يشمل التحول الطاقي في كلا البلدين استمرار الحاجة إلى الوقود الأحفوري مع التركيز بشكل أكبر على الحد من الانبعاثات – وذلك رغم أن الرياض تأمل في تصدير “جميع أشكال الطاقة” في المستقبل، في حين تسعى أبوظبي إلى تحقيق تقدم نووي لتلبية الطلب على الطاقة.
خلال المؤتمر السنوي الذي انعقد تحت عنوان “مبادرة مستقبل الاستثمار” في السعودية بتاريخ 29 أكتوبر/تشرين الأول، سلط وزير الطاقة عبد العزيز بن سلمان الضوء على خطط المملكة لاعتماد مصادر منخفضة الكربون ومصادر الطاقة المتجددة مع الحفاظ على “الريادة ” في قطاع النفط. ويعد المؤتمر رفيع المستوى، المعروف باسم “دافوس الصحراء”، من أبرز الفعاليات التي تُظهر أن الدول الإقليمية المؤثرة تعطي أولوية متزايدة للنمو الاقتصادي وتنويع مصادر الطاقة، وهي عملية طويلة الأمد تستدعي استقرارًا جيوسياسيًا لتحقيق أقصى قدر من الفعالية.
تعد منطقة الخليج العربي من بين أكثر المناطق الجافة والقاحلة في العالم، الأمر الذي يجعلها عرضة للتأثر بظاهرة تغير المناخ. وقد استثمرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى في التقنيات المتقدمة لخفض الانبعاثات تدريجيًا وتلبية الطلب المستقبلي على الطاقة من مصادر متنوعة. وعليه، لا يمكن تجاهل أهمية متابعة التحول في مجال الطاقة للتصدي للتغير المناخي عند صياغة السياسة تجاه الشرق الأوسط، حتى في أوقات الحرب. استثمرت واشنطن بشكل مكثف في هذا التحول خلال السنوات الماضية، وستتمكن إدارة دونالد ترامب الجديدة من الاستفادة من فرص إضافية لتعميق شراكات الطاقة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، يجب أن يدرك المسؤولون الأمريكيون أن الوقود الأحفوري لا يزال عنصرًا محوريًا في خطط دول الخليج الانتقالية في مجال الطاقة، التي تركز في الوقت الحالي على تقليل الانبعاثات بدلاً من خفض إنتاج النفط والغاز.
مشهد الطاقة المتغير
في عالم لا يزال يعتمد بشكل كبير على المواد الهيدروكربونية، تساهم صادرات النفط من الخليج بحوالي 35% من إجمالي الصادرات العالمية المنقولة بحراً، إضافة إلى 20% من تجارة الغاز الطبيعي المسال. هذه هي عدسة الطاقة التقليدية التي يُنظر من خلالها إلى المنطقة. ومع ذلك، وفي حين أن هذه النظرة لا تزال صحيحة إلى حد بعيد، إلا أنها تغفل الجهود المتزايدة التي يبذلها بعض كبار المنتجين لإعادة تشكيل قطاعات الطاقة لديهم، حيث يعملون تدريجيًا على تبني مصادر وتقنيات مبتكرة تساهم في خفض الانبعاثات، مع الحفاظ على استثماراتهم القائمة في النفط والغاز. ولتحقيق هذا التحول بشكل كامل، لا تحتاج دول الخليج إلى تمويل كبير وشراكات فحسب، بل تحتاج أيضًا إلى تعزيز مستوى الاستقرار الإقليمي.
وفي سياق اتفاقية باريس لعام 2016، تعمل الدول في جميع أنحاء العالم على الحد من الاحتباس الحراري والتصدي للآثار السلبية لتغير المناخ. ولتحقيق هذه الأهداف، يلزم اتخاذ مزيد من الإجراءات للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وخاصة ثاني أكسيد الكربون والميثان. ويتمثل الهدف الحالي في خفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول نهاية هذا العقد، والوصول إلى صافي صفر بحلول عام 2050. ويرى بعض المراقبين أن تحقيق هذا الهدف ومعالجة أزمة المناخ يتطلب من الدول وقف الاستثمارات الجديدة في مجال النفط والغاز والفحم. ومع ذلك، تؤكد المملكة العربية السعودية، التي تُعد إحدى أكبر منتجي النفط في العالم وتأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة منذ عام 2023، أن عملية التحول الطاقي يجب أن تشمل جميع أشكال الطاقة، بما في ذلك الوقود الأحفوري.
الاتجاهات الرئيسية في عملية التحول في المملكة العربية السعودية
تقوم استراتيجية الرياض للتحول في مجال الطاقة على ثلاث ركائز رئيسية: تعزيز كفاءة الطاقة، تنويع مزيج الطاقة، وإدارة الانبعاثات. ويتمثل هدفها في الانتقال من تصدير النفط بشكل حصري إلى تصدير جميع أشكال الطاقة، وفقاً لما أشار إليه الأمير عبد العزيز في مؤتمر الشهر الماضي. ويمكن أن تشمل الصادرات الجديدة الهيدروجين النظيف المنتج باستخدام مصادر الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى الوقود الأحفوري المقترن بتكنولوجيا التقاط الكربون للحد من الانبعاثات.
من وجهة نظر الرياض، بدأ التحول الطاقي في سبعينيات القرن الماضي، عندما نفذت المملكة مشروع “شبكة الغاز الرئيسة” لالتقاط واستخدام الغاز الطبيعي المصاحب للنفط الخام بدلاً من حرقه. بحسب شركة أرامكو للطاقة المملوكة للدولة، ساعد هذا النظام على تقليل الانبعاثات من خلال استخدام الغاز المصاحب في توليد الطاقة ودعم صناعات البتروكيماويات والتكرير، إلى جانب قطاعات أخرى.
علاوة على ذلك، تتوقع المملكة أيضًا أن تساهم مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية بنحو 50% من إجمالي قدرتها على توليد الكهرباء بحلول عام 2030. وقد زادت حصة مصادر الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء منذ عام 2022، على الرغم من أن قطاع الطاقة لا يزال يعتمد على الوقود الأحفوري. ويعتقد السعوديون أيضًا أن الغاز الطبيعي سيستمر في لعب دور رئيسي في المستقبل. وقد ناقش بعض المراقبين ما إذا كان للغاز مكان في التحول الطاقي العالمي، غير أن المؤيدين يجادلون بأنه أقل تلويثًا من أنواع الوقود الأخرى. وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، يتيح الغاز للسلطات السعودية من الحد من حرق النفط الخام المباشر لتوليد الطاقة وذلك في محاولة لإزاحة الوقود السائل من قطاع الطاقة في المستقبل.
وبناءً على ذلك، تستثمر المملكة في إنتاج المزيد من الغاز بهدف أن تصبح مُصدر رئيسي للغاز الطبيعي المسال في المستقبل. وتعتبر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح مصادر متقطعة بطبيعتها، وتتطلب تقنيات متطورة لتخزينها. وإلى أن يتم توسيع نطاق هذه التقنيات، سيستمر الاعتماد على محطات الطاقة التقليدية (بما في ذلك المحطات التي تعمل بالغاز).
وباعتبارها أكبر مصدر للنفط في العالم، عارضت المملكة العربية السعودية التوقعات الصادرة عن منظمات مثل وكالة الطاقة الدولية التي ترى أن الطلب على النفط سيتراجع خلال السنوات القليلة المقبلة ليصل إلى ذروته بحلول عام 2030. وفي تقرير (توقعات النفط العالمية) لعام 2050، طرحت منظمة “أوبك” بقيادة السعودية وجهة نظر مغايرة، حيث توقعت أن يصل الطلب العالمي إلى 112.3 مليون برميل يوميًا في عام 2029، ليرتفع إلى 120.1 مليون برميل يومياً في عام 2050، مقارنة بـ 102.2 مليون برميل يومياً في عام 2023.
وقد دفعت هذه النظرة المتفائلة الرياض إلى المراهنة بقوة على قطاع البتروكيماويات، المشتقة من مكونات النفط والغاز الطبيعي والتي تدخل في تصنيع منتجات مثل البلاستيك والأجهزة الكهربائية وحتى الألواح الشمسية. وإلى جانب مشاريع الإنتاج المحلية، تتجه المملكة نحو عقد صفقات كبيرة لتحويل النفط إلى كيماويات مع شركات في الصين التي تعد أكبر عملائها للنفط وأهم مستورد للنفط في العالم.
وتشكل عائدات النفط مصدرًا محوريًا لتمويل التحول الاستراتيجي في قطاع الطاقة والتنويع الاقتصادي، وهما ركيزتان جوهريتان في رؤية المملكة العربية السعودية 2030. وقد انخفضت عائدات النفط السعودية في آب/ أغسطس بنسبة 6 في المئة مقارنة بشهر يوليو، لتصل إلى 17.4 مليار دولار، وهو أدنى إجمالي شهري منذ يونيو 2021. وفي ظل تراجع الطلب على النفط، تواصل “منظمة أوبك بلس” (وهي نسخة موسعة من المجموعة التي تضم منتجين آخرين للنفط مثل روسيا) تقليص الإنتاج لمنع تدهور الأسعار أكثر من ذلك. وتشير توقعات صندوق النقد الدولي الأخيرة إلى أن متوسط سعر النفط سيبلغ لعام 2024 81.29 دولاراً للبرميل، قبل أن ينخفض إلى 72.84 دولاراً في عام 2025
الإمارات العربية المتحدة تتوسع في مصادر الطاقة المتجددة والنووية
يشهد قطاع الطاقة تحولاً ملحوظاً في دولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة بعد استضافتها “مؤتمر الأمم المتحدة المعنى بتغير المناخ” (COP28) العام الماضي. وضمن دول مجلس التعاون الخليجي – البحرين والكويت وعُمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة – يتركز الاعتماد على الطاقة المتجددة في قطاع الطاقة. وحسب “الوكالة الدولية للطاقة” المتجددة (IRENA)، تتصدر الإمارات العربية المتحدة هذه المبادرة، بتحديدها هدفاً طموحاً لتوليد 30 في المئة من احتياجاتها من الطاقة النظيفة بحلول عام 2030.
تلعب الطاقة النووية دورًا محوريًا في دعم عملية التحول الطاقي في دولة الإمارات العربية المتحدة. إذ تعتبر الحكومة أن اعتماد الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة أمر ضروري لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة وتقليل الانبعاثات. ففي عام 2020، تم ربط الوحدة الأولى من محطة “براكة ” للطاقة النووية في أبو ظبي بالشبكة، وفى شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، بدء تشغيل الوحدة الرابعة والأخيرة تجارياً، وأصبحت محطة “براكة” قادرة على توليد ما يصل إلى 25% من احتياجات الدولة من الكهرباء.
وبشكل عام، نجحت أبو ظبي في توليد 40% من طاقتها الكهربائية من مصادر الطاقة النووية والمتجددة اعتباراً من أذار/مارس الماضي- ما أسهم في خفض استهلاك الغاز الطبيعي. ومن ثم تعد الطاقة النووية المحرك الرئيسي لهذا التحول حيث تحظى باهتمام كبير في جميع أنحاء العالم، وتعمل شركات التكنولوجيا الفائقة، لا سيما في الولايات المتحدة، على إيجاد مصادر طاقة أنظف لتزويد مراكز البيانات بالكهرباء الموثوقة التي تحتاجها دون انقطاع.
تم مؤخرًا استكشاف التعاون بين قطاعي التكنولوجيا الفائقة والطاقة النظيفة في دولة الإمارات العربية المتحدة من قبل شركة “مايكروسوفت”، وشركة “مصدر” الإماراتية للطاقة المتجددة، وشركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) المملوكة للدولة. وفي 31 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نشرت الشركات الثلاث تقريرًا مشتركًا بعنوان “الطاقة الممكنة”، يركز على السبل المبتكرة التي يمكن للذكاء الاصطناعي من خلالها المساعدة في دعم الجهود العالمية لتوسيع قدرة الطاقة المتجددة، وزيادة كفاءة الطاقة، وتلبية الطلب المتزايد على الطاقة، وتعزيز اعتماد تقنيات “خالية من الكربون” بحلول عام 2030.
تعزيز الشراكات الأمريكية
خلال كلمة ألقاها في قمة “سيمافور” للاقتصاد العالمي في 25 أكتوبر، صرح كبير مستشاري الطاقة الأمريكي، آموس هوكشتاين: ” إن معظم دول العالم، تنظر إلى نفسها وإلى العالم من منظور الاقتصاد والازدهار “. وأشار إلى أن منطقة الخليج تتمتع بفرص واعدة لتحقيق النمو والابتكار من خلال شراكاتها الحالية في قطاع الطاقة مع الولايات المتحدة.
ولتعزيز الطاقة النظيفة في المنطقة، أطلقت واشنطن بالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة “مبادرة الشراكة الرامية لتسريع الطاقة النظيفة” (PACE) في عام 2022، لجذب 100 مليار دولار من التمويل والاستثمار وغير ذلك من أشكال الدعم مع دعم نشر 100 جيجاوات من الطاقة النظيفة على مستوى العالم بحلول عام 2035. وقد أطلقت الحكومتان أيضًا مبادرات لتشجيع وتمويل ودعم استثمارات الطاقة النظيفة في الاقتصادات الناشئة والبلدان منخفضة الدخل (على سبيل المثال، مبادرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “الطاقة في أفريقيا”). ومن الأفضل لإدارة ترامب القادمة أن تعمل على توسيع نطاق هذه المبادرات، التي استفاد منها أيضًا شركاء الولايات المتحدة.
حافظت الشركات الأمريكية الكبرى في المملكة العربية السعودية على وجود طويل الأمد في قطاع الهيدروكربونات، بما في ذلك التنقيب والإنتاج والبتروكيماويات والدعم التكنولوجي والبنية التحتية للطاقة. في المستقبل، ستتاح المزيد من الفرص للشركات الأمريكية كجزء من جهود المملكة لتطوير منتجات منخفضة الكربون (على سبيل المثال، توفير تقنيات لالتقاط الكربون). وترى شركة “أرامكو” أن احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS) سيلعب دورًا رئيسيًا في الجهود العالمية لخفض الانبعاثات؛ ولتحقيق هذه الغاية، تخطط الشركة لإنشاء “أحد أكبر مراكز احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه في العالم” في منطقة الجبيل الصناعية مع شركاء من بينهم شركة ” SLB” الأمريكية لخدمات حقول النفط. والواقع أن الشركات الأمريكية رائدة في تطوير هذه التكنولوجيا.
وتشير مثل هذه المبادرات إلى ضرورة توسيع نطاق التعاون الأمريكي في مجال التحول الطاقي مع هاتين الدولتين الخليجيتين – مع الأخذ في الاعتبار أن هذه العملية ستُعيد حتمًا تشكيل الخريطة الجيوسياسية. كما ينبغي أن تركز الجهود على الطاقة النووية، واحتجاز الكربون، وتقنيات الهيدروجين، وأمن سلاسل إمدادات تحول الطاقة. وتفيد التقارير أن الإمارات العربية المتحدة تستكشف خيار بناء منشأة ثانية للطاقة النووية بالإضافة إلى محطة “براكة “، بينما تأمل المملكة العربية السعودية في تصدير منتجات نظيفة يمكن أن تمكن من إزالة الكربون من الصناعات التي يصعب الحد منها (مثل إنتاج الحديد والصلب). ومع ذلك، في نهاية المطاف، سيتطلب تسهيل عملية التحول الطاقي على نطاق واسع وتحقيق تعاون فعّال لمواجهة ظاهرة التغير المناخي – التي تعترف جميع الأطراف بأنها تهديد مضاعف – أن تواصل واشنطن العمل على الشرط الأساسي المعقد المتعلق بدعم الاستقرار الإقليمي.