تأملات قرآنية من الآية الخامسة عشرة من سورة سبأ

بهاء النجار

 

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)

التأمل الأول :
إستراتيجية يرسمها القرآن الكريم مستوحاة مما جرى على سبأ ويمكن أن يستفيد منها كل بلد ، تتمثل هذه الاستراتيجية بأن يكون التعامل مع أَنعُمِ الله عز وجل تعامل الشاكرين ، فما دامت النِعِم تملأ حياتنا يميناً وشمالاً فلا بد أن نقابلها بالشكر حتى تطيب بلادنا .
وعلينا أن نعي أن الجنة التي نراها في بلادنا أو بلاد الآخرين ولا تجعل هذه البلاد بلاداً طيبة هي جنة شكلية بل وهمية لا نغتر بها ، الجنة الحقيقية هي التي تغمرنا بالطيب الذي يرعاه ربٌ غفور يغدق علينا بالنِعِم رغم عظم سيئاتنا .

التأمل الثاني :
عادة توصف البساتين الكبيرة والمليئة بصنوف الأزهار والثمار بالجنة ، والجنة مصطلح ذو بُعدٍ روحي ومعنوي يذهب بالأذهان الى ما أبعد من البستان وما يحتوي من أزهار وثمار ، ومع هذا يمكن أن يكون مثل هذا البستان جنةً مادية ومعنوية إذا كان يرافقها الشكر ، وأن لا ينسى استغفار الرب الغفور عن كل ما بدر منه من تقصير في الشكر فضلاً عن ما صدر منه من آثام راجياً إياه سبحانه أن لا تحرمه ذنوبُه نعمَه ، ومتى ما كان الإنسان يشعر بقيمة النعمة وحجم التقصير في شكرها تجاه منعمها وأن هذا المنعم غفور يغفر التقصير عندها يشعر هذا الإنسان بطيبة جنته وبلدته .

التأمل الثالث :
إن البساتين الكبيرة والجميلة والمليئة بأنواع الأشجار يمكن أن تكون مثالاً للخير العميم بحيث توصف بالجنة ، باعتبار ما هو متعارف في تلك العصور ، أما في عصرنا الحالي فمصاديق الجنة كثيرة مثل التطور العمراني والتقدم التكنلوجي والعلمي والاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي وما شابه .
فلو أن الإنسان لا يرى أن ما يأكله من رزق بسبب هذه الجنة – التي ذكرنا بعض مصاديقها – هو من الله سبحانه ، فإنه بالتأكيد لا يشكر الله تعالى على هذه الجنة التي يعيش فيها ، ولا يرى أنه مقصرٌ أمام الباري عز وجل ، وبالتالي لا يستشعر بطيبة بلاده – حتى وإن إدعى ذلك – عندها سيكون معرّضاً لما تعرضت له سبأ .

التأمل الرابع :
ربما يتصور البعض أن أغلب الناس لا يمتلكون جنة ، فضلاً عن أن تكون له جنتان ، وبالتالي فهم غير مشمولين بالتكاليف وبنفس المستوى التي على من عنده جنتان ، وهذا التصور قد يكون صحيحاً إذا نظرنا الى الجنة كبستان جميل متنوع الثمار ، أما إذا فهمنا الجنة هي عبارة عن مجموعة النِعِم التي تدرّ بالرزق وتستوجب الشكر وتجعل الحياة طيبة فسيكون التصور غير دقيق ، فهناك عن اليمين جنة معنوية وعن الشمال جنة مادية ، وكذلك جنة أخروية وجنة دنيوية ، فالعدالة الإلهية تستلزم المساواة بين البشر في النِعِم ، فالبعض قد يكون فقيراً – فرداً أم مجتمعاً – إلا أنه مؤمنٌ أو قنوع ٌ، وبعض قد يكون مريضاً إلا أن شموله بمغفرة الرب الغفور يجعله في جنة ، وهكذا .

التأمل الخامس :
إن الرزق المادي قد يتفاوت بين البشر ، فبعضٌ رزقه واسع وبعض رزقه قليل حتى لو كان سعي الأول أقل من سعي الثاني ، ولكون هذا الرزق ليس مهماً ولا مؤثراً على حقيقة العدالة الإلهية فإنه متفاوت ، بينما الرزق المعنوي لا يتفاوت إذا تساوت جهود الساعين إليه ، وإن تفاوتت فبسبب تقصير المرزوق لا تقصير الرازق سبحانه وتعالى عن كل تقصير .
ووفق هذه المقدمة فإن الرزق إن كان معنوياً كان المرزوق في جنتين معنوية ومادية ، أخروية ودنيوية ، والشكر عليه يكون حاضراً بل والاستغفار على التقصير فيه من الرب الغفور ، أما إذا كان هذا الرزق مادياً فيمكن أن لا يتمتع المرزوق بأي جنة ، وإن تمتع بجنة فقد يُحرَم الشكر والاستغفار لأنهما جنتان معنويتان .

التأمل السادس :
الأسرة نواة المجتمع كما يقول علماء الاجتماع ، وبالتالي ما يحدث في كل أسرة سينعكس على المجتمع بأكمله ، فإذا كانت الأسرة تتنعم بربٍ طيب غفور ، فبطيبته تنعُمُ أسرته وكأنها في جنتين ، جنة معنوية وجنة مادية ، تأكل من رزق الله الحلال وتشكر المنعم على ما أنعم ، وكونه غفور يتجاوز عن سيئات أفراد أسرته فإنه قد تخلّق بأخلاق الله تعالى فتسود السعادةُ والطمأنينةُ والراحةُ أجواءَ أُسرِتِه وتبتعد كل أشكال الأمراض النفسية عنها ، عند ذلك تكون أسرةً طيبةً بامتياز ، فأذا كانت كلُ أسرةٍ طيبةً سيكون المجتمع والبلاد كلها طيبة .
فليعلم كل رب أسرة حجم المسوؤلية الملقاة على عاتقه .

التأمل السابع :
( وطن حر وشعب سعيد ) شعار رفعه أحد أقدم الأحزاب السياسية في العصر الحديث وهو الحزب الشيوعي ، ويكشف هذا الشعار عن أهداف الحزب النظرية لرؤيته السياسية ، ولو قارنا بين هذا الشعار و قوله تعالى ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) باعتبار وجود تشابه في الأساس والصياغة فسنستفيد بعض الأمور الفكرية ، فليكن الوطنُ حراً والشعب سعيداً بشرط أن يكون طيّباً بجنّتَيه المعنوية والمادية وعلى أن يكون رزقه حلالاً بحيث لا تدفع حرية الوطن وسعادة الشعب الى تجاوز حدود الحلال الشرعي ، وأن لا يعرقلا شكر الرب الغفور الذي يرزقنا رغم تقصيرنا .

للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M