اليوم الثالث … معركة الساحل والعاصمة في أوكرانيا

محمد منصور 

 

مع دخول العمليات الروسية في أوكرانيا يومها الثالث، وإيعاز وزارة الدفاع الروسية اليوم لكافة وحداتها في أوكرانيا بالتحرك قدمًا على الأرض دون توقف، بدأت بشكل أكبر تتضح ملامح الخطة العسكرية العامة التي شرعت القوات الروسية في تنفيذها على الأراضي الأوكرانية الخميس الماضي.

هذه الخطة التي ترتكز -في جانبها التكتيكي- على مزيج بين مبدأ “الصدمة والرعب” ومبدأ “تعدد الجبهات”، بدأت في إحراز بعض الثمار الميدانية بالنسبة للجيش الروسي، وهو شيء كان متوقعًا بالنظر إلى الفارق الهائل في القوة العسكرية المتوفرة لدى كل من موسكو وكييف، وإن كانت هذه الثمار قد جاءت بمعية صعوبات ميدانية بدأت في الظهور بشكل أوضح مساء اليوم الثاني للعمليات، ما فرض على المخطط العسكري الروسي اللجوء إلى توسيع أكبر للاتجاهات الهجومية التي تتقدم منها القوات حاليًا على كافة الجبهات.

هنا لابد من توضيح أن الخطة العسكرية الروسية التي ارتكزت في اليوم الأول على التقدم من ثلاثة اتجاهات هجومية رئيسة شمالًا وشرقًا وجنوبًا تحولت في اليوم الثاني لتصبح خطة متشعبة الاتجاهات، انقسم فيها كل اتجاه هجومي لعدة اتجاهات، بحيث يتم الربط بشكل أو بأخر بين الجبهات الجغرافية الرئيسية شمالًا وشرقًا وجنوبًا؛ بهدف أساسي وهو تشتيت جهود القوات الأوكرانية التي بدأت في أوائل اليوم الثاني للمعارك في الإفاقة من صدمة قصف اليوم الأول، وأبدت مقاومة أساسية في المنطقة الشرقية، وصمدت في عدة مواقع بالجبهة الجنوبية.

النقطة الأساسية التي يمكن ملاحظتها في تطور الخطة الروسية خلال الأيام الثلاثة الأولى للعمليات في أوكرانيا أنه تم تطويرها بشكل أساسي من التركيز في اليوم الأول على شمال شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، لتصبح مرتكزة بشكل كامل على تنفيذ سيناريو تم طرحه في مادة سابقة للمرصد المصري تحت عنوان “المقاربات البعيدة … الأزمة الأوكرانية بين شتاء فنلندا وربيع براغ“، ألا وهو سيناريو “تأمين كامل الضفة الشرقية لنهر دنيبر”، بما في ذلك المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية لأوكرانيا، والعاصمة كييف.

وقد كان تنفيذ هذا السيناريو يقتضي تنفيذ القوات الروسية تحركات متزامنة من المحور الشمالي، سواءً من خلال ممر “تشيرنوبل” الذي يعد هو الأقصر للوصول إلى العاصمة من الشمال، أو من خلال ممرات أخرى مماثلة يتزامن التحرك فيها مع اجتياح للمقاطعات الشرقية، بجانب تحرك مزدوج من شبه جزيرة القرم؛ بهدف خلق اتصال جغرافي مع منطقة دونباس، وتأمين منطقة خيرسون والساحل الأوكراني على بحر آزوف والبحر الأسود، وهو ما يمكن القول إنه يتحقق فعليًا الآن على الأرض الأوكرانية.

الجبهة الجنوبية… أهداف متعددة ومحاور عديدة

التطور السالف ذكره في الخطة العسكرية الروسية، أو ما يمكن أن نطلق عليه “المرحلة الثانية من العمليات”، بدا واضحًا من خلال متابعة اتجاهات تقدم الوحدات العسكرية الروسية، بعد تمكنها من عبور قناة القرم نحو الساحل الجنوبي الأوكراني. فقد انفتحت القوات الروسية على نسقين أساسيين، الأول في اتجاه الغرب، على طول الساحل، بهدف تأمين القسم الغربي من مقاطعة “خيرسون”، بما في ذلك المدينة التي تحمل نفس الاسم، وبالتالي الوصول إلى ميناء “أوديسا” على البحر الأسود، وتأمين كامل الساحل الأوكراني على هذا البحر، والسيطرة على كافة المرافق البحرية الأوكرانية في هذا النطاق.

خاضت القوات الروسية معارك ضارية قرب مدينة “خيرسون” التي تمترست داخلها القوات الأوكرانية، وهنا يلاحظ أن بعض الوحدات الروسية فضلت تجاوز هذه المدينة والتوجه شمالًا نحو أحد أهم المدن الجنوبية في أوكرانيا، وهي مدينة “ميكولايف”، وتزامن ذلك مع نشاط بحري وجوي مستمر للوحدات الروسية جنوب ميناء أوديسا الذي تم فرض حصار كامل عليه، وتم تدمير عدة حاميات أوكرانية موجودة على الجزر القريبة من الميناء، وعلى رأسها جزيرة “زيميني”، لكن حتى الآن مازال الميناء تحت السيطرة الأوكرانية.

النسق الثاني استهدف في البداية التحرك شمالًا للسيطرة على النقاط الأوكرانية الموجودة على نهر الدنيبر، لكن تم تعديل اتجاهاته لتصبح نحو الشرق على طول الساحل الأوكراني على بحر آزوف، وفي هذا الإطار سيطرت القوات الروسية على مدينة “ميليتوبول”، وهنا كان لهذا التحرك أهمية ميدانية كبيرة، حيث بدأت القوات الروسية في التحرك أكثر على الساحل في اتجاه الهدف الرئيس في هذه الجبهة وهو مدينة “ماريوبول”، وفي نفس الوقت التحرك شمالًا نحو مدينة “زابوراهيا” للاقتراب حثيثًا من مدينة “دنيبرو” الاستراتيجية، ومن ناحية أخرى تطويق القوات الأوكرانية الموجودة غربي إقليم “دونيتسك” في دونباس ومحيط مدينة “ماريوبول”.

جبهة دونباس… تدعيم عمليات الجنوب والشمال

رغم ما بدا أنه تركيز روسي على الجبهة الشرقية “إقليم دونباس” في اليوم الأول للعمليات، باتت هذه الجبهة في اليوم الثالث للقتال بمثابة “جبهة داعمة” لكل من الجبهات الجنوبية والشمالية؛ ففي القسم الجنوبي من دونباس “دونيستك”، تمكنت القوات الانفصالية من التقدم بحدود 6 كيلو متر في اتجاه الغرب، وقطعت الطريق الرابط بين مدينة ماريوبول ومدينة “فولنوفاخا”، وهو تحرك يبدو داعمًا للعمليات الروسية السالف ذكرها على الساحل الأوكراني في بحر آزوف.

في القسم الشمالي لدونباس “لوهانسك”، كان التقدم الميداني للقوات الانفصالية أكبر، بالنظر إلى أن المحور الشمالي لمدينة لوهانسك كان من ضمن الجبهات التي بدأ القتال فيها من اليوم الأول، وحققت هذه القوات حتى الآن تقدمًا في حدود 30 كيلو متر شمالًا في منطقة “سيفيرودونيستك”. هنا لابد من الإشارة إلى أن هذا التحرك يبدو داعمًا للمحور القتالي الروسي في هذا النطاق، وهو محور “خاركيف”، حيث تستهدف القوات الانفصالية الضغط على القوات الأوكرانية جنوبي خاركيف، في حين تتقدم القوات الروسية من الاتجاه الشمالي لتأمين مدينة خاركيف، والتوجه جنوبًا نحو مدينة “دنيبرو”.

الجبهة الشمالية … الهدف كييف

أصبح التركيز الميداني الروسي النوعي الأساسي منصبًا على العاصمة كييف، وهذا بدا واضحًا بعد السيطرة السريعة على منطقة تشيرنوبل، حيث شرعت القوات الروسية المدرعة في التحرك على ثلاثة اتجاهات نحو العاصمة، منهما اتجاهين على الضفة الشرقية والغربية لنهر الدنيبر نحو المداخل الشمالية للعاصمة، بجانب اتجاه ثالث شمالي شرقي تم تفعيله من الأراضي الروسية نحو مدينتي “سومي” و”كونوتوب”؛ بهدف تشتيت وحدات الحرس الوطني الأوكرانية المدافعة عن العاصمة من جهة، ومن جهة أخرى دعم العمليات الروسية في الطرف الغربي من جبهة “خاركوف”.

نظريًا، باتت الوحدات الروسية الثقيلة على بعد 10 كيلومتر من العاصمة كييف، بعد أن تمكنت عقب معارك قوية من عبور منطقة “تشيرنهوف”، لكن اللافت أنه قبيل اقتراب القوات الروسية من هذا النطاق قامت الوحدات المظلية أمس بعدة إنزالات في عدة مناطق تقع أغلبها في التخوم الشمالية الغربي للعاصمة، على رأسها مطار “أنطونوف” في منطقة “غوستوميل” الذي شهد معارك كر وفر بين القوات الروسية ووحدات الحرس الوطني الأوكرانية. هذا التكتيك صاحبه عمليات خاصة نفذتها وحدات روسية داخل الأحياء الأوكرانية بالعاصمة؛ بهدف بث الذعر في الوحدات المدافعة عن العاصمة.

بوصول الوحدات المدفعية والمدرعة الروسية إلى تخوم العاصمة، بات من الصعب على القوات المدافعة عنها الاستمرار بشكل أكبر في المقاومة، خاصة أن الاشتباكات مع القوات الخاصة الروسية أصبحت في مناطق تعد من أحياء العاصمة، مثل “بوتشا” و”أوبيلون”، بجانب منطقتي “ايفانيكف” و”غوستوميل” اللتين تعدان النطاق الأساسي لمحاولات التقدم الروسية نحو العاصمة.

الحرس الوطني الأوكراني من جانبه قام بتفجير عدة جسور مؤدية إلى العاصمة، وبدأ في توزيع الأسلحة وزجاجات المولوتوف استعدادًا للمعارك داخل العاصمة، بجانب انتشار لافت للوحدات شبه العسكرية التابعة لليمين المتطرف الأوكراني، ووحدات عرقية أخرى من بينها ما يتبع للقومية الشركسية، التي توجد أيضًا في محور “خاركوف” الشرقي.

من النقاط اللافتة في مجريات العمليات العسكرية في أوكرانيا حتى الآن حقيقة أن معظم المطارات الأوكرانية التي تعرضت إلى هجمات جوية روسية ظلت عاملة بشكل أو بآخر، فقد استمرت الطلعات الجوية الأوكرانية خاصة في المنطقة الجنوبية، رغم أن الضربات الروسية طالت أهم القواعد الجوية الأوكرانية مثل “هوهيوف” و”ميكولايف” و”فاسيلكيف”، وهذه الأخيرة ظل النشاط الجوي الأوكراني مستمرًا فيها حتى اليوم.

لذا يبدو أن القوات الروسية بدأت في تقييم نتائج الضربات السابقة، وشرعت منذ مساء أمس في حملة قصف جديدة على القواعد الجوية الأوكرانية، خاصة قاعدة ” ستاروكونستانتينوف” الجوية في منطقة “خميلينتسكي” غربي البلاد، التي كانت تعد ضمن القواعد الجوية القليلة التي مازالت عاملة في أوكرانيا حتى أمس.

النقطة الثانية تتعلق بالضربة الصاروخية التي تعرضت لها قاعدة “ميليروفو” الجوية الروسية أمس عبر صاروخ باليستي أوكراني من نوع “توشكا”، فقد تمكن الصاروخ من إصابة القاعدة، رغم أنها ظلت في حالة تشغيلية كاملة. وهذا إن أضفناه إلى الخسائر الروسية في الوحدات المدرعة والمروحيات القتالية خلال أيام العمليات الثلاث، نستطيع أن نخلص إلى ان المعضلة الأساسية التي تواجه القوات الروسية في المرحلة الحالية تكمن في بطء التقدم الذي تحرزه على المحورين الشرقي والشمالي، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من الخسائر، خاصة مع قرب دخول القوات الروسية في معارك المدن بشكل أكبر.

استعداد موسكو لهذا الوضع بدا واضحًا من خلال بدء تحرك نحو 12 ألف جندي شيشاني نحو الجبهات القتالية في أوكرانيا، وكذا تحريك موسكو لمزيد من وحدات المدفعية الثقيلة نحو محور “خاركيف” الشرقي.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67680/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M