الدرس الأوكراني.. ماذا يريد فلاديمير بوتين من الغرب؟

إيهاب عمر

 

بينما يعقد قادة الاتحاد السوفيتي الترتيبات الأخيرة لتفكيك الوحدة السوفيتية عام 1990، كان ضابط المخابرات السوفيتية فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين قد عاد للتو من مدينة درسدن عاصمة ولاية ساكسونيا بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) التابعة للاتحاد السوفيتي، حيث قضى الضابط الشاب خمس سنوات ما بين عامي 1985 و1990 في مهمة ناجحة لمنع تسلسل المعسكر الغربي إلى “ألمانيا السوفيتية”.

نجح بوتين ونجحت المخابرات، ولكن فشل الساسة وجنرالات الكرملين في الحفاظ على الدولة. ومع حلول عام 1991 تم الإعلان رسميًا عن انهيار وتفكيك الاتحاد السوفيتي، وشهد بوتين وملايين الروس الوطنيين العشرات من المدن والقرى والأقاليم الروسية وهي تستقل عن الاتحاد السوفيتي تحت مسمى “الجمهوريات السوفيتية سابقًا”.

من غرائب الأيديولوجيا الشيوعية وأفكار البلاشفة السوفييت أنهم ضد فكرة الدولة القومية، ولكن مع الاشتراكية الدولية، ومع ذلك فهم أيقظوا وصنعوا عشرات القوميات المزيفة داخل الاتحاد السوفيتي وقسموا روسيا القيصرية إلى جمهوريات قابلة للاستقلال في أي لحظة!

كان يمكن للضابط الشاب أن يفعل كما فعل الآلاف من الروس وقتذاك الذين هاجروا من العالم الروسي إلى الحلم الأوروبي والحلم الأمريكي أو حتى إلى الخليج العربي، أو العناصر العسكرية والأمنية التي انخرطت في المافيا الروسية التي انتعشت عقب انتهاء الحرب الباردة، وصولًا إلى شبكات الجريمة المنظمة وشبكات الدعارة الدولية والرقيق الأبيض التي استعبدت المئات من النسوة الفقيرات من كافة الجمهوريات السوفيتية.

ذلك أو الذهاب مرفوع الرأس إلى ألمانيا الاتحادية، وتسليم ما لديه من معلومات استخباراتية. ونظرًا لإتقانه اللغة الألمانية يمكنه ان يبدأ من جديد في ألمانيا ومن داخل المخابرات الألمانية، إذ إن أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأمريكية قد فتحت أذرعها وقتذاك للضباط المنشقين عن الــ KGB، واستُقبلوا استقبال الأبطال وأغدقوا عليهم بالمال وملذات الدنيا مقابل أسرار الاتحاد السوفيتي.

ولكن العقيد (الكولونيل) فلاديمير بوتين الذي ينتمي لأسرة عسكرية رفض كافة الخيارات السهلة، لأنها رخيصة، وقرر خوض الاختيار الصعب، ألا وهو العمل مع الباقة المتبقية من رجالات المخابرات السوفيتية على هدف واحد فحسب، تصحيح أخطاء الدولة الروسية وإعادة الإمبراطورية الروسية للحياة مرة أخرى.

عمل لفترة سائقًا على عربة أجرة (تاكسي) وذلك عقب عودته إلى مدينة سان بطرسبرج مسقط رأسه، وانخرط في العمل السياسي بالمدينة، وجذب إليه أنظار الرئيس بوريس يلتسن، فانتقل إلى موسكو عام 1996. وفى 31 ديسمبر 1999 خرج الرئيس المسن في خطاب عاطفي يعلن تنحيه عن السلطة وتسليمها إلى رئيس الوزراء الجديد فلاديمير بوتين.

لم يكن بوتين سوفيتي الهوى، أو من حاشية يلتسن، وإن أدرك أن طريق الوصول إلى الكرملين يبدأ بكسب ثقة يلتسن وإعطائه الأمان هو وحاشيته مقابل خروجه الآمن. عاشت روسيا حقبة من الاضمحلال السوفيتي في سنوات ميخائيل جورباتشوف، ثم عشرية الاضمحلال النيوليبرالي في سنوات بوريس يلتسن. كادت روسيا في سنوات الأخير أن تتقسم على نفس طريقة الاتحاد السوفيتي ويخرج من روسيا الاتحادية عشرات المدن والقرى والأقاليم تحت مسمى “الجمهوريات الروسية سابقًا”.

لا يسعى بوتين إلى إعادة الإمبراطورية الروسية من أجل مجد قومي أو وطني، أو ثأر الإمبراطورية، ولكن لان الغرب في الأساس لم يترك لروسيا خيارًا آخر؛ إذ كان الاتفاق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية أن الغرب لن يضم أيًا من دول ما خلف جدار برلين أو الكتلة الشرقية إلى حلف الناتو أو أي اتحاد أوروبي مستقبلي، ولكن الغرب خان الاتفاق، وعلى مدار خمس دفعات تم ضم أغلب دول البلقان وأوروبا الشرقية والوسطى والشمالية والبلطيق إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

هذه الدول التي يُطلق عليها إعلاميًا الكتلة الشرقية سابقًا، أو أعضاء حلف وارسو سابقًا، أو حتى جمهوريات سوفيتية سابقًا، هي في واقع الأمر ومئات السنين كانت جزءًا لا يتجزأ من روسيا، وهذه هي نظرة أي روسي وطني لتلك المناطق التي يرى أنها اغتُصبت من روسيا بسبب السياسات الشيوعية ثم النيوليبرالية الخاطئة.

ولم يكتفِ الغرب باستثمار الانهيار السوفيتي وضم كافة الدول الروسية – السوفيتية إلى نظامه الإقليمي الجديد، ولكن الغرب عمل أيضًا على استثمار الانهيار المجتمعي والأخلاقي الروسي على مدار سنين، وتنمية المافيا وشبكات الفساد والأوليجاركية الروسية، وأخيرًا دبّر الغرب تمرد مسلمي روسيا في الشيشان وداغستان في محاولة لتكرار “النموذج الأفغاني” داخل روسيا هذه المرة.

هكذا فهم بوتين ورفاقه أن الغرب لن يترك روسيا في حالها، وسيواصل تصدير المشاكل داخل روسيا، وفى محيطها، ويكسبون الدول الروسية سابقًا حتى يصلوا بحلف الناتو على حدود روسيا، ثم يتم تعيين نظام روسي موالٍ للغرب، وهكذا تختفي روسيا التاريخية من الوجود، ويتم إنتاج روسيا أليفة نيوليبرالية منزوعة السلاح كما لو كانت مجرد ولاية أمريكية أو ألمانية لدى الغرب.

وعلى مدار سنوات، أعاد بوتين بناء الدولة الروسية مرة أخرى، ليصبح مؤسس الدولة الروسية الثالثة، فلم يخجل من نقد الحقبة الشيوعية الاشتراكية البلشفية علنًا، ومن نقد تهميش البلاشفة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ومن هدم القومية الروسية والفكر الوطني الروسي والرابطة السلافية بين الشعوب السلافية حول العالم.

ورد الغرب بحرب الثورات الملونة في المحيط الروسي، ثم حروب الجوار الروسي، وكانت روسيا تنتصر في حرب تلو الأخرى وثورة تلو الأخرى. وأسقط بوتين الدستور النيوليبرالي الذي يقيد الدولة بولايتين كل منهما أربع سنوات لرئيس الدولة، وأنهى فوضى الفساد وأعاد الهيبة لرجل الدولة والقانون والجيش والشرطة، وأنهى نفوذ بعض حكام الجمهوريات والمقاطعات التي كادت أن تنفصل في سنوات بوريس يلتسن.

ولم تكن أوكرانيا 2022 هي أولى حروب روسيا في رحلة استعادة أمنها والدفاع عن الخطر الغربي المرتقب، ولكن نجاح بوتين في عامه الأول في إنهاء حرب الشيشان الثانية ورسالته للغرب أن روسيا استوعبت درس “الجهاد الإسلامي” ولن يتم تطبيقه مرة ثانية بوجه موسكو، كانت رسالته الأهم إلى جانب تفكيكه جماعات الإسلام السياسي في عموم روسيا، وحظره لكافة الجماعات السرية وعلى رأسها “الماسونية”، والطوائف المسيحية واليهودية السرية التي تحاول هدم الكنيسة الروسية مثل “شهود يهوه”، ثم حرب جورجيا الخاطفة عام 2008 والتي تم تأديب جورجيا عبرها حتى لا تذهب إلى ما ذهبت إليه أوكرانيا اليوم.

وراح ضباط وجنرالات الكرملين ينتشرون في الجمهوريات الروسية السابقة لإجهاض الثورات الملونة في قيرغيزستان وبيلاروسيا، وإنهاء محاولة تفجير الفوضى بوجه روسيا انطلاقًا من حرب أرمينيا – أذربيجان عام 2020 والأزمة الحدودية بين بولندا وبيلاروسيا عام 2021، ثم العملية العسكرية الروسية المحدودة في كازاخستان أوائل عام 2022 والتي أسقطت محاولة الغرب صناعة أفغانستان ثانية بوجه روسيا.

وفشل الانسحاب الغربي من أفغانستان في 11 سبتمبر 2021 في تفجير أفغانستان بوجه روسيا مرة أخرى، حيث كان للروس ترتيبات مع الحركات الأفغانية، وأرسل بوتين قوات إلى طاجكستان، الجمهورية الواقعة بين روسيا وأفغانستان، للحيلولة دون حدوث أي تداعيات داخل طاجكستان فور الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

وكانت الخطوة الأهم في سنوات الربيع العربي هي التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية عام 2015، وبعد أن كان النظام السوري يسيطر على 10% من أراضي سوريا فحسب، أنقذ بوتين فكرة الدولة الوطنية السورية، وأسقط خيار تحويل سوريا إلى إمارة إسلامية.

إقليميًا، تلعب روسيا دورًا كبيرًا في صعود دول إقليمية، مثل كوريا الشمالية وإيران، وحتى حينما يبدأ الخلاف بين تركيا والغرب يسارع بوتين إلى تجنيد هذا الخلاف لصالح إرهاق واستنزاف الدول الغربية.

ومع تخلص الغرب من حقبة دونالد ترامب، بدأت العُدة الغربية لمعركة الحسم؛ إذ إن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو يعني وصول حلف الناتو إلى كييف التي تعد إحدى العواصم التاريخية للدولة الروسية الأولى، وأن تصبح القوات الغربية مطلة على غرب روسيا وجناحها الأوروبي، وتجد قوات الناتو موضع قدم في مياه البحر الأسود.

ومما لا شك فيه أن الغرب قد نصب فخًا لروسيا في أوكرانيا وذلك طيلة عام 2021، وهو ما اتضح في خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن عقب اندلاع الحرب؛ إذ أوضح أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعمل على تحالف دولي لفرض عقوبات دولية على روسيا منذ فترة طويلة، وذلك حال غزوها أوكرانيا.

ومع ذلك فإن كافة المؤشرات توضح أن بوتين رغم تفهمه أن أوكرانيا فخ، إلا أنه يجب أن ينقلب السحر على الساحر، لأن روسيا تخوض حرب وجود حقيقية؛ إذ إنه لو وصل حلف الناتو إلى أوكرانيا فهذا يعني نهاية الأمن القومي الروسي، وتفكيك المجال الحيوي الروسي أو مصطلح العالم الروسي الذي يستخدمه الرئيس الروسي منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا عام 2013.

أوكرانيا.. حرب ما بعد الحداثة

إن الحرب الأوكرانية التي اندلعت الخميس 24 فبراير 2022 هي حرب من نوع جديد، الحروب الحداثية أو حروب ما بعد الحداثة، حيث للحرب تداعيات أيديولوجية واقتصادية وجيوسياسية أكبر من النتائج المباشرة في ميادين القتال.

ومع مرور أربعة أيام على بدء الحرب، ورغم أن الجيش الروسي لم يستطع إسقاط أي من مدن أوكرانيا الكبرى، إلا أن فكرة إسقاط عاصمة أوروبية في أقل من أربعة أيام حتى لو كانت أوكرانيا هي فكرة خيالية، بينما في واقع الأمر حقق بوتين في الأيام الأربعة الأولى العديد من النتائج الإيجابية حيال بنك أهدافه في الأزمة وتشمل:

1 – سقوط الحلم الأوروبي: إن الكثير من الجمهوريات الروسية والسوفيتية السابقة تضم نخبًا منذ الثمانينات وحتى اليوم تبشر بحلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأن الاتحاد الأوروبي سوف يدفع بالحياة العامة إلى مصاف الدول المتقدمة.

وعلى ضوء حقيقة أن الغرب فشل في إدارة أوكرانيا منذ عام 2014، وتركها مقسمة ومنقسمة، ثم فشل في بناء جيشها وفشل في ردع روسيا عن بدء الحرب، إضافة إلى عدم تقديم الغرب لأي من المساعدات الاقتصادية التي وعد بها أصحاب الهوى الأوروبي منذ عام 2014 لليوم، وأخيرًا عدم بت الغرب في مطلب أوكرانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

كافة تلك الأسباب جعلت النخب في العديد من دول الكتلة الشرقية يطلقون خلال الساعات الأخيرة مناقشات ثقافية جريئة عن الحلم الأوروبي، وكيف أن الاتحاد الأوروبي والغرب خذل أوكرانيا واستغلها في وجه روسيا فحسب. في حين أن روسيا لم تفرط يومًا في أمن حلفائها، كازاخستان وبيلاروسيا وقيرغيزستان وأرمينيا وأذربيجان وسوريا.

2 – سقوط حلف الناتو: رغم أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، إلا أن شعوب الكتلة الشرقية بل وشعوب الغرب أيضًا لن تلتزم بالحسابات السياسية، ولن تغفر لحلف الناتو أنه وقف أمام مشاهد الغزو الروسي لأوكرانيا دون التحرك، أو أن حلف الناتو لم يستطع أن يردع أو يرهب روسيا عن القيام بهذه الخطوة.

إن فاعلية حلف الناتو في العصر الراهن موضع نقاش معقد في الغرب. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبق وأن صرح بأن حلف الناتو بشكله الراهن قد انتهى، ولكن البعض ذهب بالقول إن التصريح الفرنسي متسق مع الشكوك الفرنسية التاريخية في جدوى حلف الناتو، وهي شكوك الرؤساء شارل ديجول وجاك شيراك.

ولكن مع الحرب الجديدة وما جرى في بيوت السياسة الغربية من استعادة لتصريحات ومواقف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول عدم فاعلية حلف الناتو وتداول تلك التصريحات المسجلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كلها شواهد على أن حلف الناتو قد سقط وخسر هيبته داخل المجتمعات الغربية.

ولعل هذا الهدف هو أهم ما أنجزه الهجوم الروسي في يومه الأول علي أوكرانيا؛ إذ عادة ما كان يتحدث منظرو الحلم الأوروبي أن للغرب حلف قوي سوف يحميهم من أي تداعيات، واليوم يتساءل الاعلام الروسي عن جدوى الانتساب إلى الحلم الأوروبي، بينما لا الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو قد قبلوا أوكرانيا أو ساعدوها أو حتى دافعوا عنها بشكل جاد. هذا التفكيك لأيديولوجيا “الحلم الأوروبي” في المجتمعات الروسية والسلافية والسوفيتية واليوغوسلافية السابقة هو انتصار أيديولوجي مهم للغاية لروسيا في أول أيام الحرب.

3 – إحياء فكرة الوحدة الروسية: في خطابه التاريخي يوم 21 فبراير 2022، والذي يعد أهم خطاب من قلب الكرملين منذ عام 1991، قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأصيلًا فكريًا ومعرفيًا لفكرة القومية الروسية والجذور الروسية والوحدة الروسية بين دول المجال الحيوي الروسي والجمهوريات الروسية والسوفيتية واليوغوسلافية السابقة.

هذا التأصيل الفكري عمليًا قام بإحياء فكرة الوحدة الروسية مرة أخرى، خصوصًا أنه أعقبه اعتراف بجمهوريتي شرق أوكرانيا، على اعتبار أنهم مواطنين روس يطالبون المساعدة، وقد سبق ذلك أن اعترفت روسيا عام 2008 بجمهوريتين استقلتا عن جورجيا أيضًا.

4 – سقوط النظام العالمي: عقب تفكيك الاتحاد السوفيتي، عانى العالم من نظام عالمي أحادي القطب، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الوحيدة على الساحة الدولية، بينما تتعافى روسيا وأوروبا من آثار الحرب الباردة، وتتعثر النمور الآسيوية في مشروعها الاقتصادي، وتختار الصين الصعود البطيء الواثق بدلًا من القفزات السريعة التي يتبعها تراجع في القوة الاقتصادية كما جرى للنمور الآسيوية.

وشهدت حقبة الحرب على الإرهاب تراجعًا في الدور الأمريكي وصعود ألمانيا وفرنسا وروسيا حينما رفضوا الحرب الأمريكية على العراق عام 2003. وبحلول عام 2013 تخلص العالم من فكرة القطب الأوحد، وبدأت تظهر قوى دولية وإقليمية لتصنع توازنًا مع الغرب.

قامت ثورة 30 يونيو 2013 المصرية التي أسقطت المشروع الأمريكي لدول الربيع العربي، وصمدت سوريا وانتصرت في معركة القصير (19 مايو 2013 – 5 يونيو 2013)، وأعلنت الصين في العام ذاته عن مبادرة الحزام والطريق أو مشروع طريق الحرير الثاني، ومنعت روسيا قيام إدارة باراك حسين أوباما بعمل عسكري ضد سوريا. وهكذا أصبح واضحًا أن روسيا والصين قد صعدتا إلى مصاف الدول العظمى، بينما هناك قوى جديدة في مصاف الدول الإقليمية الكبرى على رأسها مصر.

هذه الحالة التي جرت ما بين عامي 2013 و2022، قد بلغت الفصل الأخير عشية الحرب الأوكرانية؛ إذ إن قيام روسيا بالحرب وكسر الإرادة الغربية خاصة الأمريكية يعني الإعلان الرسمي عن سقوط مرحلة القطب الأوحد بعد تسع سنوات (2013 – 2022) من الصعود الدولي والإقليمي لقوى بعينها.

ولا حاجة إلى انتظار انتهاء الحرب ونتائجها، إذ لو حققت روسيا بنك أهدافها من الحرب فإنها سوف تصبح قوة عظمى أمام أمريكا وأوروبا، أما لو خسرت الحرب فإن الهزيمة سوف يكون لها ارتداد عالمي على دول العالم أجمع، وقتذاك فإن العالم سوف يعود إلى حقبة القطب الأوحد على نمط ما بين عامي 1991 و2013 دون أدنى مقاومة من روسيا أو غيرها، وتفكيك الصراع الدولي الذي جرى ما بين عامي 2013 و2022.

هكذا، فإن الحرب الأوكرانية بكل نتائجها، سواء الانتصار أو الهزيمة الروسية، سوف تعلن بالفعل عن نظام عالمي جديد، لن نعرف ملامحه إلا عقب انتهاء الحرب ورسم ملامح الصراع الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية.

5 – المفاجأة الاستراتيجية: رغم أن الغرب استعد للهجوم الروسي، بل ونصب فخًا للروس، ولكن أكثر من تصريح غربي ذهب إلى أن التوقعات كانت تذهب إلى عمل عسكري محدود وليس عمل بري شامل كما جرى.

كانت التوقعات تذهب إلى دخول روسيا إلى أوكرانيا الشرقية، ومهاجمة أوكرانيا الغربية بالصواريخ والطيران الحربي، ولكن دون عمل بري منذ اليوم الأول. الهجوم الروسي الشامل كان مفاجأة استراتيجية أكدت فشل المخابرات الأمريكية ومخابرات حلف الناتو وكافة أجهزة المخابرات الأوروبية على توقع “حجم” الهجوم الروسي.

6 – تحويل المصيدة إلى درس: يريد بوتين تحويل “المصيدة الأوكرانية” لروسيا إلى “الدرس الأوكراني” للغرب، أي أن روسيا كانت تعرف المكائد المدبرة لها في أوكرانيا، ومع ذلك سوف تخرج منها منتصرة.

وسبق للغرب أن حاول تكرار “النموذج الافغاني” أو “أفغانستان الجديدة” أو “أفغانستان الثانية” لتركيع روسيا في حرب الشيشان الثانية، ثم في الحرب السورية، وتاليًا في حرب أرمينيا – أذربيجان 2020 وأخيرًا في اضطرابات كازاخستان يناير 2022، وقد نجحت روسيا في الانتصار في كافة تلك الحروب.

ما يعني أن روسيا لديها خبرة عسكرية كبيرة في مقاتلة المرتزقة وجيوش الشركات العسكرية الخاصة، لذا فإن خوض الحرب الأوكرانية رغم كل الفخاخ الغربية وعبر عملية شاملة وليست محدودة وحرب طويلة وليست خاطفة هو مسعى روسي متعمد لإفشال استراتيجية استخدمها الغرب بحق روسيا منذ سبعينات القرن العشرين ووضع نهاية حاسمة لها. وكأن روسيا في أوكرانيا ترد عمليًا على ما جرى في أفغانستان في الحقبة الأخيرة للاتحاد السوفيتي.

7 – السيطرة على تشيرنوبل: أثار إصرار الجيش الروسي على السيطرة على مدينة تشيرنوبل حيرة العديد من المراقبين، على ضوء ما يشاع أن المفاعل النووي السوفيتي الشهير بالمدينة قد أغلق منذ تفكيك الاتحاد السوفيتي.

ولكن الحقيقة أن أوروبا قد اتفقت مع أوكرانيا على إعادة المفاعل للعمل وبالفعل بدأ الغرب في تشغيل المفاعل في فبراير 2021، أي قبل عام بالضبط من بدء حرب 2022، وكان الغرض هو أن تمتلك أوكرانيا سلاحًا نوويًا على الحدود مع روسيا مما يقلب موازين الأمن القومي الروسي.

وبالتبعية فإن هذا يعني امتلاك الغرب لسلاح نووي في أوكرانيا على مقربة من الضفة الأوروبية من الدولة الروسية، ولم يخف على المخابرات الروسية حقيقة أن الغرب عمومًا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد هي التي أدارت عملية بدء تشغيل المفعل السوفيتي مرة أخرى. لذا حرصت روسيا على السيطرة على مدينة تشيرنوبل خلال الساعات الأولى من الحرب، ومن المتوقع أن يظل المفاعل السوفيتي تحت السيطرة الروسية في أي ترتيبات لمستقبل أوكرانيا.

8 – تفكيك القيم النيوليبرالية وإعلاء الروح القومية: إن العالم يعيش منذ الأزمة الاقتصادية العالمية (2008 – 2013) حرب الأفكار أو حربًا أيديولوجية بين الفكر الوطني والدولة القومية من جهة، وفكر العولمة والدولة النيوليبرالية من جهة أخرى.

وقد أدى القرار الروسي الشجاع بخوض الحرب من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية إلى موجة من الإعجاب بالقائد الروسي في أوروبا وأمريكا، ويظهر ذلك جليًا في مئات الآلاف من التعليقات المكتوبة تعليقًا على أخبار الصحف الأمريكية والبريطانية تحديدًا.

إن الرأي العام في الغرب غاضب من القيم النيوليبرالية وفكرة تفكيك الجيوش وقواميس الصوابية السياسية واجندة قيم نتفليكس، وتغيير التركيبة السكانية للقارة الأوروبية والقارة الامريكية عبر جلب اللاجئين والمهاجرين من دول ومجتمعات وثقافات وديانات أخرى، وإتاحة الإجهاض والجنس مع الأطفال، والمخدرات، وعدم تحديد نوع الجنس، ومحاولة فرض ثقافة المثليين والتغير الجنسي والعابرين والنسوية والإباحية على الحياة العامة، وغيرها من أفكار العولمة التي لا تعبر حتى عن المجتمعات الغربية التي تقوم بثورة عارمة ضد فرض تلك القيم على مجتمعاتها.

إن صعود التيار القومي في أوروبا وأمريكا طيلة السنوات الماضية هو أبرز علامات الرفض الواضح لتلك القيم، سواء تيار بريكست البريطاني أو الترامبية الأمريكية واليسار القومي الجديد في اليونان، واليمين القومي في ألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا.

إن “البوتينية” في حرب أوكرانيا قد ضربت بنجاح ضربة هائلة في الحرب الفكرية الجارية بين الجبهة القومية والجبهة النيوليبرالية، ووجهت القومية الروسية ضربة لفكرة الوحدة الأوروبية أو القومية الأوروبية، وقدم بوتين نموذج الدولة الوطنية والدولة القومية القوية في وجه العالم، هذا التأثير الثقافي الروسي البوتيني هو تأثير باق، حتى لو خسرت روسيا الحرب أو لم تحقق بنك أهدافها.

ولا تزال الحرب جارية، ولا تزال حسابات الربح والخسارة تتوالى على مدار الساعة.

 

.

رابط المصر:

https://marsad.ecss.com.eg/67741/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M