الموقف القانوني للمرجعيات الدينية.

بهاء النجار

(( واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية وقوانا الوطنية واصرارِ مراجعنا العظام وزعمائنا وسياسيينا )) هذا جزء من الديباجة التي وردت في دستور جمهورية العراق 2005 وربما هي منطلق لتأسيس موقف قانوني للمرجعيات الدينية في العراق ، لأن هذا النص هو أول نص قانوني – بحسب إطلاعي – يذكر مراجع الدين باعتبارهم قيادات دينية دعت الى كتابة الدستور ، واستجابة الشعب العراقي لدعوتها هو إقرار شعبي وقانوني بقدرة تلك القيادات على وضع الحلول في المنعطفات والأزمات التي مر بها الشعب من قبل سقوط نظام صدام ولحد الآن .
وما كان وجود هذا النص في ديباجة الدستور العراقي الحديث إلا لدور المرجعية الدينية في الحياة السياسية وتأثيرها في المتغيرات التأريخية والإستراتيجية للبلد ، وبالتالي إن لم نقل من واجبنا تجاه مرجعيتنا فمن حق المرجعية الدينية علينا كشعب واع أن ننظم قانوناً يحفظ هذا الكيان العملاق من تسلط السياسيين وعنجهياتهم بعد أن صعدوا الى مناصبهم بفضل مراجع الدين ودورهم في هذا البلد الكريم .
وهذا التخوف مشروع بعد ما عانى الشعب العراقي عموماً ومراجع الدين خصوصاً من ظلم الأنظمة الاستبدادية قبل 2003 وعلى رأسها نظام صدام الإجرامي الذي ارتكب أبشع الجرائم بحق علماء الدين فقد أعدم وشرّد وعذّب وسجن عدداً كبيراً من مراجعه ، ولا أحصر الأمر بالشهيدين الصدرين ولا بشهداء آل الحكيم وبحر العلوم والشيرازيين ، لأن المقام لا يسع لتغطية كل جرائم هذا الدكتاتوري .
وكما تخوف السياسيون من بطش نظام صدام فأكدوا على أن يكون نظام الحكم برلمانياً حتى لا يسمح لدكتاتوري جديد بالصعود الى السلطة ، وحتى يعطوا فرصة للمحافظات من أخذ دورها شرّعوا قوانين يجمعها مبدأ اللامركزية الإدارية وسمحوا بتشكيل أقاليم ضمن ضوابط ميسرة نسبياً ، فمن حق المنتمين الى قيادة المرجعيات الدينية أن تتخوف من ظهور مستبد طاغوتي يقوم باضطهاد القيادة الدينية في هذا البلد بحجج واهية متناسياً دور تلك القيادة في ترسيخ أسس الدولة الحديثة وإشاعة روح الإخوة والمحبة بين أبناء الوطن وحرّمت أي شكل من أشكال الاقتتال والثأر على أساس طائفي أو عرقي ، فمن غير الإنصاف أن تكون هذه القيادة الدينية تحت رحمة متجبر جاء طارئاً على البلد ينفذ أجندات خارجية .
وقد كان للتوصيف القانوني للمجتهدين – فضلاً عن مراجع الدين – في إيران دور مهم في حماية كثير من المجتهدين من جبروت الشاه محمد بهلوي ، وعلى رأس أولئك المجتهدين السيد الخميني الذي كان أشد المعارضين للحكم البهلوي في إيران ، فقد كان القانون الإيراني في عهد الشاه بهلوي يتضمن منع إعدام من كان بدرجة مجتهد ، ونتيجة لذلك أضطر الشاه بهلوي أن ينفي السيد الخميني الى خارج إيران بدلاً من إعدامه ، وربما لو كان مثل هذا التوصيف موجوداً في العراق لقلل من المراجع الشهداء الذين خسرناهم وخسرهم المجتمع .
ونحن بعد 2003 لا نملك وصفاً قانونياً لمراجع الدين ولا تشريعاً ينظم العمل بين الدولة والمرجعيات الدينية ، فالدولة المدنية بحاجة لتوصيف قانوني لكل مفصل من مفاصلها فكيف إذا كان هذا المفصل ركن من أركان الدولة وأساس من أسس كيانها ووحدتها ، لذا كان من الضروري على السياسيين العراقيين أن يقوموا بتشريع قانون ينظم تلك العلاقة بين الدولة والمرجعية بشكل يحفظ المرجعية من سطوة السياسيين ويعرّف المرجعية ككيان وجهة وشخصية معنوية لا كأفراد ، فمراجع الدين كأشخاص هم مواطنون حالهم حال أي مواطن ، فإما أن يكون عراقياً وبالتالي فله حقوق وعليه واجيات ويمتلك الوثائق القانونية الرسمية الطبيعية مثل هوية أحوال مدنية وجواز السفر والبطاقة التموينية وغيرها من الأوراق الثبوتية ، وإن كان غير عراقي فتتعامل الدولة معه كأي مواطن مقيم في العراق ، ولكن المرجعية الدينية كجهة لا يوجد لها توصيف قانوني يمكّن الدولة من التعامل معها بشكل يحفظ مكانتها الدينية والوطنية .
فمثلاً لو فرضت الحكومة التجنيد الإلزامي على كل الفئات العمرية لمقاتلة خطر داخلي أو خارجي معين ، وكان مرجع ديني ضمن تلك الفئات العمرية الواجب إلتحاقها بالجيش العراقي ، فإما أن ينفذ أمر الحكومة ويلتحق بالجيش وهذا تضييع لدوره القيادي للأمة أو أن يعترض على القرار وبذلك سيتعرض للمساءلة القانونية ، وفي كلتا الحالتين سيكون هذا القرار الحكومي مهدداً لذلك المرجع الذي قد يكون فاعلاً في الساحة الوطنية ، وربما مثل هذه القرارات تًعد بطريقة تنال من أولئك المراجع الفاعلين .
أو قد يكون أحد مراجع الدين من غير العراقيين وأرادت السلطة الحاكمة أن تبعد هذا الشخص عن ما يجري في الساحة السياسية فإن ذلك سيتم بكل سهولة بمجرد منع تجديد الإقامة له وبالتالي سيضعه في موقف قانوني محرج ، فإما أن ينصاع لأوامر السلطة ويغادر العراق وبالتالي سينفذ مخططاتها ، أو أن يعارض قرار السلطة وعندها سيكون قد خالف نظام الدولة وسيعرض نفسه للمساءلة القانونية وقد يصل الأمر الى الحبس ، وعي ذلك إهانة لمقام المرجعية .
نحن هنا لا ندعو الى وضع قانوناً يسمح للحد من نشاط المرجعية الدينية وإنما نريد أن نضع وصفاً للعلاقة بين المرجعية والدولة حتى نحمي مقام المرجعية من تسلط المتسلطين وكذلك نحمي الدولة من سطوة المتمرجعين الذين تسلقوا الى هذا المقام الرفيع ظلماً وعدواناً ، فمن غير المقبول أن نترك تلك العلاقة للحسابات السياسية التي تتغير بحسب المصالح والأهواء ، فمتى ما كانت المصالح تنسجم مع احترام المرجعيات نجد الوفود لا تنقطع عن مدينة النجف الأشرف ومتى ما كانت المصالح تتقاطع مع الرجعيات نجدهم يعرضون عنها حتى في أحلك الظروف .
وبالتالي فلا بد من جهود مشتركة بين الطرفين (المرجعية والدولة) لوضع آلية لتشريع هذا القانون ووضع وصف قانوني للمرجعية الدينية ، فالدولة تحتاج الى وصف قانوني للمرجعية لا وصف حوزوي لها ، لأن الوصف الحوزوي يكون مفيداً في الأروقة الحوزوية وقد ينفع أو لا ينفع على مستوى التعامل مع الدولة العراقية ، هذا الوصف القانوني يضعه خبراء الفقه وخبراء القانون حتى يسمح للدولة بالتعامل وفق ذلك الوصف ، وهذا لا يعني أن الفقيه أو المرجع وفق القانون بالضرورة أن يكون مرجعاً دينياً حقيقياً ، بمعنى أن يكون هذا التشريع باباً لإنشاء جيل من وعّاظ السلاطين بعد أن مرّ أكثر من عشرة قرون ولم نرَ لهم وجود في الأروقة الحوزوية ، ولكن المهم أن يكون المرجع الديني وفق المعايير الحوزوية مرجعاً وفق المعايير القانونية التي سيبينها هذا التشريع .

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M