنة موافقة كل دول الاتحاد الأوروبي على تفعيل حظر شامل بكافة المجالات الجوية لدول الاتحاد الأوروبي أمام الطائرات المملوكة أو المسجلة في روسيا الاتحادية أو حتى التي تديرها شركات روسية، وشمل القرار أيضًا جميع أنواع الطائرات سواء التجارية منها أو الخاصة المملوكة لرجال الأعمال، وحظر القرار على الطائرات الروسية الهبوط أو الإقلاع من المطارات الأوروبية تحت أي ذريعة.

ولقد حذت دولة آيسلندا غير العضو في الاتحاد الأوروبي حذو دول شمال أوروبا الواقعة تحت مظلة الاتحاد مثل النرويج والسويد والدنمارك، فقامت بإعلان إغلاق المجال الجوي امام الطائرات الروسية، فيما قامت كندا في ذات اليوم بإعلان حظر مماثل وفوري على كافة مشغلي الطائرات الروس، وذلك وفقًا لما أعلنه وزير المواصلات الكندي عمر الغبرة Omar Alghabra عبر حسابه على موقع توتر Twitter.

ولم تكن الولايات المتحدة ببعيدة عن المشهد حيث أعلنت شركة دلتا للطيران Delta Airlines عن قرارها بتعليق كافة أشكال التعاون مع الناقل الرسمي الروسي ايروفلوت Aeroflot، في ظل تكهنات شبه أكيدة بقرب إعلان الولايات المتحدة عن حظر شامل على حركة الطيران الروسية.

على الجانب المقابل، لم يكن لروسيا سوي خيار وحيد، وهو الإعلان عن إجراءات مماثلة ضد كل دولة أغلقت مجالاتها الجوية في وجه الطيران الروسي، بداية من المملكة المتحدة، مرورًا بدول الوسط الأوروبي، وصولًا إلى كافة دول الاتحاد الأوروبي وآيسلندا -انظر الخريطة التالية-، وأعلنت شركات الطيران الروسية العاملة على الخطوط الأوروبية مثل Aeroflot وA7 عن اضطرارها إلى إلغاء أغلب الرحالات الأوروبية إلى منتصف مارس القادم على أقل تقدير.

الدول الأوروبية التي أغلقت مجالاتها الجوية في وجه الطيران الروسي خلال الفترة 25-27 فبراير – المصدر: صحيفة الجارديان البريطانية

حجم صناعة الطيران الروسية

تمتلك روسيا الاتحادية وفق أحد التقارير التي أصدرتها وكالة الطيران الجوي الروسية ما مجموعه ثماني عشرة شركة طيران، وتمتلك البلاد أيضًا 235 مطارًا جويًا، بالإضافة إلى 6 مطارات خاصة بالمروحيات فقط. ويعد النقل الجوي عاملًا أساسيًا في ربط أقاليم البلاد المترامية مع بعضها البعض، إذ تبلغ مساحة الاتحاد الروسي 17 مليون كيلو متر مربع، وتمتد حدوده من المحيط الهادئ شرقًا إلى أوروبا الشرقية غربًا. وكذا، تحتاج روسيا إلى النقل الجوي في تحقيق الترابط مع أقاليم العالم الخارجي المختلفة، وفي مقدمتها غرب أوروبا وشرق آسيا.

وتقدر الإحصاءات الدولية دخول وخروج ما مجموعه 76.59 مليون مسافر دولي بشكل سنوي عبر المطارات الروسية، وتبلغ نسبة المسافرين المترددين بين المطارات الروسية والأوروبية أكثر من 68.14% من الإجمالي العام السابق ذكره، فيما تأتي مطارات شرق آسيا بعد المطارات الأوروبية في حجم تردد المسافرين، حيث تقدر نسبتهم بـ 28.48%، فيما لا تبلغ نسبة المسافرين إلى الوجهات الأمريكية والافريقية والشرق أوسطية أكثر من 3.37%.

ولقد استطاع قطاع الطيران الروسي على مدار السنوات الماضية من الوصول إلى 280 وجهة حول العالم، واستقبلت المطارات الروسية في عام 2018 ما يزيد على 700 ألف رحلة، تابعة لـ 135 مشغلًا جويًا دوليًا ومحليًا. ونجحت المطارات الروسية أيضًا في تحقيق اتصال مباشر مع 203 مطارات دولية موزعة داخل مجموعة من أكثر الدول نشاطًا في صناعة النقل الجوي –انظر الشكل التالي- إلى جانب ذلك تمكنت صناعة الطيران الروسية من التعاون مع العديد من الدول في تدشين العشرات من خطوط نقل البضائع جوًا، ولقد كان أبرز تلك الدول ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والصين وهونج كونج.

المصدر: تقريرThe importance of the air transportation to the Russian federation 2018، IATA

تأثيرات متوقعة

يُنتظر أن تؤدي قرارات إغلاق المجالات الجوية الغربية امام الطائرات الروسية إلى حدوث عدد من الأضرار لصناعة الطيران الروسية على المديين القريب والمتوسط؛ فعمليات الإغلاق ستضطر الطائرات الروسية إلى تجنب استخدام المسارات التقليدية في حال رغبت في الوصول إلى عدد من الوجهات البعيدة مثل شمال غربي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، إذ ستتقاطع تلك المسارات مع المجالات الجوية لكل من أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو ما سيؤدي على المدي القريب إلى تضاعف تكاليف الوقود نظرًا لطول المسافات المقطوعة.

وستؤدي قرارات الإغلاق كذلك إلى وقوع صناعة الطيران الروسية في أزمة متوسطة المدى، متشابهة مع تلك التي وقعت إبان اندلاع جائحة كورونا عام 2020، والتي فقدت صناعة الطيران الروسية بسببها 30% من إجمالي اعداد المسافرين جوًا، وهو ما أحدث انخفاضًا في عائدات قطاع الطيران بنسبة قاربت على 38%.

ومن المتوقع أن تتسبب الأزمة الحالية في إفلاس العديد من شركات الطيران الروسية، فهي لا زالت تكافح إلى الآن كي تتعافى من آثار أزمة كوفيد-19 الأولى. وستؤدي تلك الأزمة إلى فقدان الأسطول الجوي الروسي لأكثر من 70% من جملة طائراته العاملة، وذلك لعدم قدرة الشركات الروسية المشغلة لتلك الطائرات على تسديد الالتزامات المالية المقررة لصالح المؤسسات الدولية والمحلية المالكة لتلك الطائرات، والتي تؤجرها للشركات الروسية نظير مقابل مادي متفق عليه.

الجانب الأوروبي لن يسلم هو الآخر من القرارات المضادة التي أطلقتها روسيا كرد فعل؛ إذ ستؤدي قرارات الإغلاق الجوي الروسي إلى حرمان كافة شركات الطيران الأوروبية من اتخاذ المسارات الجوية المعروفة والرابطة مع دول شرق آسيا، ليضطرها ذلك إلى اتخاذ مسارات بديلة أكثر طولًا وكلفة. ومثال على ذلك الزيادة التي ستسجل في مسافات الرحلات المقطوعة بين وسط ألمانيا إلى شرق الصين والتي ستصل إلى 9400 كم بواقع زيادة أكثر من 1000 كم، وأيضًا من وسط ألمانيا إلى جرز اليابان والتي ستجاوز 11300 كم، بزيادة قدرها 2000 كم عن الطريق الجوي العادي المستخدم والمعروف بطريق سيبيريا.

وهنا ننوه إلى أن تداعيات الأزمة بدأت في إلقاء ظلالها على الشركات الأوروبية التي أعلن عدد منها بالفعل منذ يوم 27 فبراير عن تعليق كافة الرحلات الجوية المتجهة إلى الصين واليابان وسنغافورة، نظرًا إلى انعدام الجدوى الاقتصادية من تشغيل تلك الرحلات، وهو ما تسبب في تعطل الآلاف من المسافرين. وكذا، تسجل المطارات الأوروبية الآن خسارات يومية نتيجة لاختفاء 600 رحلة جوية يومية من قوائم التشغيل، إذ كانت تمر تلك الرحلات عبر المجال الجوي الروسي، لذلك تم وقفها بشكل مؤقت.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67787/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M