تحولات عكسية: المفاوضات النووية والاختبار الصعب للعلاقات الإيرانية الروسية

 علي عاطف

 

كانت إيران قبل اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية شهر فبراير الماضي تصف المفاوِض الروسي على طاولة المحادثات النووية في العاصمة فيينا بالحليف والمساند لها أمام الدبلوماسيين الأمريكيين والأوروبيين، إذ توافقت الآراء والأهداف الإيرانية والروسية آنذاك في هذا الصدد. ولطالما أثنى الإيرانيون على هذا الدور واصفين إياه بالمحوري الذي لا يمكن الاستغناء عنه، حتى أن البعض داخل إيران تحدث حول تضخم هذا الدور في هذه المفاوضات الحاسمة.

ولكن، بدا منذ إعلان موسكو عن بدء هجومها العسكري ضد أوكرانيا في 24 فبراير الماضي أن هذه النظرة الإيرانية تتغير تدريجيًا، حتى وصلت الآن إلى ما يشبه “الغضب المكتوم” في طهران من التحول الذي أصاب الدور الروسي في المفاوضات النووية بعد 11 شهرًا من المفاوضات المتواصلة.

فمع انطلاق الهجوم الروسي ضد أوكرانيا، بدأت موسكو تطالب بوضع بند جديد في مسودة الاتفاق النووي ينص على ضمان مواصلة تجارتها مع إيران بعد الإعلان عن الاتفاق النووي في وقت لاحق، وذلك على مختلف الأصعدة النفطية والسلعية والفنية. وفي ظل فرض الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عقوباتٍ شديدة على موسكو مؤخرًا في أعقاب هجومها، قوبل الطلبُ الروسي بالرفض، ولا يزال.

حيث ما لبث وزير الخارجية الأمريكي، آنتوني بلينكن، أن أعلن رده على طلب وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الذي جاء في الخامس من مارس الجاري، قائلًا إنه “ليس هناك رابط بين العقوبات (المفروضة على روسيا في ظل الحرب مع أوكرانيا) وإحياء الاتفاق النووي”. وصرّح المفاوضون الغربيون بأن مطلب موسكو منفصل عن مضمون الاتفاق النووي المتوقع مع إيران. وعلى إثر هذا التطور، بات الاتفق النووي على وشك الانهيار، حسبما وصفه مسؤولون بريطانيون وفرنسيون في تحذيرهم الموجه إلى روسيا مؤخرًا.

أما إيران، محور الاتفاق بالأساس، فهي تبدي امتعاضًا كبيرًا فيما يتعلق بالإصرار الروسي على هذا المطلب؛ إذ إنها قطعت أشواطًا وبذلت جهودًا واسعة منذ شهر أبريل 2021 حتى تصل قبيل اندلاع الحرب الروسية الأوكراينة إلى “اتفاق نووي شبه مكتمل” مع الغرب بعد ثماني جولات نووية، كان فقط ينقصُه التوافقُ بشأن بعض الملفات الفرعية.  ولذا، فليس من المستغرب أن نرى بعض الإيرانيين والغربيين المعنيين بالاتفاق النووي يتحدثون في الأيام الأخيرة حول “اتفاق نووي بدون روسيا”.

إيران ملاذ مستقبلي من العقوبات: لماذا تطالب روسيا بالحصول على ضمانات تجارية “مكتوبة”؟

إن المطلب الروسي بضرورة الحصول على ضمانات “مكتوبة” من الولايات المتحدة والغرب يمكن تفسيره في إطار خشية موسكو من التداعيات المستقبلية للعقوبات التي فرضها الغرب عليها بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا. فهذه العقوبات توصَف بأنها الأشد قسوة ضد روسيا في الوقت الحاضر، حيث استهدفت قطاع الطاقة الروسي، بما يشمله من نفط وغاز، وتوقف نتيجة لها تصديرُ موسكو لحوالي ثلاثة أرباع تجارتها النفطية/ في وقت يعتمد فيه الاقتصاد الروسي على عوائدهما المالية داخليًا. وكانت روسيا تصدرقبل الحرب حوالي 5 ملايين برميل نفط يومي للخارج، أي ما يعادل 5% من الاستهلاك العالمي.

واشتملت العقوبات أيضًا على تجميد للأموال الروسية في العديد من الدول الغربية، من بينها حوالي 300 مليار دولار احتياطيات ذهب وعملات أجنبية، وعزل روسيا ماليًا عن نظام “سويفت-SWIFT” الدولي. وتعود بنا هذه التطورات إلى الوضع ذاته الذي تعاني منه إيران.

ولذا، فإن هذا الطلب الروسي يحاول في الواقع تحقيق أهداف ثلاثة:

-الأول: أن تصبح إيران في المستقبل القريب ملاذًا وملجأً خارجيًا لروسيا من العقوبات الغربية عليها، بحيث تظل التجارة على اختلاف أصعدتها مستمرة مع إيران في ظل تلك العقوبات، ما يعني تنفيسًا اقتصاديًا جزئيًا لموسكو تزامنًا مع التراجع الحاد في تجارتها مع الغرب. وهو ما تكرر مع إيران في مرحلة ما بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات عليها في عام 2018، حيث تفاقمت في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب وكان العراق والدول المحيطة بإيران منافذ مناسبة لها.

– الثاني: أن يفرض الدور الروسي الحيوي في الاتفاق النووي ضغوطًا على واشنطن وأوروبا لتوظيفه في أزمة الحرب مع أوكرانيا، خاصة بعد فرض العقوبات على موسكو. فإطالة أمد المفاوضات النووية يمثل عبئًا على أوروبا والولايات المتحدة وإيران تريد هذه الأطراف التخلص منه في أسرع وقت لأسباب عدة، أبرزها: التفرغ للمستجدات الدولية المتعلقة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وضمان واشنطن والاتحاد الأوروبي عدم توصل طهران لسلاح نووي في القريب العاجل بعد تحذيراتٍ غربية من إمكان توصلها لهذا السلاح بعد أشهر، علاوة على احتمالية إبدال الولايات المتحدة والأوروبيين للنفط الإيراني بنظيره الروسي، وهو ما يقودنا إلى النقطة التالية،

– الثالث: مخاوف روسيا من إحلال موارد الطاقة الإيرانية محل الروسية بعد اندلاع حرب أوكرانيا ووجود عقبات أمام تصدير روسيا لنفطها وغازها. وينبع أساس هذه المخاوف الروسية من أن هذا الإحلال، إلى جانب تأثيره اقتصاديًا على الطاقة الروسية، فإنه قد يطيل أمد الصراع أمام موسكو في كييف؛ ذلك لأن مضاعفة إيران لاحقًا لإنتاجها من النفط بطلب أمريكي أوروبي، في ظل ارتفاع أسعاره حاليًا، ورغبة منها أيضًا في الحصول على هذه العوائد سوف يُقيّدُ حينئذ من القدرة السياسية والاقتصادية لارتفاع أسعار الطاقة على أجل إيجاد تسوية للأزمة الأوكرانية بسعي دولي أوروبي أمريكي.

ولعل هذا التوازن في مجال الطاقة تأخذه موسكو على محمل الجد منذ سنوات، وكان دافعًا منذ عقود لتطوير العلاقات الروسية الإيرانية. إذًا، فالعوامل التي تدفع الروس إلى تبني هذا الموقف ذات أهمية بالنسبة لهم ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن أيضًا على مستوى التخطيط المرحلي سياسيًا فيما يخص الأزمة الأوكرانية، ما نستطيع الاستنتاج منه أنها لن تتخلى عنه بسهولة، ما يعني أيضًا مزيدًا من إطالة أمد التفاوض.

“في اللحظات الأخيرة”: كيف استقبلت إيران هذا الطلب الروسي؟

إن الموقف الإيراني من روسيا في الوقت الحاضر قلّما نجد له مثيلًا منذ بدء الطرفين تطوير علاقاتهما خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ودخولها منعطفًا جديدًا بعد أن كان مؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله الخميني، ينحى نهجًا معاديًا له. إذ إن روسيا وإيران يربطهما تحالف استراتيجي ازداد قوة مع صعود الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى الحكم عام 2000، ويحظى بدعم من المرشد الأعلى علي خامنئي.

ولكن المطلب الروسي، الذي جاء في “اللحظات الأخيرة” من المفاوضات النووية في فيينا وبعد التوافق على أغلب الملفات الشائكة بين طهران والغرب، قد أزعج الإيرانيين كثيرًا. وقد قوبل هذا المطلب الروسي بموجة من الاعتراضات داخل وسائل الإعلام الإيرانية سواء المحافظة أو التابعة للإصلاحيين. هذا في الوقت الذي يحاول فيه المسؤولون الرسميون البارزون في طهران اللجوء إلى التصريحات الدبلوماسية لعدم الإضرار بعلاقتهم بموسكو في ظل أيضًا عدم اتضاح تداعيات الحرب الأوكرانية على شكل النظام الدولي أو تغير تحالفاته ومساره.

فعلى سبيل المثال، نجد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، يقول “سمعنا ورأينا تصريحات السيد لافروف عبر وسائل الإعلام، ننتظر التفاصيل عبر القناة الدبلوماسية”، في إشارة إلى طلب روسيا إدراج بند يطالب بضمان تجارتها مع إيران. وأثنى زاده أيضًا على الدور الروسي في المفاوضات واصفًا إياه بـ”المسؤول”.

ولكننا نجد هذا الغضب “المكتوم” في إيران واضحًا بشدة لدى المقربين من النظام على وسائل الإعلام المختلفة، إلى الحد الذي طالب فيه عددٌ منهم بالمضي قدمًا في الاتفاق النووي من دون الحليف الروسي. ونرى هذا المثال بارزًا في صحيفة “آرمان ملي” الإيرانية فی عددها الصادر يوم الاثنين 14 مارس 2022، حيث كان عنوانها الرئيس:”خيار إحياء الاتفاق النووي من دون موسكو“.

ومع إصرار روسيا على هذا الطرح، بدأ المسؤولون الإيرانيون في التصريح بشكل غير مباشر عن عدم رضاهم عن ذلك الموقف، ونجد هنا مستشار الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، يقول في تغريدة له على تويتر يوم 13 مارس إن “تجربة أكثر من 40 عامًا من الثورة علّمت الشعب الإيراني أن الاعتماد على الشرق والغرب لا يضمن حقوقهم وأمنهم”.

وعلى أي حال، على الرغم من تأكيد المسؤولين الرسميين في إيران على استمرار التحالف مع روسيا وعدم تأثر علاقاتهما بهذه التطورات الأخيرة، إلا أن الداخل الإيراني، ممثلًا في بعض الكتاب والمفكرين ذوي الصلة أيضًا بالنظام، باتوا قلقين من إمكان انهيار الاتفاق النووي، وعارض بعضهم المطلب الروسي خاصة لأنه جاء في المرحلة الأخيرة من المحادثات النووية.

“الاختبار الصعب”: هل يتم التوصل إلى الاتفاق النووي بدون روسيا؟

لقد قادت هذه التطوراتُ الأخيرة العلاقاتِ الإيرانية الروسية إلى لحظة حرجة واختبار حقيقي لعمق واستراتيجية التحالف بينهما. فإيران تأمل جديًا في التوصل إلى اتفاق نووي لأسباب عدة مترابطة ببعضها البعض أساسُها السعي إلى إنهاء الحالة الاقتصادية المتردية داخليًا منذ سنوات عن طريق:

– رفع العقوبات الخارجية طبقًا لبنود الاتفاق النووي المتوقع.

– عودة تصدير النفط إلى الخارج، إذ تنوي زيادة معدل إنتاجها اليومي منه إلى 3.8 ملايين برميل نفط يوميًا بعد أن وصل معدل إنتاجها اليومي منه خلال الأشهر التي تلت خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018 إلى أقل من مليون برميل، وارتفع العام الماضي، بعد رحيل ترامب وبدء المفاوضات النووية في أبريل، إلى 2.4 مليون برميل يوميًا.

– وجود حوالي 200 مليون برميل نفط مخزن لم تتمكن إيران من بيعهم بسبب العقوبات.

– ارتفاع مستوى التوقعات الإيرانية إيجابًا في ظل ارتفاع سعر برميل النفط بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية إلى 130 دولار للبرميل الواحد، وبعد أن حددت في موازنة العام الجديد 60 دولار فقط للبرميل الواحد. وهذا الأخير يجعلها أكثر إصرارًا على التوصل إلى الاتفاق.

وعليه، فإن ما سبق يُعد بعضًا مما يفسر إصرار طهران الجذري على التوصل إلى الاتفاق النووي، بل إن الحرب الأوكرانية نفسها تدفعها إلى محاولة الاستفادة القصوى من تقلبات سوق الطاقة العالمي، كما رأينا، وهو ما يفسر لنا لماذا يطرح البعض داخل طهران إتمام الاتفاق من دون موسكو، وأيضًا اللحظة الحرجة التي يمر بها التحالف الإيراني الروسي. فالمطلب الروسي المُشار إليه يضع مسار المفاوضات أمام 3 احتمالات:

– الانتظار حتى التوافق مع روسيا بشأن مطلب حفظ تجارتها مع طهران، ما يشير إلى إطالة أمد التفاوض في وقت لا تبدي طهران فيه نية للانتظار، وقد تحدث تطورات جديدة على الصعيد الدولي تجعل التوصل إلى الاتفاق ذاته أمرًا غير ممكن.

– إتمام الاتفاق من دون روسيا، ما يعني معه بداية مرحلة من التوترات بين إيران وروسيا وتقارب إيراني نسبي مع الغرب، خاصة الدول الأوروبية.

– إتمام اتفاق مغاير تمامًا، يكون بين إيران ومجموعة (4+1) فقط، أو بين الولايات المتحدة وإيران فقط.

ويبدو الاحتمال الثاني صعبًا؛ لأن آلية مجموعة (5+1) شُكلت بطريقة تستوجب معها اللجنة المشتركة الإجماع على جميع القرارات والصيغ الخاصة بالاتفاق النووي. أي أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وألمانيا، يجب أن يبدوا موافقتهم الصريحة على أي مقترح خاص بالاتفاق. وينص الاتفاق النووي لعام 2015 من جانب آخر على نقل احتياطيات اليورانيوم المخصب إلى روسيا، ما يستلزم وجود دولة أخرى غيرها موضع اتفاق تنقل إيران إليها هذه المواد.

ويضعنا هذا الاستنتاج أمام الخيارين الأول والثالث فقط، أي إما تمديد المحادثات لوقت غير معلوم أو توصل إيران إلى الاتفاق النووي مع مجموعة (4+1) أو مع الولايات المتحدة فقط. وإن كان هذا الأخير (أن يكون مع واشنطن فقط) لن يكون دوليًا وقد لا يحوز على موافقة طهران.

الاستنتاج

على الرغم من المكاسب السياسية الداخلية، والنظرية أيضًا، التي يحاول النظام في طهران تحقيقها من خلال توظيف الأزمة الأوكرانية، إلا أن الأخيرة اتضح أنها تضع الآن مستقبل العلاقات الإيرانية الروسية أمام اختبار صعب، بسبب المطلب الروسي الأخير ضمن المفاوضات النووية، ويُضاف إليه اتخاذ إيران موقف الامتناع عن التصويت أواخر شهر فبراير الماضي في إطار مشروع قرار مجلس الأمن الدولي الذي يطالب روسيا بالانسحاب من أوكرانيا، علاوة على التقارب الروسي مع بعض دول الخليج العربية الذي قد لا توافقه طهران.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/68233/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M