تبعات متعددة: الأزمة الدبلوماسية التونسية المغربية إلى أين؟

عبد المنعم على

 

جاء قرار تبادل استدعاء السفراء من جانب تونس والمغرب في السادس والعشرين من أغسطس الماضي في ضوء استضافة الرئيس التونسي “قيس سعيد” لرئيس جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” في مطار تونس قرطاج وذلك للمشاركة في الدورة الثامنة من مؤتمر طوكيو للتنمية في إفريقيا “تيكاد 8″، وما تبعه من إلغاء الرباط مشاركتها في تلك القمة، ليُراكم من حدة التصدعات البينية في دائرة الاتحاد المغاربي، ويكرس لسياسة المحاور والاستقطاب في الدائرة المغاربية، خاصة وأن تونس ظلت فترة طويلة تنتهج سياسية المهادنة فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، ولطالما تَعتبر قضية الصحراء شأنًا داخليًا.

ولعل هذا الاستقبال وما تبعه من عقد لقاء بين الرئيس “سعيد” و”غالي” جاء ليضع تونس في مسار الدول الداعمة رسميًا للجمهورية العربية الصحراوية، ويخلق بطبيعة الحال توترًا في العلاقات الثنائية بين الرباط وتونس، في ضوء كون قضية الصحراء الغربية هي المنظار والمحرك للدبلوماسية المغربية.

دوافع متباينة وسياق مضطرب

إن المتأمل لتبدّل الموقف التونسي حيال ملف الصحراء الغربية من حالة الارتكاز لمبدأ الحياد الإيجابي منذ السبعينيات في أعقاب اندلاع الأزمة -آنذاك- إلى الانحياز الرسمي لجبهة البوليساريو الذي برز في ضوء استقبال الرئيس التونسي لأمين عام الجبهة، يجد أنه يأتي في ظل سياق معقد ومتشابك ووفقًا لدوافع متباينة تتجلى في الآتي:

  • معادلة الأمن القومي والإقليمي في ضوء التطبيع المغربي الإسرائيلي: إن التطور اللافت دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا بين الرباط وإسرائيل منذ إعادة استئناف العلاقات بينهما نهاية عام 2020، أربك حسابات الدول الإقليمية الأخرى وعلى رأسها الجوار اللصيق (الجزائر وتونس)، لما يُمثله ذلك التطور من ضغط مضاعف على أبعاد الأمن القومي لتلك الدول، خاصة في ظل الشراكة العسكرية التي وصلت لذروتها بتوقيع مذكرة تفاهم لتنظيم العلاقات الأمنية المتبادلة بينهما وذلك في نوفمبر من عام 2021، وتبعها إنشاء لجنة عسكرية مشتركة في مارس 2022، علاوة على الاتفاق على نقل التكنولوجيا العسكرية وتعزيز التعاون الاستخباراتي بينهما في ضوء زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي إلى الرباط في 19 يوليو 2022، وذلك المسار يُنذر بصورة كبيرة بشرعنة التواجد الإسرائيلي في المنطقة المغاربية كبوابة للتغلغل في العمق الإفريقي. وأخذًا في الاعتبار الرفض التونسي للتطبيع مع إسرائيل؛ فإن الأمر يدفع تونس نحو توطيد الشراكة والتعاون الفعلي مع الجزائر للحد من التغلغل الإسرائيلي في تلك المنطقة والتأثير على مصالحهما.
  • الضغوطات الاقتصادية والتقارب التونسي الجزائري وأزمة الطاقة: أحد أبعاد هذا التحول يكمن بصورة رئيسية في حالة الاقتصاد التونسي الذي يشهد وضعًا حرجًا، سواء على مستوى تأمين مصادر الطاقة أو المواد الخام ومستلزمات الإنتاج المختلفة، حيث إنه وفي ضوء أزمة الطاقة العالمية تسعى تونس لتأمين استيراد الغاز من الجزائر، خاصة في ظل أزمة الكهرباء التي تشهدها تونس، الذي تجاوزت فاتورته خلال عام 2022 نحو 2.6 مليار دولار، ومن ثّم فإن هذا الوضع أوجد حالة تبعية طاقوية لتونس تجاه الجزائر. الأمر الثاني يتمثل في الدعم المادي الذي تقدمه الأخيرة لتونس، كما هو الحال بالنسبة للمساعدات المالية التي بغلت 300 مليون دولار وذلك في ديسمبر 2021، الأمر الذي تطلب معه اتخاذ قرار الانحياز بصورة أوقع للجزائر في أحد ملفات الاهتمام لها وهو قضية الصحراء الغربية.

تبعات متعددة

مهدت الأزمة الدبلوماسية التونسية المغربية لعدد من التبعات المتعددة والتي ظهرت على أكثر من مسار على النحو التالي:

  • تقليص فرص مبادرة الحكم الذاتي للصحراء الغربية: إن حالة الاصطفاف التونسي مع الجزائر فيما يتعلق بالدعم الرسمي لقادة جبهة البوليساريو، وما يُفهم منه ضمنيًا برفض المقترح المغربي الخاص بالحكم الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية، باتت موضع تخوف للرباط، خاصة وأنها تتزامن مع التطورات التي حدثت في العلاقات الدبلوماسية الجزائرية مع الجانب الأوروبي وعلى وجه الخصوص فرنسا وإيطاليا في ضوء تمدد الشراكات الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية، وفي القلب منها ملف الطاقة، إلى جانب الوضعية الحيادية لموريتانيا فيما يتعلق بهذا الملف وتذبذب بعض الدول الشريكة للمغرب في قرار اعتراف رسمي بسيادتها على الصحراء الغربية (على رأسها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية)، وكلها عوامل تُعيد توازن القوى إقليميًا ما بين الجزائر والمغرب، وتقلل من جهود الرباط الدولية في إحداث اختراق للدائرة الأوروبية لاستمالتها فيما يتعلق بمسار مبادرة الحكم الذاتي للصحراء الغربية.
  • خلق مسرح جديد للتجاذبات الإقليمية: بالنظر إلى متغيرات المشهد الإقليمي والدولي نجد أنه ومنذ الأزمة الروسية الأوكرانية بات هناك تسابق دولي لإعادة تكوين التحالفات التي باتت ترتهن بصورة أساسية على موقع الدول المتحالفة في معادلة الطاقة العالمية، لذا فالسياسة التقليدية للتحالفات العابرة للحدود باتت تشهد تغييرًا كبيرًا، وأصبح تأمين المصالح الاقتصادية الاستراتيجية والطاقوية هي مسار تحرك الدول، ونتيجة لما تحظى به الجزائر من موقع جيوستراتيجي هام وما تحظى به من مصادر الطاقة وعلى رأسها الغاز وانخراطها مؤخرًا في اتفاقيات إقليمية (من نيجيريا والنيجر) لضخ الغاز إلى أوروبا، بات لها وزن في إطار معادلة الطاقة الإقليمية وأوجد هامش مناورة مع دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثّم فإن مجمل تلك المعادلة المركبة سوف يؤثر على القدرة التنافسية المغربية على مستوى ملف الطاقة من ناحية، وكذلك على صعيد تقزم نفوذها الاقتصادي في منطقة غرب إفريقيا.

وعلى مستوى القارة الإفريقية فإن سياسة الاستقطاب والتجاذب خارج الدائرة المغربية، برز بشكل كبير في مغادرة رئيس غينيا بيساو والرئيس الحالي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لمؤتمر التيكاد احتجاجًا على مشاركة جبهة البوليساريو في تلك القمة، وهو ما يُرسخ بشكل كبير لانتقال التحالفات والتصدعات إلى دائرة أبعد من الشمال الإفريقي.

  • تنامي الاستقطاب وتراجع التنسيق الجماعي لمواجهة التحديات الإقليمية: إن تناقضات الأوضاع وحالة التنافر الدبلوماسي من شأنها أن تسبب تصدعًا سياسيًا حيال مواقف دول شمال إفريقيا أو الاتحاد المغاربي على التأثير في الملفات الإقليمية ذات التأثير الأمني وعلى رأسها الملف الليبي وكذلك ملف الإرهاب في الساحل والصحراء، ويفتح المجال واسعًا أمام فتور التنسيق العسكري الجماعي في تلك المنطقة مما يزيد من حدة تنامي التنظيمات والجماعات المتطرفة على حدود الدول، كما أن ذلك التوتر -في حد ذاته- يُبعد دائرة حل الخلاف المغربي الجزائري حيال قضية الصحراء الغربية من مظلة الاتحاد المغاربي والافتقار إلى وسيط جغرافي لحل هذا الملف، خاصة وأن الاستقبال الرسمي لأمين عام جبهة البوليساريو يكرس لتبني تونس بالمطلق الموقف الجزائري، مما يؤشر إلى تراجع حاد في مستقبل العلاقات المغاربية، وكذلك يُضعف وضعية الاتحاد المغاربي بصورة غير مسبوقة.

وفي التقدير؛ فإنه على الرغم من تقبل المغرب في العديد من دورات انعقاد مؤتمر قمة التيكاد لوجود ممثل عن جبهة البوليساريو، إلا أن تلك المرة وفي ظل ما حظيت به الرباط من دعم إقليمي ودولي للدفع بمسار الحكم الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية، تستشعر المغرب القلق حيال تطور الموقف التونسي الجزائري الذي يُعد بمثابة نقلة جديدة تعكس حجم التأثير الدبلوماسي للثانية، خاصة في ضوء ما تمتاز به العلاقة التونسية الجزائرية من التجذر والتعددية في الكثير من الملفات، الأمر الذي سيدفع نحو إطالة التوتر التونسي المغربي هذا من جانب، ومن جانب آخر من المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة زيارات مكثفة وتعاونًا أوسع بين الرباط ونواكشوط في محاولة منها لاستمالة الأخيرة لصالح دعمها، مما يوجِد حالة من التجاذب والاستقطاب ستنعكس سلبًا على مصالح دول الاتحاد المغاربي نظير استغلال الدول الإقليمية الأخرى (إسرائيل – إيران – تركيا) لتلك التصدعات لخلق موطئ قدم لها في العمق المغاربي.

وفي الأخير، يُمكن القول إن عودة العلاقات التونسية المغربية رهينة مساحة التفاهم الجزائري المغربي، ولعل الإعلان عن مشاركة ملك المغرب “محمد السادس” في القمة العربية التي سوف تستضيفها الجزائر مطلع نوفمبر القادم، يمكن أن يؤدي لحالة من إعادة استنئاف العلاقات المغربية الجزائرية وتدارك الأزمة بينهما، ومن ثم إحتواء الأزمة بين الرباط وتونس، ولكن ذلك شريطة تحريك العلاقات المغربية الجزائرية بصورة إيجابية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/21035/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M