الوباء الكوروني وأسئلة في السياسة والدين!

فارس كمال نظمي

يشهد عالمنا اليوم لحظة دراماتيكية فريدة إذ تبرز البيولوجيا المشتقة (أو المستجدة) من شفرات الأحماض الأمينية للكائنات المجهرية (المتناهي البيولوجي في الصغر)، لتحفز الحضارة البشرية (المتناهي الاجتماعي في الكبر) على استلهام دروسٍ جديدة عبر إعادة طرح الأسئلة الأزلية عن الموت والحياة، في إطارٍ ثقافي- أخلاقي نقدي يستند إلى رصيد هذه الحضارة من مكتشفات العلوم الاجتماعية ومنظوراتها التفسيرية والتنبؤية.

ففي ظل الأزمة العالمية الكبرى الحالية الناتجة عن انتشار الوباء الكوروني، تبرز أسئلة علمية جوهرية عابرة للمجتمعات، تتصل بالتفكر الشكوكي بمدى ما “حققه” البشر حتى اليوم من “عقلانيةٍ” في أنماط تعاملهم السياسي مع وصمة الموت المبكر قبل أوانه بسبب الحروب والأوبئة والفقر من جانب، وفي أنساق تعاملهم الديني المعتقدي مع محنة الموت من جانب آخر.

الموت إذ يمارس طبقيته في الإدراك البشري!

إن أرقام الوفيات اليومية الحالية بسبب وباء كورونا باتت مفزعة بعد أن كانت مقلقة، ولكنها تبدو محدودة نسبياً بالمقايسة مع أرقام الوفيات والضحايا جراء سوء التغذية والحرمان والحروب والقمع السياسي وتفشي الأمراض المعدية بأنواعها في عالم الدول النامية. ومع ذلك فإن تلك الأوضاع المأساوية المستمرة والموثقة سنوياً منذ عقود طويلة، لم تستدعِ حالة الهلع والذعر والطوارئ التي يعيشها الوضع البشري الحالي بسبب كورونا.

إن هذه المقارنة بين الحالين لا تستهدف التقليل من جسامة الوباء الفيروسي الحالي وأهمية الإجراءات المتخذة عالمياً لاحتوائه، بل تراها إجراءات ضرورية ولا غنى عنها، ولكنها تتساءل – من منظور نفسي- عن أسباب غياب الجدية والعقلانية نفسها في معالجة الوصمة المزمنة لموتِ/ قتلِ عشرات الملايين علناً في العصر الحديث، بسبب الفقر والأمراض والحروب، وبنسب مضاعفة للنسب الفيروسية الحالية!

فما بين العامين (1990- 2017)، ظلت النسبة الكبرى من وفيات الأطفال والمراهقين في جميع أنحاء العالم تتركز في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وذلك ارتفاعاً من 71% إلى 82%. وهذا يعني أن الفقر هو السبب الأول لوفيات الأطفال في العالم. فبسبب الجوع وحده يموت (9) ملايين من البشر كل عام، من بينهم (6) ملايين طفل في دون سن الخامسة. وبسبب الأمراض المُعدية (الإسهال والملاريا والحصبة وأمراض الجهاز التنفسي الحادة) يموت (11) مليون طفل دون سن الخامسة كل عام في البلدان النامية.

وفي الدول العشرة الأكثر تضرّراً من الحروب بسبب الجوع أو قلّة النظافة أو الافتقار إلى الرعاية الصحيّة أو الحرمان من المعونة (العراق وأفغانستان وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية وسوريا واليمن ومالي ونيجيريا والصومال)، مات ما لا يقلّ عن (870) ألف رضيع وطفل بين عامي (2013 – 2017).

أما وفيات الحروب، ففي سنة 2017 وحدها بلغ عددها الناجم بشكل مباشر عن الحروب الأهلية أو الحروب بين الدول (90) ألف شخص. وما بين العامين (2001- 2019) بلغ عدد القتلى الذين سقطوا بسبب الحروب التي شنتها الإدارة الأمريكية لـ”محاربة” الإرهاب (801) ألف إنسان، وبكلفة (4,6) ترليون دولار.

ولذلك، حينما نقارنُ بين موقف الحكومات في العالم من الوبائية البيولوجية الحالية لفيروس كورونا، وموقفها من الوبائية الاقتصادية والسياسية للفقر والجوع والحروب المستمرة دونما انقطاع طوال التاريخ الاجتماعي المعاصر على الأقل، لا نملك إلا أن نتساءل: «هل يمارس الموت طبقيته في الإدراك البشري؟».

وباستفهام أكثر تحديداً، إذا كان الموت هو حتمية مفروغ منها ولكن يراد تجنبها قدر الإمكان حينما يأتي مبكراً أو قبل أوانه بصيغة قتل بيولوجي (المرض) أو اجتماعي (الجوع والحرب)، فهل تتأرجح قيمته النفسية والأخلاقية في الإدراك البشري، صعوداً وهبوطاً، بحسب سياق التراتبيات الاجتماعية-الاقتصادية التي يحدث فيها؟!

وهل يكتسب الموت “قيمة” أهم وأعمق وأعلى حينما يطال مجتمعاتٍ أو نخباً سلطوية اعتادت “الرفعة” الطبقية والرفاه الاجتماعي، مما هو عليه في مجتمعات اعتادت “التهميش” الطبقي والبؤس الاجتماعي؟

وهل إن المتنعمين اقتصادياً والمتسلطين سياسياً (الأقلية المالكة لرأس المال الحاكم) لديهم حساسية إدراكية وأخلاقية عالية نحو موتهم الشخصي المباغت ما داموا مالكين لقدرات التأثير الإيجابي لوقف ذلك الموت، أكثر بمراحل من حساسيتهم نحو موت/ قتل الآخرين (الأكثرية الفاقدة المحكومة) البطيء والمتوقع، بعد أن جرى تجريدهم (أي الآخرين) من قدرات التحكم بمصائرهم؟

ولعل هذا ما يفسّر سلوك الكثير من الفئات الاجتماعية ما دون الوسطى في مناطق عديدة من العالم ومنها العراق، في إظهارهم لعدم اكتراث نسبي في اتخاذ إجراءات وقائية كافية ضد وباء كورونا، إذ يعبّر هذا البرود الانفعالي حيال احتمالية الموت عن نزعةٍ اكتئابية جماعية ناتجة عن فقدان هذه الفئات لقدرتها على التحكم بمسارات حياتها، فتسعى لتعويض ذلك الفقدان دفاعياً ولاشعورياً باستخدام آليات الإنكار أو الاستخفاف أو الاستعراض أو التعويل الغيبي على شفاعات “منقذة”.

إن النظام السيكو- أخلاقي لعالم القابضين على السلطة (في الغرب والشرق) يتبع نسقاً انتقائياً واضحاً حيال الموقف من الموت، محدداً بالآتي:

«ما دام موتُ/ قتلُ الآخرين بتأثير الوبائية الاقتصادية والسياسية يحدث بعيداً عن عيوننا، بصمتٍ وبطءٍ وتريثٍ وتعتيمٍ وخارج التغطية الإعلامية الصورية المباشرة، فإننا لا ننكره بل “نكترث” به إلى حدٍ ما ولكن ليس إلى حد الفزع والاستنفار الستراتيجي الوقائي ضده، إذ نعدّهُ وصمة “لا مفرّ منها” في ضوء التركيبة الاقتصادية والثقافية “غير المتوازنة” لمجتمعات الكرة الأرضية عبر التاريخ، وفي ضوء كونه سبباً أساسياً أيضاً لاستمرار انتعاشنا الاقتصادي ورفاهنا الاجتماعي.

أما موتنا الشخصي المباغت بتأثير الوبائية البيولوجية، فهو أكثر أهمية من موت الآخرين البطيء بتأثير الوبائية الاقتصادية والسياسية، ولذلك فهو يستدعي استنفاراً شاملاً إذ يحدث في عقر دارنا، مفاجئاً وسريعاً وغامضاً وغير مرئي ومكشوفاً للتغطية الإعلامية المباشرة، ما يعطيه بُعداً مأساوياً عميقاً يتطلب التحرك الطبي والوقائي والاقتصادي واللوجستي السريع لاحتوائه وإيقافه بل وتطوير ستراتيجيات وخططٍ للوقاية منه مستقبلاً.

فموتنا – قبل أوانه- غير مسموح به بيولوجياً، فيما موت/ قتل الآخرين -في كل أوان- مسموح به اجتماعياً ما دام يحدثُ هناك بعيداً.. في تلك البقعة الملتبسة إدراكياً وأخلاقياً حيث تتقاطع البيولوجيا مع السوسيولوجيا والايديولوجيا في نقطة سيكولوجية تجعل من الموت/ القتل قابلاً للتبرير والاستثمار وحتى الإدانة أحياناً، مثلما هو قابل للتجاهل والتغافل والإنكار أيضاً..!»

كورونا إذ “يعاقب” آثام البشرية!

تشير الدراسات النفسية المتراكمة منذ أكثر من عقد من الزمن في بلدان عديدة، أن عقلانية السلوك الاجتماعي في مجال التعامل مع الأزمات والكوارث، تضمحل إلى حد كبير، كلما يشعر الناس أنهم فاقدون للقدرة على توجيه حياتهم الشخصية والتحكم بمساراتها بسبب هشاشة مؤسسات الدولة وفسادها من جانب، وكلما واجهوا –إدراكياً- أوضاعاً سياسية مضطربة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها من جانب آخر.

وعندما أقول “الناس” فهو تعبير مجازي لا أقصد به تعميماً يطال كل الناس، بل تخصيصاً يتحدد بفئات اجتماعية مهمة من مجتمعات الكرة الأرضية. فإلى جانب هذه اللاعقلانية، تظل عقلانية السلوك الاجتماعي احتمالاً قائماً أيضاً حتى في أقسى الظروف السياسية، تنتج عن تفاعلاتٍ جدلية لعوامل متشابكة ومتضافرة ديناميكياً، كالسلوك الاحتجاجي الجمعي بحثاً عن التغيير السياسي المنتج مثلاً.

واضمحلال العقلانية هذا، يبدأ بالتعبير عن نفسه بأساليب معتقدية وسلوكية متنوعة، ليس أولها شيوع التفكير الخرافي بديلاً عن التفكير العلمي، وليس آخرها إسباغ العدالة على الظلم، بوصفه (أي الظلم) ليس إلا “عدالة” مستترة أو كامنة أو متأصلة في “جوهر” الوجود. وهنا تنحدر الحرية الوجودية الأولى “المتاحة” للإنسان، لتتحول إلى قضبانٍ يسجن وراءها عقله الفردي وسلوكه الاجتماعي، في سلسلة متشعبة ومتداخلة من الاغترابات والمظالم والتبريرات والأوهام المتلاقحة والمتناسلة من بعضها البعض.

وواحدة من هذه الأوهام الأساسية الكثيرة الشائعة، هي إعادة إنتاج التدين – نفسياً- من كونه وظيفة روحية وأخلاقية وتنظيمية لشؤون الدنيا، ليصبح عاطفة متعالية على الحقائق العلمية والبراهين المحسوسة المؤكدة. فيتم “ألهنة” مسببات الظواهر العادية (كالمرض أو الفقر أو الظلم أو القتل) ونسب وظيفة نفسية بشرية للإله، كالغضب أو الانتقام، كما لو أن الله أراد أن “يعاقب” الناس بسبب “انحرافاتهم” فـ”ابتلاهم” بهذه الكوارث، ضمن ما يسمى بمبدأ “التشبيه بالإنسان” Anthropomorphism الذي يقصد به إثبات صفات الله عبر التشبيه بصفات الإنسان.

وبمعنى أكثر تحديداً، يكفّ الناس – كما تفعل اليوم فئات اجتماعية مهمة محلياً وعالمياً في تعاملها مع الوباء الكوروني- عن عزو مسؤولية انتشار المرض أو التحكم به ومعالجته إلى أسباب بيولوجية واجتماعية مشتقة من قوانينية وجودهم الفيزيقي، ويبدأون بعزوه إلى التحكم الماورائي (الميتافيزيقي) الصرف بعيداً عن المسؤولية البشرية الدنيوية.

فبحسب المعطيات العلمية الموثقة، فإن أولى علامات نشوء التدين قد ظهرت منذ حوالي (100) ألف سنة، مستندة في جذورها النفسية الأولى إلى النزعة ذاتها التي ما يزال يمارسها الكثير من المتدينين التسلطيين اليوم، أي نزعة إنتاج الـ”مقدس” ليتحمل مسؤولية كل ما يصيبنا من أحداث مأساوية (وسارة أيضاً)، فيبدو عندها كل شيء أسهلَ وأهونَ مما لو كان نتاجاً لمسؤوليتنا الاجتماعية والأخلاقية. إنه التملص البشري بمسميات قداسوية. وغالباً ما يكون هذا التدين التسلطي مدعوماً من اللاهوت السياسي ومشرعناً له لأنه يؤسس لسردية الحاكم الديني الذي ما استولى على الحكم إلا ليكون “ممثلاً” للسماء و”مترجماً” لإرادتها في توزيع الأرزاق والمصائر.

وهنا يطلّ “الإنكار” و”التجاهل” و”التهوين” و”الاستخفاف” بوصفها وظائف لاشعورية أساسية “تؤدلج” تلك المعتقدات الدفاعية لدى الناس، وتعطيها بُعداً لفظياً “مقدساً” عبر الاستعانة بمقولات شعبية نمطية أو نصوص فقهية متحيزة تشرعن نقل المسؤولية الاجتماعية من الأرض إلى السماء.

فيصبح توزيع الفقر والغنى “عدالة” سماوية، مثلما يصبح وباء كورونا “عقاباً” جماعياً لآثام بشرية، يمكن تخفيفه أو علاجه لا بوسائل الطب الوقائي والعزل الصحي، بل بأنساق الاحتشاد الديني الجمعي في الأماكن العامة (وليس بأنساق التدين الفردي المنزلي) لاستعطاف السماء مباشرة أو عبر شفاعة من هو “امتداد” لها في الأرض.

* * *

إن اشتداد الخطر بالموت والتهديد بالزوال لطالما كان سبباً محرضاً للبشر عبر التاريخ، لكي يعيدوا من خلال مؤسساتهم التنظيمية (من الأسرة إلى الدولة) وأنساقهم الثقافية (من الخرافة إلى العلم)، طرحَ التساؤلات الأخلاقية الكبرى عن مدى “صوابية” أو “مغلوطية” تصوراتهم النسبية عن أنفسهم وعالمهم. فالحروب الكبرى والأوبئة الفتاكة تضع الجميع في مواجهة وجودية محتومة لا يمكن إنكارها أو تجنبها، مع حقيقة فنائهم وغيابهم واندثارهم غير المفهومة وغير المبررة، بعد حيواتٍ وآمالٍ وتعلقاتٍ شغوفة بالبقاء.

إلا أن إعادة طرح هذه التساؤلات، بما يرافقها من هزات إدراكية وقيمية وعاطفية، قد لا يرافقها دوماً وبالضرورة إعادة نظر جوهرية بالسياسات التنظيمية والأنساق الثقافية والنظم المعتقدية، توازي تلك الهزات في جسامتها وعنفوانها. فمتواليات التطور الاجتماعي السياسي تبقى لها تراكماتها النوعية الخفية وغير المتوقعة، والتي لا يمكن التهكن الميكانيكي بها. ولذلك يبدو أمراً متسرعاً اليوم أن نجزم بالقول أن الوباء الكوروني سيُحدث تبدلات جوهرية في البناء السياسي والديني للعالم، إلا أنه بلا ريب سيسهم –برفقة جدلية مع عوامل أخرى- في طرح تساؤلات جذرية صادمة تمهد لتطورات نوعية كبرى قادمة.

…………………………….
تنويه: الأحصائيات الواردة في هذه المقالة مأخوذة من دراسات منشورة لمنظمات دولية ومؤسسات أكاديمية غربية، وغايتها إيصال فكرة محددة وليس التوثيق الرقمي الدقيق.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/psychology/22792

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M