التطلّع صوبَ الأعلى والطموح نحو الأفضل سجية جُبِل بها الإنسان، والأمم التي باتت اليوم على رأس هرم التقدم، أحرزت ذلك من خلال التنظيم واعتماد التقانة الحديثة والمحدَّثة، وكل هذا كان ولا يزال سبيلها نحو بناء دولة العدالة وإتقانها وتعضيدها بنظام ديمقراطي يعتمد بدوره التنظيم والتعاون وتبنّي التقنيات المعاصرة التي باتت اليوم متحكمة بالتطوّر والارتقاء.
العدل من العدالة وهو التوسط بين الإفراط والتفريط. ومن ذلك نجد وصف الإنسان المعتدل في السياسة أو التدين. وقد قيل إن العدالة والمعدلة لفظ يقتضي المساواة. والعَدل والعِدل متقاربان، لكن العَدل يستعمل فيما يُدرك بالبصيرة كالأحكام، والعِدل فيما يُدرك بالحاسة كالموزون والمعدود والمكيل. والعَدل التقسيط على سواء، وعليه روي «بالعدل قامت السموات والأرض» تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا على مقتضى الحكمة، لم يكن العالم منتظمًا.
العدالة هي لغةً الاستقامة والعدل اشتقاق منها. وشرعًا الاستقامة في طريق الحق بتجنب ما هو محظور في دينه. وقيل صفة توجب مراعاتها التحرّز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرًا فالمرة الواحدة من صغار الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرًا لاحتمال الغلط والسهو والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال، ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاد في لبسه.
وفي جمع الجوامع وشرحه هي ملكة راسخة في النفس والعدالة واجبة في مجالين هما: القانون والأخلاق. والفرق بينهما أن العدالة القانونية يمكن الحصول عليها بالتخاصم إلى القضاء، أما العدالة التي تطلب أخلاقيًا فالإلزام بها أدبي من ضمير المرء وتدينه والجزاء فيها معلق وفق اعتقاد المؤمنون غالبًا إلى اليوم الآخر.
على حين أن الدولة هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم في إقليم جغرافي محدّد، ويخضعون لنظام سياسي معين متَّفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها السياسية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، سعى طيلة حياته ومسيرته الفكرية العلمية إلى هدف بناء الدولة العادلة، وطرح الأفكار والخطوات التي تقود المسلمين إلى هذا الهدف، بل سعى بشكل حثيث إلى تقديم المقترحات والأفكار الداعية إلى بناء نظام عالمي يضمن العدالة لجميع سكان الأرض.
مرتكزات بناء الدولة العادلة
لكن الإمام الشيرازي أكد أيضا على مرتكزات ومقومات وشرائط أساسية أشار إلى أنها سوف تقود المسلمين والعالم كله نحو العدالة، وتقف في المقدمة من ذلك شرائط حاسمة منها:
– اعتماد التقنية وإتقان التعاطي معها.
– التنظيم.
– التعاون سواءً بين مكونات المجتمع أو بين الأفراد أنفسهم.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه القيّم (الصياغة الجديدة):
(لابدّ أن نعرف أن الحياة اليوم تعتمد اعتماداً أساسياً على التقنية في جميع المجالات، وهذه التقنية ليست فقط في الأدوات التي يقدمها الإنسان في حياته، بل في التعاون والتنسيق بين طاقات الإنسان نفسه أيضاً).
وقد استنتج المختصون بأن الحضارة ما كان لها أن تولد في أحضان البشرية لو لا ابتكار الإنسان لأهمية التنظيم، فالأخير هو الذي جمّع الطاقات التي كانت مبعثرة مشتتة لم يستفد منها العالم إلا بعد أن أدرك بأن تنظيم الطاقات وتجميعها هو طريقة نحو البناء السليم، ولم يتوقف الأمر عند مستوى التنظيم، بل رُفِد بمقوِّم بشري آخر هو التعاون، إذ ما فائدة طاقات وإمكانات هائلة غير منظّمة؟
حين تتعارض الطاقات وتتصارع أو تتناقض الإمكانيات، فإنها ستذهب هباءً منثورا ولا ينتج عنها سوى الخراب والتدمير، كصراع المصالح بين الدول والأمم الكبرى، بل حتى بين الأفراد سوف تكون الطاقات سببا للصراعات والتناحر ومن ثم التأخر والتخلف، لذلك تم الربط بين التنظيم والتعاون، لأن التنظيم والصراع أو التناحر لا يمكن أن يلتقيان، لهذا يصح القول على الحضارة الراهنة هي نتيجة الارتكاز على محورين أو دعامتين هما: التنظيم والتعاون.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك حين يقول في المصدر السابق ذكره:
(حضارة اليوم مبتنية على التنظيم والتعاون في كافة الحقول والمجالات). ويضيف الإمام الشيرازي محورا ثالثا يساعد على بناء الأمم وتحضّرها، كما في قوله:
(إن بناء الحضارة في الوقت الحاضر يعتمد اعتماداً كلياً على التقنية).
هذا المقترح أو الدرس نبَّه إليه الإمام الراحل منذ عقود خلت، ودعا قادة المسلمين بالأخص إلى اعتماده كي تُبنى دولة المسلمين القائمة على العدل، والضامنة للحقوق، والحامية للحريات، بل ترتفع الصياغة الجديدة التي يدعو إليها الإمام الشيرازي إلى دائرة أوسع تشمل النظام العالمي وقادة العالم، من أجل تأسيس نظام عالمي عادل تُضمن فيه حقوق سكان الأرض جميعا.
إعداد الطاقات والتنسيق بين الخبرات
بعثرة الطاقات، يؤدي إلى هدرها، والخبرات الفردي إذا لم يتم تنظيمها سوف تُهدَ عاجلا أم آجلا، لذلك يحتاج المسلمون إلى التنظيم والتنسيق بين الخبرات المتنوعة الجماعية والفردية، بالطبع هنالك عقبات تعيق التنظيم وتسعى لتجميد الخبرات ومن ثم تدميرها، هذه العقبات منبعها وصنّاعها الرؤساء الدكتاتوريون وحكوماتهم الفاشلة، هؤلاء يجب القضاء عليهم تماما، لأنهم لا يسمحون لشعوبهم بالتحرر، ولا يدّخرون جهدا في تقييد قدراتهم وتفتيت خبراتهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(علينا أن نعد أنفسنا تنظيمياً من خلال التنسيق بين خبراتنا، وطاقاتنا وتوجيهها التوجيه السليم في التخلص من الحكام الذين يقفون أمام تقدم الأمة، والحكام الديكتاتوريون هم العقبات في طريق الأمم التي تريد التقدم والتحرر والاستقلال).
ولأننا في الدول الإسلامية والعربية، أهملتنا التقانة، وتأخرنا في اعتمادها، أصبحنا في أسفل قائمة التقدم، وصُرنا في العربة الخلفية لقطار الأمم المتقدمة، فإذا أردنا أن نبني دولة عادلة ونظاما سياسيا مثاليا معاصرا، علينا بالعلم والإتقان التقني، واستثمار أقصى طاقاتنا وإمكانياتنا وخبراتنا اعتمادا على العلم والتقانة، بغير ذلك لا يمكن أن نبني دولتنا المرتقَبة، ولا نسهم في تعديل النظام العالمي وتقليل ظاهرة الاحتقان التي تحيط به منذ عقود.
الإمام الشيرازي يقول عن ذلك:
(نحن كأمة تطمع إلى بلوغ أهدافها وإقامة حكومتها التي ستكون القاعدة لتغيير العالم حضارياً يجب أن نتبع الأسلوب العلمي والتقني فيما بين طاقاتنا حتى نحسن تفجير مواهبنا بشكل جيد).
ويصرّ الإمام الشيرازي على محوريّ التنظيم والتقنية العلمية، لكنه يؤكد على الدمج بين الفكر والمادة، والتنسيق فيما بينهما، وجعلهما في بوتقة واحدة، تنتهي بنا إلى بناء الدولة العادلة، والمؤسسات التي تعتمد التنظيم والعنصر التقني في أداء مهامها، وصولا إلى الهدف الأسمى، متمثلا بعودة المسلمين إلى مكانتهم في الصدارة، وإلى دورهم التنويري الذي قاد البشرية من الظلمات إلى النور.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(يجب أن نعبئ طاقاتنا الفكرية وقدراتنا المادية وأن ننخرط في خطوات التنظيم التي تبلور عملنا وجهودنا وتصبها في مجاريها السليمة).
أخيرا… بإمكان الساسة بالأخص القادة منهم، ويمكن للمفكرين وجميع من يعنيهم الأمر، العودة إلى كتاب الصياغة الجديدة للإمام الشيرازي، والإطلاع عن كثب على الأفكار التي تم طرحها بوضوح في هذا الشأن (بناء الدولة)، وإذا ما تمّ وضعها موضع التطبيق عبر صنّاع القرار، فإننا سنكون أمام مرحلة جديدة سوف تقودنا إلى مرتبة عالية من التطوّر والمعاصرة.
رابط المصدر: