تصدير الثروة واغتراب الإنسان : تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية

عمر هشام الشهابي

تركز هذه الدراسة على تبيان وتأريخ نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون، والاقتصاد المرتبط به في عصر النفط. ونوجه سعينا نحو الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هو نمط نمو الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمحورت حوله في دول الخليج العربية في عصر النفط من 1932 إلى يومنا هذا؟ وهل هذا النمط الإنتاجي مستدام، أم أن هناك خلـلاً إنتاجياً يضع استدامته في خطر؟ فكيف يقوم النمط الإنتاجي والنظام الاقتصادي المرتبط به في الخليج بإعادة إنتاج وتجديد نفسه؟ وكيف يقوم بتوفير العوامل الأساسية التي يحتاج إليها من قوة عمل ورأسمال وتكنولوجيا ونقد ومدخلات إنتاج على نحوٍ مستمر حتى يضمن إمكان إعادة تجديد نفسه على نحوٍ متواصل ومنتظم؟ فإن لم يستطع هذا النمط الإنتاجي، لأي سبب من الأسباب، توفير كل هذه العوامل التي يحتاج إليها حتى يضمن استمراريته وتجدده، وثبت وجود الخلل وأنه غير مستدام، فما العمل؟

أولاً: نمط نمو الإنتاج: تصدير النفط واستيراد العمل

حتى نفهم نمط نمو الإنتاج‏[1] في دول مجلس التعاون، علينا أن نبدأ بفهم نمط استملاك واستخراج النفط، إذ تعتبر أراضي دول الخليج المستودع الأكبر والأقل تكلفه لاستخراجه عالمياً حسب التكنولوجيا المتوفرة في القرن العشرين‏[2]. وقد تم تحويل النفط الذي تواجد في باطن أراضي الخليج لملايين السنين إلى سلعة متوهمة (Fictitious Commodity)‏[3]، لها سوقها وسعرها وبائعوها ومشتروها، وأصبحت دول الخليج المزود الرئيسي لهذه السلعة في العالم، وهذا أعطاها كمية ريع هائلة من تصدير النفط. وهذه الكمية المستخرجة من حقول المنطقة بنيت بداية على حسابات شركات النفط العالمية وتوجهت أساساً لحاجات السوق العالمي بدلاً من معطيات الاقتصاد المحلي. وقلة تكلفة استخراج النفط ووجوده بوفرة في المنطقة، وهي عوامل ناجمة أساساً عن الخصائص الجيولوجية والبيئة الاستثنائية بدلاً من تطور قوى الإنتاج والتكنولوجيا في المجتمع، إضافة إلى تصدير النفط بناء على حاجات السوق العالمي بدلاً من اعتبارات الاقتصاد المحلي، أدت إلى تدفق إيرادات هائلة على دول الخليج كانت غير مبنية على اعتبارات القاعدة الإنتاجية وقدرات قوة العمل المحلية.

الخطوة التالية في نمط إنتاج النفط تمحورت حول طريقة التعاطي مع هذه الثروة في دول الخليج، حيث جنت دول المجلس مجتمعة أكثر من 9.60 تريليون دولار أمريكي على أقل تقدير، منذ تصدير أول برميل عام 1932 حتى عام 2015 حسب الأسعار الثابتة (6.63 تريليون حسب الأسعار الجارية). وأدى تدفق هذه الإيرادات الهائلة من الخارج إلى ظهور ما عرف بمشكلة الامتصاص (Absorption Problem): كيف لهذه المجتمعات أن تتعامل مع قوة شرائية تتعدى قدرات قوى الإنتاج فيها في عصر ما قبل النفط أضعاف المرات؟ وكان نمط التعامل مع إيرادات النفط هو التالي: إن الدولة، وهي الجهة التي تستلم إيرادات النفط من العالم الخارجي، استعملت الأغلبية الساحقة من إيرادات النفط لبناء إمارات الحكم المطلق المحدث، حيث تم تركيب الإنفاقات للتأكد من هيمنة الحاكم وعائلته على أعلى الهرم الاجتماعي. واستُعملت إيرادات النفط كتوزيعات وإنفاقات جارية ارتبطت بقرب المكانة الاجتماعية إلى متخذي القرار لمن يستلمها، حيث وزعت لجهات خاصة وعامة عن طريق الرواتب والمخصصات والدعم والخدمات الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى إنفاقات على مشاريع إنشائية تتضخم في فترات الطفرات وتنحسر عند تراجع أسعار النفط. أما في المرتبة الأخيرة فقد جاء الاستثمار في المشاريع العامة المبنية على الإنتاج الربحي وتكاثر رأس المال، التي أخذت نسبة صغيرة جداً من استعمالات إيرادات النفط‏[4].

حركت هذه الإنفاقات باقي الاقتصاد، فنتج منه نمط نمو عام معين، يستند النمو غير النفطي فيه إلى رؤوس الأموال الخاصة، التي تجسدت في صورة شركات عائلية تعتمد أساساً على استيراد العمالة الوافدة متدنية الإنتاجية والحقوق والمهارة والتعليم، وينحصر إنتاجها في قطاعات اقتصادية منخفضة المخاطر وغير قابلة للتصدير، معتمدة على الاستيراد والاستهلاك المحلي العالي، وتركزت أساساً في قطاعات الإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية المصاحبة. وهذا النمط من النمو إجمالاً يعتمد على النمو العددي في صفوف قوة العمل ومدخلات الإنتاج (Extensive Growth)، ولا يستند إلى النمو في الإنتاجية والتطور في التكنولوجيا (Intensive Growth). إضافة إلى الواردات، فقد شكل استملاك واستهلاك البيئة أحد أهم مدخلات الإنتاج، بما فيها الأراضي والبحار والهواء، التي تم تسخيرها بشكل موسع ومتزايد لمتطلبات النمو في عملية الإنتاج. ولم يستطع الموظفون المواطنون منافسة الوافدين من ناحية تكلفة العامل في هذا القطاع الخاص، إذ إن تكلفة إنتاج العامل الوافد تحدد في بلده الأم حيث توجد عائلته، وهذه كانت أقل كثيراً من تلك المطلوبة للمواطنين. ولذلك انحصر دور المواطنين في المؤسسات الحكومية وبنسبة أقل في المشاريع الربحية ذات الملكية العامة، بينما اعتمد القطاع الخاص العائلي بشكل شبه كلي على الوافدين.

تتجدد هذه الدورة عبر قيام أصحاب الشركات الخاصة بإعادة استثمار أموالهم في هذه النشاطات في الاقتصاد المحلي بشكل متواصل، بحيث يتم تجديد وإعادة إنتاج نفس نمط النمو واستمراريته بشكل موسع. ويتميز نمط النمو هذا باعتمادية كبيرة على المدفوعات التي تغادر الاقتصاد المحلي وتتجه إلى الاقتصاد العالمي، والتي تشمل نسبة عالية من الواردات، وتحويلات العمالة الوافدة، إضافة إلى تصدير نسبة معتبرة من رؤوس الأموال خارج دول الخليج لاستثمارها دولياً، وهو ما جعل دول الخليج من أكبر مصدري رؤوس الأموال الخاصة والعامة في العالم.

إذاً، بالإمكان تلخيص دورة النقد في الخليج كالتالي: 1 – استملاك واستخراج النفط وتحصيل الإيرادات من بيعه إلى العالم الخارجي؛ 2 – توزيع الدولة ذات الحكم المطلق المحدث للأغلبية الساحقة من ثروة النفط العامة في شكل مخصصات وخدمات اجتماعية لجهات خاصة وعامة بمعايير تعتمد على القرب من متخذ القرار. هذا إضافة إلى الإنفاق على المشاريع الإنشائية الضخمة، وبنسبة أقل على المشاريع العامة الربحية؛ 3 – ومن ثم تُخلط هذه الأموال المتدفقة في القطاع الخاص العائلي مع مدخلات الإنتاج من البيئة والسلع والعمالة الوافدة ذات الإنتاجية والمهارة والحقوق المتدنية، لإنتاج قطاعات اقتصادية ذات استهلاك واستيراد عاليين في مقابل صادرات لا تذكر، والتي تعيد استثمار بعض من أرباحها في نفس الأنشطة الاقتصادية؛ 4 – بينما تخرج من الاقتصاد كميات عالية من الأموال في شكل رؤوس أموال خاصة وعامة للاستثمار في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى التحويلات من العمالة الوافدة والمدفوعات للواردات.

وإذا ما ألقينا نظرة شاملة (Birds Eye View) على دورة الاقتصاد هذه، نجدها تعتمد على تواصل القدرة على تصدير النفط للعالم الخارجي بأسعار مجزية، حتى تتمكن من تغطية ما يخرج من الاقتصاد من مدفوعات للواردات وتحويلات العمالة الوافدة ورأس المال المغادر للبلاد. هذا إضافة إلى أهمية وجود كميات ومخزونات إضافية من «الطبيعة» بالإمكان استملاكها واستغلالها في عملية الإنتاج، أكانت نفطاً أو أراضي أو بحاراً أو هواءً. ويعتمد الطلب العام (Aggregate Demand) في الاقتصاد المحلي كثيراً على كثافة الاستهلاك العالية من قبل المواطنين والدولة، التي يتم تمويلها أساساً عبر إيرادات النفط المحصَّلة من الخارج، التي توزعها الدولة بدورها على المواطنين. في المقابل، فإن العرض العام (Aggregate Supply) لقوة العمل والسلع التي يحتاج إليها الاقتصاد لتقديم الخدمات والأنشطة الاستهلاكية في الدولة، يتم تزويدها أساساً عبر استيراد العمالة والسلع من الخارج. وبهذا، يعتمد الطلب العام والعرض العام أساساً على معطيات ومعايير تحدد خارج حدود الدولة وتمتد مساحات إعادة تجديدها على مدى العالم، حيث يعتمد تمويل الطلب العام على إيرادات النفط، ويعتمد العرض العام على استقطاب قوة عمل وسلع مستوردة. ولنا أن نبيِّن ذلك عبر دورة النقد في اقتصاديات دول مجلس التعاون:

الرسم البياني الرقم (1)

دورة النقد في اقتصاد من نمط «تصدير النفط – استيراد العمل» OELI

يُعتبر نمط النمو هذا فريداً من نوعه في العالم، وقد اختصرناه بمسمى «تصدير النفط – استيراد قوة العمل» (Oil Exportism-Labour Importism (OELI)) للدلالة على أهم ميزتين يتسم بهما. وإذا أردنا أن نؤطر أهم الخصائص التي تميز نمط التراكم هذا، بحيث إن وُجدت هذه الخصائص في اقتصاد معين، فبإمكاننا إدراج هذا الاقتصاد ضمن فئة OELI، وبوسعنا أن نلخص أهم هذه الخصائص في التالي:

1 – الدولة هي الجهة التي تحصل على ريع النفط (بما فيه الغاز الطبيعي).

2 – يتم جني ريع النفط من بيعه خارج الاقتصاد المحلي.

3 – يشكل النفط جُل صادرات الاقتصاد المحلي إلى الخارج.

4 – تُمول جُل مصروفات الدولة المحلية (بما فيها الجارية والرأسمالية) من إيرادات النفط.

5 – تكوّن مصروفات الدولة المحلية جُل الإنفاق في الاقتصاد المحلي غير النفطي.

النقاط السابقة مرتبطة بتصدير النفط وأوجه إنفاقه من جانب الدولة في الاقتصاد، وهذا كما ذكرنا سابقاً هو أحد أهم عاملين في تكوُّن نمط التراكم في الخليج. أما العامل الثاني المهم، فلنا أن نضيفه كمحدد رئيسي أيضاً في الخاصية السادسة:

6 – قوة العمل مستوردة من خارج مساحة الاقتصاد المحلي.

إذا وُجدت هذه الخصائص في اقتصاد معين، فبإمكاننا أن نسمي الاقتصاد من نمط OELI. ويجب أن نؤكد أن ما نبيِّنه أعلاه إنما هو نوع معياري (ideal-type) لنمط نمو يعتمد بشكل كامل على النفط والعمالة الوافدة‏[5]. وبالطبع لا يوجد اقتصاد يمتثل كلياً لهذه المواصفات، إلا أن دول الخليج تقترب جداً من ذلك، إذ إن هذه الخصائص (1 إلى 6) تنطبق عليها بنسب عالية جداً. إذاً، كلما اقتربت خصائص أي اقتصاد من خصائص النمط المعياري المذكور أعلاه، كان بإمكاننا تسمية نمط تراكمها بنمط OELI. وفيما عدا دول الخليج، قد تكون الدول الوحيدة التي ينطبق عليها هذا النمط في عصرنا هما ليبيا في عهد القذافي (على الرغم من اختلاف نظام السلطة) وسلطنة بروناي، وإن كانت بنسب أقل كثيراً من دول الخليج (وخصوصاً من ناحية نسبة العمالة الوافدة).

الجدول الرقم (1)

درجة امتثال اقتصاديات دول مجلس التعاون لخصائص نمط النمو OELI في بدايات القرن الحادي والعشرين

(بالنسبة المئوية)

الدولة الإمارات البحرين السعودية عمان قطر الكويت
نسبة حصة الدولة من إيرادات النفط محلياً(أ) 100 100 100 100 100 100
نسبة الصادرات من إجمالي إيرادات النفط(ب) >90 >80 >90 >90 >90 >90
نسبة النفط من إجمالي الصادرات(ج) 61 80 61 86 88
نسبة مصروفات الدولة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي(د) 48 38 60 85 72 91
نسبة النفط من إجمالي إيرادات الدولة(هـ) 82 90 93 87 70 94
نسبة الوافدين في إجمالي قوة العمل(و) 92 79 59 82 95 83

* صادرات الإمارات من النفط تتضمن الكثير من الواردات المعاد تصديرها عبر دبي (re-exports)، لذلك لم يجرِ إدخالها.

(أ) يقيس هذا المقياس حصة الدولة من إجمالي إيرادات النفط المحصلة من قبل الأطراف المحلية (في مقابل أي إيرادات تذهب للقطاع الخاص المحلي). وتذهب كل إيرادات النفط المحصلة من الأطراف المحلية في الخليج إلى الدولة، على عكس الحال في أمريكا مثـلاً، حيث يعود عائد النفط إلى الأفراد والشركات الخاصة المحلية التي تملك الأرض التي يتواجد فيها النفط.

(ب) لا تتوافر أرقام دقيقة حول قسمة إيرادات الدولة النفطية بين النفط المباع محلياً أو خارجياً، إلا أنه لا شك في كون نسبة الإيرادات الخارجية كبيرة وتتعدى 80 بالمئة، ذلك أن غالبية نفط دول الخليج يباع في الخارج بنسبة تتعدى 75 بالمئة في كل دول الخليج، ولأن النفط المباع محلياً مدعوم في السعر بشكل كبير، مما يقلل من الإيرادات المحصلة منه.

(ج) الإحصاءات لعام 2014: «Economic Diversification in Oil-Exporting Arab Countries,» IMF (April 2016), p. 13, <https://goo.gl/qF2FGV>.

(د) الإحصاءات لعام 2012 فيما عدى الإمارات لعام 2013. ومن المهم التنويه أن هذه الأرقام لا تعكس دور إنفاق إيرادات النفط المضاعف في تمكين بقية الإنفاق في الاقتصاد، حيث يتم تدوير هذه الإيرادات في الاقتصاد عبر الأطراف المختلفة عبر ما يسمى المضاعف الريعي (Rentier Multiplier)، بحيث إن احتسب هذا المضاعف ارتفعت نسبة دور إيرادات النفط في الاقتصاد غير النفطي إلى ما يزيد عن 80 بالمئة، للمزيد انظر الفصل السادس من هذا الكتاب.

(هـ) نستعمل هذا المعيار كمقارب (Proxy) لنسبة مصروفات الدولة الممولة من قبل إيرادات النفط. الأرقام لسنة 2011.

(و) الأرقام لعام 2016.

على أرض الواقع، تبلور هذا النمط الاقتصادي بشكل ملموس في بناء المدن الحديثة والأنشطة الموازية لها، ولكن هذه المدن والأنشطة كانت من نوع خاص، نسميها «مدن الحداثة النفطية»، وذلك لأنها اعتمدت على النفط ليس فقط من ناحية إيرادات بيعه للخارج، بل أيضاً على استخدام النفط والتكنولوجيا المصاحبة له لتوفير أبسط مقومات الحياة فيها، بما فيها تحلية المياه وإنتاج الطاقة. وبذلك، فإن النفط أدّى دوراً أساسياً في اقتصاد دول مجلس التعاون من ناحية توفير القيمة التبادلية (Exchange-value) (النقد) للاقتصاد ليمول مدفوعاته إلى الخارج، ولكن أدى دوراً أساسياً أيضاً من ناحية القيمة الاستعمالية (Use-value) عبر استخدامه لتزويد أسس الحياة في هذه المجتمعات.

وقد بنيت هذه المدن في دول الخليج على نمط الحداثة العالية، التي اتخذت السيارات وفلل الضواحي كالوحدات الرئيسية في تصميمها. وتتميز هذه المدن بنموها السكاني العالي، وكثافة استهلاكها للسيارات والشوارع والمياه والغذاء والطاقة والمنشآت العمرانية الضخمة، على نمط مدن الضواحي التي تعتمد على السيارات (Suburban Car-based Cities) المستوحاة مما يسمى «المدن المشمسة» (Sunbelt Cities) في الولايات المتحدة، كلوس أنجلوس وهيوستن، حيث أصبحت دول الخليج أعلى دول العالم استهلاكاً على المستوى الفردي بلا منازع. بل وحتى إن بعض دول الخليج وصلت إلى مرحلة بناء مدن من هذا النوع تتعدى حاجات سكانها المحليين، وموجهة في الأساس إلى المشتري «الدولي»، بحيث سارعت في بناء «مدن دولية» في بدايات الألفية الثالثة، وذلك حتى يتم التواصل في هذا النمط الاقتصادي المبني على تدوير عوائد النفط في إنشاء مدن ذات كثافة في الاستهلاك والاستيراد.

ومن المهم أن نشدد على مركزية استملاك واستهلاك الطبيعة في نمط نمو الإنتاج في دول مجلس التعاون. فإن كنا قد ركزنا في السرد السابق على اعتمادية اقتصاديات دول الخليج بشكل مفرط على استملاك وتصدير النفط بالإضافة إلى استيراد قوة العمل الوافدة كالمحورين الرئيسيين لنمط نمو الإنتاج، والذي لخصناه في مصطلح OELI، فإن تحليلنا لن يكون مكتمـلاً إذا لم نضف إليهما استملاك واستهلاك البيئة كعمود ثالث. وهذا الاستملاك والاستهلاك للبيئة يشمل النفط الذي يتم حرقه واستغلاله في سبيل نمو النمط المعين من الإنتاج والاستهلاك الذي برز في دول المجلس، ولكن يتعدى ذلك ليشمل الأراضي والبحار والهواء الذي ما انفك يتم استغلالها بشكل توسعي في سبيل تفعيل النمو الاقتصادي. وبذلك، فإن النمو العددي في إنتاج دول مجلس التعاون لا يعتمد على النمو العددي فقط في قوة العمل، بل يعتمد أيضاً على النمو العددي في مدخلات الإنتاج، وعلى رأسها استملاك مكونات الطبيعة وتسخيرها لهذا الأمر.

ثانياً: الخلل الإنتاجي: دورة التجديد والاستدامة

إذاً ما هو الخلل الإنتاجي في نمط النمو هذا؟ حتى نبين هذا الخلل علينا أن نحلل دورة الإنتاج السابقة، وبناء عليها فبإمكاننا الحديث عن نوعين من الخلل. الأول يرتبط بعملية الإنتاج نفسها، ويمكن تعريفه بالتأخر النسبي في تقنيات نمط نمو الإنتاج مقارنة بأنماط نمو الإنتاج الأخرى. كمثال، فقد يعتبر نمط النمو متأخراً نسبياً من ناحية التكنولوجيا والإنتاجية، أو من ناحية طبيعة السلع المنتجة، بحيث إنه لا يستطيع إنتاج سلع وخدمات بتكنولوجيا متقدمة تنافس ما ينتجه نظراؤه من مجتمعات.

أما النوع الآخر من الخلل فيرتبط بالقدرة على الاستدامة، وخصوصاً في القدرة على ضمان إعادة إنتاج وتجديد الشروط الأولية ليستمر نمو نمط الإنتاج في دورته بشكل متواصل. إذاً علينا أن نسأل: كيف يقوم نمط النمو الإنتاجي والنظام الاقتصادي المرتبط به في الخليج بإعادة إنتاج وتجديد نفسه؟ وكيف يقوم بتوفير العوامل الأساسية التي يحتاج إليها بصورة متواصلة حتى يضمن إمكان إعادة تجديد نفسه بشكل متواصل ومنتظم؟ فإن لم يستطع هذا النمط الإنتاجي، لأي سبب من الأسباب، ضمان توافر وتجدد كل من هذه العوامل التي يحتاج إليها حتى يضمن استمراريته وتجدده، فهناك خلل – أي أنه غير مستدام. وهذا يعني أنه علينا تبيان ماهية هذه العناصر الأساسية التي يحتاج إليها أي نظام إنتاجي – اقتصادي ليضمن تواصله وتجدده، والنظر إلى دورة التجديد (Cycle of Reproduction) لكل منها التي تضمن استمرارية وتوفير هذا العنصر. ويعتبر هذا الهدف هو المرتكز الرئيسي للدراسة: تبيان خصائص وطبيعة وتاريخ نمط نمو الإنتاج السائد في الخليج، وما إذا كان نمط نمو الإنتاج هذا قادراً على إعادة إنتاج وتوليد نفسه اجتماعياً (Social Reproduction)، وبذلك يكون مستداماً على المدى البعيد.

وحتى نحلل هذين النوعين من الخلل في دول مجلس التعاون، تبين لنا أنه يجب أن ننظر إلى قطاع النفط بشكل خاص لكونه المحرك الرئيسي للاقتصاد، إضافة إلى تحليل نمط النمو العام في بقية الاقتصاد غير النفطي. ومن ناحية قطاع النفط، يتمثل الخلل الإنتاجي بكون إنتاج القطاع مبنياً على قلة تكلفة استخراج النفط ووجوده بوفرة في المنطقة، وهي أساساً نتاج الخصائص الجيولوجية (أي البيئية) الاستثنائية للمنطقة بدلاً من تطور قوى الإنتاج والتكنولوجيا في المجتمع. وبداية، فقد خُطِّط الإنتاج في هذا القطاع بناء على اعتبارات شركات النفط العالمية لمصالحها الربحية الخاصة، التي رسمت خطط إنتاجها استناداً إلى حاجات واعتبارات السوق العالمي بدلاً من معطيات قوى الإنتاج في الاقتصاد المحلي، وتواصل هذا التوجه نحو تلبية اعتبارات السوق العالمي حتى في عصر تأميم النفط. والريع العالي الناتج من قلة تكلفة استخراج النفط ووجوده بكثرة في المنطقة نظراً إلى خصائص جيولوجية بحتة، بالإضافة إلى تصديره بناء على حاجات السوق العالمي بدلاً من اعتبارات قوى الإنتاج في الاقتصاد المحلي، أدى إلى تدفق إيرادات هائلة على دول الخليج بطريقة لا تعكس إنتاجية قوة العمل فيها. وقد سبب ذلك خلـلاً لأنه أصبح على دول الخليج التعامل مع إيرادات هائلة متقلبة ليست مبنية على مستوى تطور القاعدة الإنتاجية وقوة العمل فيها، وبذلك أصبحت هذه الإيرادات التي يتم تحديدها في السوق العالمي هي العامل الرئيسي الذي يسيّر ويهيمن على بقية قوى الإنتاج في المجتمع بدلاً من العكس.

أما الخلل الإنتاجي من ناحية عدم الاستدامة، فإضافة إلى كون النفط مورداً ناضباً، فإن أساس هذا الخلل يتمثل بالقدرة على إعادة إنتاج صناعة النفط وكيفية استعمال إيرادات النفط. من ناحية صناعة النفط، فعلى الرغم من مرور أكثر من ثمانين سنة من إنتاج النفط، إلا أن دول الخليج ما زالت غير قادرة على إنتاج وتصنيع الآلات التي تحتاج إليها لاستمرارية وإعادة إنتاج هذه الصناعة ذاتياً، من معدات حفر الحقول ومصانع التقطير والتكرير… إلخ، إذ إنها تعتمد بشكل شبه كلي على الشركات العالمية الأجنبية لتزويدها بهذه المعدات وبناء المصانع. وبذلك، فإنه حتى في أهم قطاع إنتاجي لدول الخليج، لا تزال هذه الدول غير قادرة على ضمان إعادة إنتاج هذا القطاع بشكل دائم ومستمر بشكل ذاتي. ولنا أن نقارن ذلك مع النرويج، التي أصبحت من الدول الرائدة في مجال تصنيع معدات وآلات قطاع النفط، حتى وصلت إلى مرحلة تصديرها.

أما من ناحية إيرادات النفط، فتمثل الخلل الإنتاجي بعدم استعمال معظم هذه الإيرادات النفطية كرأسمال عام يستثمر كثروة عامة في أنشطة إنتاجية لتتكاثر قيمة هذه الثروة بناء على مبدأ تراكم رأس المال العام. بل استعملت الأغلبية الساحقة من إيرادات النفط إما في مشاريع إنشائية متضخمة من دون عائد للدولة، أو كتوزيعات ومخصصات جارية لم ترتبط بالإنتاج، تزداد مع قرب المكانة الاجتماعية لمن يستلمها من متخذي القرار في الدولة، حيث وزعت الإيرادات لجهات خاصة وعامة عن طريق الرواتب والمخصصات والدعم، وهذه أخذت الأغلبية الساحقة من إيرادات النفط. أما توجيه عائدات النفط للاستثمارات والمشاريع العامة، فلم يأخذ إلا حصة صغيرة من دخل النفط. وبهذا تحولت إيرادات النفط، التي من المفترض أن تكون ملكاً عاماً يتم استثماره بشكل إنتاجي مستدام حتى يتكاثر كثروة عامة لمختلف الأجيال المتعاقبة، إما إلى مشاريع إنشائية ضخمة دون دخل للدولة وتحتاج إلى صيانة مستمرة، وإما إلى مخصصات جارية غير متجددة وغير مرتبطة بالإنتاج، للجهة الخاصة التي تحصل على حق التصرف بها كما تريد.

أما إذا حولنا ناظرينا إلى الإنتاج في بقية الاقتصاد، فيتمثل النوع الأول من الخلل الإنتاجي، الذي يرتبط بالإنتاجية والتكنولوجيا في هذا الاقتصاد، بأن الإنتاج في الاقتصاد فيما عدا قطاع النفط (وقطاع المشاريع العامة نسبياً)، يعتمد على قوة عمل وتكنولوجيا ذات إنتاجية متدنية ومستمرة في التدني، بحيث لا يستطيع المنافسة على مستوى العالم من ناحية الصادرات. ويعتمد في إنتاجه أساساً على العمالة الوافدة متدنية الإنتاجية والحقوق والمهارة والتعليم، التي يتمحور إنتاجها في قطاعات اقتصادية منخفضة المخاطر وغير قابلة للتصدير. هذا بالإضافة إلى استناد نموه إلى توسع مطرد في استملاك واستهلاك مواد الطبيعة في عملية الإنتاج، في قطاعات تعتمد أساساً على الاستيراد والاستهلاك المحلي العالي، ومتركزة أساساً في قطاعات الإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية المصاحبة. وهذا النمط من النمو يعتمد إجمالاً على النمو العددي في كميات مدخلات الإنتاج، وخصوصاً مواد الطبيعة وقوة العمل منها، ولا يستند إلى النمو في الإنتاجية والتطور في التكنولوجيا.

أما النوع الآخر من الخلل الإنتاجي، الذي برأينا هو البعد الأعمق، فهو الخطر الشديد من عدم استدامة نمط نمو الإنتاج هذا الذي برز في الخليج على مدى السنوات الستين الماضية. وهذه الخطورة تبرز في أكثر من شكل من عدم قدرة نمط النمو على توفير الشروط الأساسية لإعادة إنتاج نفسه. أولاً، إن الاقتصاد يعتمد على ضخه بصورة متواصلة بإيرادات تصدير النفط، وذلك حتى يمول المدفوعات التي تخرج من الاقتصاد من واردات وتحويلات عمالية ورؤوس أموال، والتي تهرب من الاقتصاد بلا عودة. والعوامل التي تحدد دورة الاقتصاد المحلي، وطلبها على الواردات وقوة العمل من السوق العالمي ورؤوس الأموال التي تخرج من الاقتصاد، تختلف كلياً عن العوامل التي تحدد طلب السوق العالمي للنفط، وبالتالي تختلف كلياً عن العوامل التي ستحدد الإيرادات التي تحصلها دول الخليج من النفط. فدورة الاقتصاد المحلي تدخل فيها عوامل الطلب على السلع والغذاء والمعدات المستوردة… إلخ، إضافة إلى عوامل الطلب على العمالة الوافدة، وأخيراً حسابات أصحاب رؤوس الأموال الخاصة حول تصدير أموالهم إلى الخارج، التي تختلف عن العوامل في الاقتصاد العالمي التي تحدد إيرادات النفط التي تحصّلها دول الخليج. إذاً، لدينا مساحتان مختلفتان: السوق المحلية، والسوق العالمية، لكل منهما عواملها الخاصة، ولكن تربط هاتان المساحتان إيرادات النفط المحصلة من الخارج، التي تستعملها دول الخليج لتدفع تكلفة وارداتها واستثماراتها في العالم. وبهذا فإن دول الخليج تعتمد بشكل جذري على السوق العالمي ليواصل ضخها بإيرادات النفط. ولكن عوامل الطلب على إيرادات النفط محلياً، تختلف عن العوامل التي تحدد ما تجنيه دول الخليج في سوق النفط العالمية. وإذا ما عجز الاقتصاد عن تحصيل إيرادات النفط الكافية من الخارج لتلبية متطلبات دورته المحلية لأي سبب من الأسباب، فإن دورته الاقتصادية ستنقطع وتكون غير مستدامة.

وعدم استدامة نمط النمو هذا يبرز في أكثر من مفصل من الاقتصاد، ولنا أن نتفحص دورة النقد في اقتصاديات دول الخليج (الرسم البياني الرقم (2)) كي تتبين لنا نقاط التماس والتناقض الممكنة في هذه الدورة، الموجودة تقريباً في كل خطوة منها. ففي أي من الخطوات السابقة بالإمكان أن تتطور أزمة ما تضع إمكان تواصل الدورة ككل في خطر إن هي تبلورت على أرض الواقع. فإذا ما أخذنا الخطوة 1a، وهي أساس ما يدخل دول الخليج من إيرادات النفط، فقد تسبب هذه الخطوة أزمة إن تدنت إيرادات النفط أكثر فأكثر. وقد يكون ذلك نظراً إلى هبوط سعر النفط في العالم بسبب انخفاض الطلب عليه (كمثال نظراً إلى زيادة عدد السيارات السارية على الكهرباء) أو لهبوط تكلفة إنتاجه (كما يحصل منذ عام 2017 مع انخفاض تكلفة إنتاج النفط عبر عملية تكسير النفط الصخري)، أو لأن النفط بدأ ينضب وبذلك تنخفض الكمية التي يمكن تصديرها من الدولة. وقد تكون هذه أول وأهم نقطة تماس في دورة النقد في الخليج؛ فبدون إيرادات النفط ما من شك أن دورة الاقتصاد الحالية ستنهار. وإذا ما نظرنا إلى كمية إيرادات النفط نسبة إلى عدد مواطني دول المجلس، فإن الإيرادات نسبة لكل مواطن تتقلب مع أسعار النفط، كما أن معدلها يهبط تدريجياً على مر الزمن بسبب ارتفاع أعداد المواطنين بشكل متواصل (ناهيك بالارتفاع في أعداد الوافدين).

الرسم البياني الرقم (2)

إيرادات النفط بالأسعار الثابتة لعام 2015 مقسومة بأعداد المواطنين على مر الزمن

المصدر: أجهزة الإحصاء الرسمية (GLMM).

نقطة تماس أخرى هي في الخطوة 2a، بحيث قد تتزايد إنفاقات الدولة لدرجة تفوق إيراداتها. وعلى الرغم من أن المحللين كانوا يرون ذلك من سابع المستحيلات خلال طفرة السبعينيات، إلا أن هذه أضحت حالة عانت منها كل دول الخليج في الثمانينيات والتسعينيات نظراً إلى تضخم المصروفات وقلة الإيرادات، كما دخلتها كل دول الخليج مرة أخرى مؤخراً وبلا استثناء منذ العام 2015. وهذه أيضاً ستسبب ضغطاً على إمكان تواصل نمط نمو الإنتاج أن استمرت لفترة من الزمن، بما أن إنفاق الدولة يؤدي دوراً محورياً في نمط النمو. وقد تتبلور هذه الأزمة عبر ارتفاع سعر الفائدة على القروض للدولة، أو حتى عدم وجود مقرضين للدولة وبدء رؤوس الأموال بالخروج من الاقتصاد المحلي، كما حصل لليونان في نفس الفترة.

الخطوة 3 أيضاً ممكن أن تصبح مصدراً للأزمات، التي قد تتألف من عدة تجليات. أولها، هو في العلاقة ما بين الدولة والمواطنين، إذ إن عدد المواطنين الذين يعانون من البطالة قد يزيد مع تضاؤل قدرة الدولة على توظيفهم في القطاع العام، وقد ينخفض مستوى المعيشة لدى المواطنين مع تقلص الريع النفطي الذي تحوله الدولة لهم. وقد بدأت بوادر هاتين الظاهرتين بالظهور بنسب متفاوتة في دول الخليج، إذ اتخذت كل دول الخليج خطوات تقشفية شملت رفع سعر الطاقة والمياه والمحروقات وحتى خفض علاوات الرواتب في خضم الأزمة النفطية منذ عام 2016. كما بدأت نسب البطالة بالارتفاع بين صفوف المواطنين منذ تسعينيات القرن الماضي.

نقطة تماس محتملة أخرى هي في العلاقة ما بين رأس المال والعمل، إذ إنه في خضم الصعوبات الاقتصادية، فإن الدولة تدفع بالمواطنين للعمل في القطاع الخاص، وأن يقبل القطاع الخاص بتوظيفهم. وقد تتطور الأزمة إن واصلت الشركات الخاصة المحلية رفضها توظيف المواطنين أو التحايل على ذلك عبر التوظيف الوهمي، والاستمرار في الاعتمادية المطلقة على العمال الوافدين. في المقابل فقد يرفض المواطنون العمل في القطاع الخاص في ظل الحقوق والرواتب المتدنية في هذا القطاع فتتفاقم مشكلة البطالة. وقد تكون نقطة تماس ثالثة محتملة هي في أن يطالب العمال الوافدون بحقوقهم بصورة أكثر تنظيماً، حيث برزت عدة تظاهرات واعتصامات وإضرابات في خضم الأزمة النفطية الأخيرة في صفوف العمال الوافدين المطالبين بحقوقهم، إضافة إلى تزايد المطالبات من المنظمات الحقوقية العالمية في هذا المجال. وعموماً، فإن الأزمة الكبرى التي تخاف منها أي دولة هي نشوب اضطرابات اجتماعية أو انتفاضات أو حتى ثورات فيما بين سكانها إن وصل الوضع الاقتصادي – السياسي إلى مستوى لم يعد الناس يقبلون به، وهذه بالتأكيد ستسبب أزمة لنمط النمو. وأظن أن أحداث ما سمي «الربيع العربي» منذ عام 2011 هي أفضل علامة على ذلك.

أخيراً وليس آخراً، فقد تنشب أزمة أيضاً في الخطوة 4، إذ قد تزيد الأموال التي تخرج من الاقتصاد على تلك التي تدخل إليه، إما عبر زيادة الواردات المطردة، وإما عبر هروب النقد ورؤوس الأموال إلى الخارج، أو ارتفاع تحويلات العمالة الوافدة. وكل هذه قد تضغط على الحساب الجاري وعلى مخزون الدولة من العملة الصعبة في ظل انخفاض أسعار النفط. وقد دخلت السعودية والبحرين وعُمان هذه المرحلة في عام 2015، وخصوصاً في حالة الدولتين الأخيرتين ذات الاحتياطي المتواضع من الدولارات، حيث انخفض مخزونهما من العملة بشكل قد يضعضع الثقة في قدرة الدولة في المحافظة على أسعار صرف عملتها وربطها بالدولار. وإن تواصل العجز في الحساب الجاري واستمر هروب رؤوس الأموال بأعداد كبيرة ولفترة ممتدة من الزمن، بحيث يزيد النقد الذي يخرج من الاقتصاد أكثر على ما يدخل له، فعادة ما تتجسد الأزمة في شكل أزمة عملة وانهيار قدرة البنك المركزي على تثبيت سعر صرفها مع الدولار.

هل أي من هذه الأزمات الاقتصادية ممكنة الحدوث في دول الخليج؟ وإن كان الأمر كذلك فأي منها يعتبر الأقرب والأكثر توقعاً حتى كتابة هذه السطور في 2018؟ من ناحية السؤال الأول، فبالتأكيد هناك احتمال حدوث بعضها، بل إن دول الخليج تواجه بعض هذه الأزمات حالياً. ففي عام 2015 هبطت أسعار النفط بصورة كبيرة، وأصبحت كل دول الخليج تعاني عجزاً في الميزانية. كما بدأت حالات التقشف تضر بالمواطنين وتقلل الريع النفطي الموجه إليهم وترفع من سخطهم، وأدت ضغوط البطالة إلى أن تدفع الدولة القطاع الخاص إلى توظيف المواطنين، إلا أن المواطنين عموماً غير راضين بذلك حتى الآن، وكذا القطاع الخاص. ومن غير المعروف إن كانت ستنجح خطوات الحكومة في هذا المسعى، وخصوصاً أن سياسات توطين سوق العمل قد فشلت مراراً في العقود السابقة. كما بدأت أيضاً بعض الإضرابات تنشط في صفوف الوافدين، وخصوصاً في ظل عدم دفع بعض الشركات لرواتبهم في ظل الأزمة، كما كان الحال مع شركة سعودي أوجيه الإنشائية. وقد كان هناك ضغط كبير من هذه الناحية أيضاً من العمال والوافدين ومؤسسات حقوق الإنسان، التي بدأت تشدد حملاتها على دول الخليج لانتزاع حقوق أكثر للعمال الوافدين، كما تبين الحملة على قطر في خضم استعداداتها لكأس العالم 2022. وتبقى الانتفاضات العربية في عام 2011، التي شملت بعضاً من دول الخليج، وخصوصاً تلك ذات الدخل المحدود، شبحاً يخيم على حكوماتها من ناحية إمكان نشوب انتفاضات فيما بين شعوبها. وأخيراً وليس آخراً، فإن الحساب الجاري قد دخل نطاق السالب في السعودية والبحرين وعمان عام 2016، ونزلت احتياطيات العملة الأجنبية في كل دول الخليج بشكل متسارع، منذرة بأن تواصل الحال على المديين المتوسط والبعيد فإن أزمة العملة قد لا تكون بعيدة في بعض هذه الدول.

وإن كانت كل من هذه الأزمات محدقة، فأي منها قد ينفجر قبل الأخرى؟ لا نعلم، وليس دورنا هنا أن نتكهن بالمستقبل، إذ كذب المنجمون ولو صدقوا، ولكن أياً منها ممكن، في رأيي، بل من الممكن أن تتبلور أكثر من واحدة منها في آن واحد. فمن الخطأ النظر إلى كلّ نقاط التماس والتناقض هذه على أنّها قضايا مستقلة، أو اعتبار هذه الخطوات على أنّها مجرّد مجموعة من المشاكل المشتتة وغير المترابطة جوهرياً. فمن المهم أن نحلل أوجه الترابط فيما بين هذه العناصر المتضافرة في ظل نمط نمو الإنتاج العام. ومن الخطأ معاملة نمط نمو الإنتاج وعوامل الإنتاج التي تدخل فيه وكأنّها ظواهر جامدة، يستحيل أن يطرأ عليها التّغيير، فجدلية التّاريخ لا تتحرّك في خطوط مستقيمة مرسومة مسبقاً، بل إنّ التغيرات المستمرة في عوامل دورة الإنتاج، والتناقضات التي تولدها، تجعل من الصعب، بل من المستحيل، التنبؤ بدقة بكل ما قد يحصل من توابعها. وعلى نفس القدر من الأهمية كيفية تعامل الأطراف ذات المصلحة مع هذه التغيّرات. فعندما تخرج التبعات عن المألوف، تجد الأطراف المختلفة نفسها على المحك، وخارج نطاق ما اعتادت التعامل معه، أكانت الأنظمة المحلية، أم فئات الشعب المختلفة، أم القوى الدولية.

وعلى الرغم من ذلك، بل بسبب ذلك، يصبح مهماً أن ننظر إلى نمط نمو الإنتاج ودورة إعادة إنتاجه وتجديده بصورة شمولية، كي نفهم أوجه الخلل الرئيسية في عدم استدامته، مع أهمية أن نبقي في البال بأن معرفة وعلم الإنسان محدودة بحيث لا يستطيع التكهن بكل التداعيات التي قد تنتج من هذا العدد اللامحدود من التعاملات والعلاقات الاجتماعية فيما بين المليارات من البشر. وإذا ما حاولنا أخذ هذه النظرة العامة الشاملة لنمط نمو الإنتاج في الخليج، فيتبين لنا أن هناك عوامل بنيوية عميقة قد تسبب خطراً أكثر تجذراً من ناحية استدامة نمط نمو الإنتاج، وخصوصاً من ناحية قدرته على توفير وإعادة إنتاج العوامل الرئيسية التي تدخل في دورته.

إن معظم الأزمات التي بيّناها مسبقاً في خطوات دورة النقد، بالإمكان نظرياً مداواتها عبر إعادة توازن الاقتصاد والمالية والإنفاق. فبالإمكان كمثال خفض إنفاق الدولة، أو زيادة الضرائب لتعظيم إيراداتها، وبذلك تتم حلحلة الأزمة في مالية الدولة، على الرغم من التداعيات الاجتماعية التي قد تترتب على ذلك. كما بالإمكان خفض الواردات أكثر فأكثر لمعادلة الحساب الجاري، أو وضع القيود على خروج رؤوس الأموال من البلاد، أو تغيير سعر صرف العملة… إلخ، من حلول إجرائية لضبط تدفق الأموال إلى خارج البلاد، والتي اضطرت الكثير من الدول كالأرجنتين واليونان لتطبيقها لإعادة الهيكلة المالية ودورة النقد في الاقتصاد. لكنه في رأينا حتى هذه الأزمات التي بيناها أعلاه، وعلى الرغم من خطورتها الجمة، فإنها لا تمثل أساس الخطر الرئيسي المحدق بدول مجلس التعاون بعدم استمرارية نمط نمو إنتاجها، بل المشكلة أعمق وتتمثل بأن نمط نمو الإنتاج نفسه قد يفقد القدرة على تزويد العوامل الرئيسية التي يحتاجها لإعادة إنتاج وتجديد نفسه.

وقد يكون أكبر سبب لعدم استدامة هذا النمط الإنتاجي، هو أن دول الخليج غير قادرة بنفسها على ضمان توفير وإعادة تجديد العوامل الأساسية لنمط نمو إنتاجها دون الاعتمادية على الغير، بل إنها تعتمد بصورة رئيسية على بقية العالم ليواصل تزويدها بهذه العوامل، التي تتحمل دول الخليج تكلفتها عبر الاعتمادية الكلية على تصدير مورد واحد وهو النفط. وهذا يشكل خطراً عليها من عدم الاستدامة على المدى الطويل ومن التقلبات الحادة على المدى القصير، نظراً لاختلاف محددات السوق المحلي في مقابل السوق العالمي بشكل جذري. وأول مخاطر عدم القدرة على تجديد عوامل الإنتاج هي بالتأكيد في سوق النفط، الذي يعتبر مورداً ناضباً تعتمد عليه دول الخليج كلياً لقبض الأموال التي تحتاج إليها من الخارج وضخها في دورة الاقتصاد المحلية. فان اختفى النفط كلياً، توقفت الدورة السابقة كلياً أيضاً في ظل نمطها الحالي، إذ يكون أساس هيكلها الإنتاجي قد انهار وليس بإمكانها أن تتواصل عبر أية حلول مالية أو إجرائية ترقيعية.

لكنْ، إضافة إلى مخاطر الاعتمادية المفرطة على إنتاج النفط وإيراداته التي ناقشناها، تظهر خطورة عدم القدرة على توفير عوامل الإنتاج بشكل مستمر جليةً في حالة قوة العمل، وهو العامل الإنتاجي الذي يشكل العنصر الأهم وأساس أي نمط إنتاجي في العالم. ففي كل دول العالم في القرن الحادي والعشرين ما عدا دول الخليج، تكون السمة الطاغية هي أن كل دولة تحرص على أن تكون دورة تجدد وإعادة إنتاج قوة عملها هي دورة وطنية في الأساس، وهذا يعني أن قوة العمل في الدولة يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها داخل الدولة أساساً، ولا تعتمد بشكل مفرط في إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل على مساحات خارج حدودها. فأساس مبدأ سوق العمل في الدولة الحديثة هو أن سوق العمل يمتد على المستوى الوطني، حيث تتم ولادة وتدريب وتوظيف العمال في أي دولة إجمالاً داخل نطاقها وحدودها، من خلال مواطنيها، بحيث يكون المواطنون هم التيار الرئيس في تزويد سوق العمل. بل عادة ما تحرص الدول على توطين المهاجرين والوافدين كي تضمن أن يصبحوا جزءاً من سوق العمل الوطني. وكل ذلك يحدث أساساً كي تكون كل دولة مستقلة وقادرة على التحكم والتأثير وإعادة تجديد سوق عملها داخل حدودها، بدلاً من ترك العوامل المحددة لعنصر بهذه الأهمية لأهواء أطراف لا تستطيع هي التحكم فيها وتقع خارج سيطرتها وسيادتها. فإن الهندسة الديمغرافية لسوق العمل هي من أساس فنون الحكم لأي دولة في العصر الحديث وتأخذ حيزاً كبيراً من نشاطها.

في الخليج الحالة مختلفة كلياً، فسوق العمل نطاقه الأساسي هو العالم ككل. فأي شخص يريد توظيف عمال في شركة ما أو مشروع عنده، وفيما عدا بعض الإجراءات البيروقراطية، يستطيع أن يمد ناظريه على مستوى العالم ليستقطب العمال. وكان لهذه الظاهرة «إيجابيات» مادية من وجهة نظر الشركات على المستوى القصير، بما فيها تجاوز تكلفة ومشقة تنشئة وتربية وتدريب عناصر قوة العمل (أي الإنسان) منذ ولادتها، ومن ثم الاعتناء بها بعد التقاعد والخروج من سوق العمل حتى مماتها. فدول الخليج تستقطب في الغالب قوة عمل جاهزة ومدربة، وعندما تتقاعد تعيدها إلى دول مسقط رأسها من دون أن تتحمل تبعات إعالتها بقية حياتها.

في المقابل، فهذا يعني أن الدولة فعلياً قد تخلت عن قدرتها على التحكم ورسم صورة قوة العمل لديها، والتي هي من أهم الأمور التي تنشغل بها الدول الأخرى، إذ إنها تستثمر الكثير من فنون حكمها في إدارة وصقل قوة عملها من نشأتها إلى مماتها. ولو كنا لنأخذ مثالاً حاداً، فلو تم فرض حصار كلي على أي دولة من دول الخليج، في حالة حرب مثـلاً، بحيث لم يسمح للناس بالتنقل إليها على الإطلاق، فلن يكون في مقدار اقتصاديات دول الخليج، وخصوصاً القطاع العائلي الخاص، توفير قوة العمل التي يحتاج إليها، إذ إنها تعتمد على العالم الخارجي بشكل رئيسي لتزويده بها. وذلك يعني أن دول الخليج غير قادرة على تجديد وإعادة إنتاج قوة عملها ذاتياً، حيث تعتمد أساساً على السوق العالمي ليزودها بقوة العمل باستمرار.

وهذا بدوره ينطبق على التكنولوجيا، فالطريقة الرئيسية التي يتم تعلُّم وتبنّي التقنيات والمهارات في اقتصاد أي دولة، هي عبر العمل، فالتطبيق في العمل هو أفضل مدرسة للتعلم. ولما كانت أغلبية قوة العمل في الخليج من الوافدين، وليس لها حق التوطين، ولا تعيد إنتاج نفسها في دول الخليج، أو التواصل في البقاء فيها مع أبنائها، فهذا يعني أن المهارات والتكنولوجيا لا يعاد إنتاجها وطنياً، وبذلك لا يتم توطينها أو تواصلها داخل حدود الدولة. بل لا يوجد حافز لدى أصحاب العمل لتدريب وتطوير مهارات وتكنولوجيا الإنتاج، كونهم يعلمون أن هناك احتمالية عالية أن قوة العمل ربما لا تستقر وتتواصل على المدى البعيد، وأنها ستغادر ولو بعد حين، وبالإمكان استقطاب عمالة مدربة وجاهزة مكانها، بدلاً من الذهاب في مشقة وعناء تدريب العمالة محلياً.

ينطبق الأمر نفسه من عدم الاستقلالية في التجديد وإعادة التجديد على إيرادات الدولة، التي يتم جنيها في كثير من الدول الأخرى من داخل إطار الدولة وسكانها، من طريق الضرائب على الأنشطة الإنتاجية داخل حدود الدولة. أما في دول الخليج، فإيرادات الدولة تعتمد أساساً على بيع النفط إلى العالم الخارجي. وإذا ما تغاضينا عن حقيقة أن النفط مورد ناضب، فإن هذه الاعتمادية على إيرادات النفط تعني أيضاً أن الدولة تعتمد على العالم الخارجي ليزودها بالموارد المادية التي تسمح لها بالاستمرارية وتجديد نفسها.

وأخيراً وليس آخراً، فإن دول الخليج تعتمد لسيادتها وأمنها في ظل النظام العالمي المبني على مبدأ الدولة، على قوى غربية عظمى (وخصوصاً الولايات المتحدة) لتوفير الأمن العسكري لها. وبذلك فهي تعتمد على استمرارية واستدامة أمنها وسيادتها على أراضيها على غطاء هيمنة عسكرية غربية، الأمر الذي يتطلب منها التواصل في توفير المدفوعات والصفقات العسكرية الباهظة لهذه الدول بشكل متواصل من أجل توفير هذا الغطاء، الذي يتم الدفع له عبر إيرادات النفط أيضاً.

إذاً، قوة العمل، والنفط، والدولة وسيادتها، والتكنولوجيا، كلها مبنية بصورة كبيرة على معطيات تحدد أساساً خارج حدود الدولة، وكل هذه المعطيات يتم الدفع لها عبر إيرادات مورد ناضب وغير متجدد. مبدئياً، فإن ظاهرة استيراد عوامل الإنتاج من دول أخرى ليس بالأمر الشاذ، فالسائد هو أن هناك تجارة وتعاوناً واعتمادية متبادلة بين الدول في العالم، وخصوصاً من ناحية السلع والخدمات. ولكن حدّة وتركُّز هذه الظاهرة في دول الخليج في أكثر من عامل إنتاجي، وخصوصاً في قوة العمل والتكنولوجيا المصاحبة له، وفي سوق النفط، وفي الأمن السيادي، يعني أن أهم العوامل الضرورية لاستمرارية نمط الإنتاج وقدرته على تجديد نفسه في الخليج، يتم تحديدها خارج إطار الدولة. وهذه الظاهرة، وخصوصاً في سياق عالمي ما زال ينظر إلى الدولة على أنها الوحدة الأساسية لتحديد تقاسيمه وتنظيم العلاقات فيما بين أعضائه، بحيث تكون هناك منافسة وندّية وخصام وحتى حروب بين دول العالم، تجعل شبح عدم الاستدامة خطراً حقيقياً يهدد نمط النمو في دول مجلس التعاون في وضعها الحالي. وإن رسمنا للحظة سيناريوهاً سوداوياً يتكون من ولوج دول مجلس التعاون في حرب عسكرية ضد أطراف أخرى، فكيف سيتسنى لها توفير كل هذه العوامل من قوة العمل وإيرادات النفط والواردات التي تحتاج إليها لإعادة إنتاج وتواصل نمط إنتاجها، وخصوصاً إن أدت الحرب إلى قطع خطوط الإمدادات والتجارة مع بقية العالم؟ لذلك، وفي ظل نمط نمو الإنتاج الحالي، فإن أي هزة قد تصيب أحد هذه العوامل في دورة تواصل نمط النمو، أكانت ناتجة من عوامل داخلية أو خارجية، سيكون لها تداعيات جمة على الاقتصاد المحلي، ولن يستطيع الاقتصاد المواصلة في تجديد دورته، وسينهار.

يبقى هناك عامل إنتاجي أخير لم نتكلم عنه، بل قد يكون هو الخطر والخلل الحقيقي الأكبر. فحتى ما تناولناه أعلاه من المخاطر المرتبطة بالاستدامة في نمط النمو، فمن الممكن جداً أن تبرز معادلة إنتاجية جديدة، تسمح بالتوافق فيما بين هذه العوامل الاقتصادية المختلفة المرتبطة في نمط نمو جديد. لكن القضية الأكبر المرتبطة باستدامة هذا النمط من النمو تتعلق بنمط استملاك واستغلال البيئة في دول مجلس التعاون. والمخاطر المرتبطة بالبيئة فيها تأخذ جانبين على الأقل. أولهما الحداثة النفطية التي بنيت حولها الحياة في الخليج. فأهمية النفط (الذي هو جزء من البيئة المادية) في اقتصاد بل حياة الإنسان ككل في الخليج تتعدى قيمة إيرادات النفط والمعادلة فيما بين العرض والطلب الاقتصادي فقط. فإن أغلب أسس الحياة في الخليج، من توفير المياه والطاقة إلى رصف الشوارع وتشغيل السيارات وتكييف المسكن، تعتمد بشكل جذري وأساسي على النفط (بما فيه الغاز الطبيعي). بل إن الاستهلاك المحلي للنفط ما انفك يزداد بوتيرة متسارعة في دول مجلس التعاون، كما هو حال نمو الاستهلاك النهم في المواد الأخرى، حتى بدأ يشكل نسبة ليست بصغيرة من إنتاج النفط الذي كان يوجه سابقاً للتصدير. وبذلك، فإن النفط فعلياً أصبح الدم الذي يسري في عروق الحياة في الخليج ويجعلها قادرة على الاستمرار، ليس فقط من ناحية تزويده بالمال الذي تشتري به دول الخليج كل حاجاتها، بل أيضاً من ناحية استعماله وحرقة لتزويد هذه الحاجات على أرض الواقع. فإن اختفى النفط، كيف سيتم توفير المياه في الخليج، وكيف سيتم تسيير المركبات، وكيف سيتم تزويد الطاقة التي تلطف الجو في المسكن والعمل؟

وإذا ما انتقلنا من النفط إلى استملاك واستغلال البيئة عموماً في منطقة الخليج، فإن خطورة عدم الاستدامة الناجمة عن هذا النمط من الإنتاج والاستهلاك يتمحور حول إمكان استدامة هذه البيئة. فهذا التوسع النهم في المدن والبيوت والاستهلاك يتم أساساً على أرض صحراوية كانت كذلك لملايين السنين قبل مجيء النفط. ولكن مع بروز تلك الحقبة الزمنية التي أصبح فيها تأثير الإنسان في العالم الذي يعيشه أكثر من أي كائن أو عامل آخر على وجه الأرض، وهي الحقبة الزمنية التي يعرفها العلماء بحقبة «الأنثروبوسين» (Anthropocene)، أو حقبة طغيان التأثير البشري على الكرة الأرضية، فقد أصبح الإنسان هو المتحكم الرئيسي في بيئة أراضي الخليج في عصر النفط. فبالإمكان تحويل الصحراء إلى ملعب غولف أخضر أو منتجع تزلج من طريق الطاقة والمياه والتكنولوجيا التي يوفرها النفط، ومن ثم يقول الإنسان انظر إلى هذه «الطبيعة» الخضراء والثلجية ما أجملها فهي أحسن من الطبيعة التي كانت عندنا سابقاً!

وهكذا، فقد تمت محاولة إخضاع البيئة، التي تكونت على مدى ملايين السنين عبر تفاعل العديد من العوامل الإيكولوجية والبيولوجية والجغرافية، إلى عقلية وزمن دورة رأس المال، التي هي من خلق البشر ولا يمتد أفقها سوى بضع سنين وترتكز أساساً على جني الأرباح. وأضحى بالإمكان تسليع الطبيعة وتحويلها إلى عقار، أكان ذلك في أراضيها أو في بحارها، وتمت معاملة هذه البيئة وكأنها ذات مخزون غير متناه ومتجدد، بالإمكان استهلاكها بشكل متواصل ومتصاعد في سبيل نمو قيمة الإنتاج من دون أي اعتبارات لاستدامتها. وهذه الطبيعة الهشة من صحار وبحار، التي استطاعت الاستمرار وإحياء العديد من الكائنات لملايين السنين، أصبحت في خطر حقيقي الآن في عصر النفط من نمط حياة بني البشر واستهلاكهم النهم في المنطقة، الذي يتوسع بشكل استثنائي كما رأينا في دول الخليج. فأراضي الصحراء يتم ابتلاعها لبناء مدن آخذة في التوسع، وحتى البحار وما يسكنها من كائنات لم تسلم من هذه العملية، بل بدأ ردمها بشكل موسع في مدن الحداثة النفطية، حتى وصلنا لمرحلة من الردم كان الهدف الوحيد منها هو بيع الأرض التي تم ردمها بأعلى سعر ممكن لأعلى مضارب عقاري.

هذه المعدلات الاستثنائية على مستوى العالم من نمو السكان والاستهلاك، ومحاولتها تسخير كل ما حولها نحو عقلية وإيقاع نمو قيمة الإنتاج ورأس المال، انعكست نتائجها على البيئة في دول الخليج، إذ أصبحت أجواؤها تعتبر الأكثر تلوثاً في العالم، بحيث أصبحت خمس مدن في الخليج في قائمة أكثر عشرين مدينة تلوثاً في العالم‏[6]. كما أصبحت المنطقة في صدارة تبعات التغيرات المناخية والاحتباس الحراري في العالم، بحيث تخشى تنبؤات العلماء أن درجات الحرارة ستصل إلى مستويات قاتلة تجعل العيش في المنطقة مستحيـلاً‏[7]. والأمر نفسه ينطبق على بحار الخليج، التي كانت لآلاف السنين هي مصدر المعيشة الرئيسي لسكان المنطقة، حيث أضحت أكثر البحار تلوثاً في العالم من الزيت والملوثات‏[8]. أما مخزونات المياه العذبة الموجودة طبيعياً في باطن الأرض، والتي احتاجت إلى ملايين السنين لتتراكم، فقد تم استنزافها في غضون بضعة عقود بشكل شبه كلي‏[9]. ويبدو أنه لو ولى عصر النفط، فإنه حتى نمط الحياة السابق ببساطته وقسوته لن يكون ممكناً، ذلك أن البيئة التي مكنت ذلك النمط من الحياة قد تم تدميرها بشكل شبه كلي. وعندها سيكون السؤال المحوري ليس هل نمط النمو الاقتصادي الحالي في الخليج مستدام، بل هل من الممكن أصـلاً للحياة البشرية أن تتواصل مستقبـلاً في المنطقة؟.

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 475 في أيلول/سبتمبر 2018. وتمثل خلاصة الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بالعنوان ذاته… يمكنكم الضغط على الرابط للحصول على الكتاب:

تصدير الثروة واغتراب الإنسان : تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية

(**) عمر هشام الشهابي: مدير مركز الخليج لسياسات التنمية، وأستاذ مشارك في الاقتصاد السياسي
في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا (GUST) في الكويت.

[1] نعرف نمط نمو الإنتاج (Mode of Growth) بأنه عمليات الاستملاك والإنتاج والتوزيع والاستهلاك، من جانب مجموعة من البشر تعيش في نظام سوق رأسمالي في منطقة وزمن معينين، بحيث ينمو الناتج ورأس المال بشكل مستمر، والعلاقات والمؤسسات الاجتماعية التي تنظم هذه العمليات، على نحوٍ يسمح لها مجتمعة بالاستمرارية والتجديد وإعادة إنتاج نفسها لمدة ممتدة من الزمن.

ونستعمل مفهوم «نمط نمو الإنتاج» لتمييزه من مفهوم «نمط الإنتاج» (Mode of Production)، حيث عادة ما يستعمل الثاني في الأدبيات للدلالة على النمط العام لعمليات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها في عصر معين من حياة الإنسان (كمثال الإقطاعية أو الرأسمالية). في المقابل، نستعمل «نمط نمو الإنتاج» لنشير إلى النمط المعين لنمو الإنتاج وتراكم رأس المال داخل الرأسمالية (كمثال «الفوردية»). ونستمد هذه التسمية من «مدرسة التنظيم» (Regulation School) مع بعض الاختلاف والتحديث في المفهوم. للمزيد انظر: Robert Boyer and Yves Saillard, Régulation Theory: The State of the Art (London: Routledge, 2005).

[2] نستعمل مصطلح النفط (Petroleum) كاختصار للإشارة إلى جميع المواد الهيدروكربونية، بما فيها النفط السائل والغاز الطبيعي.

[3] Karl Polanyi and Robert Morrison MacIver, The Great Transformation (Boston, MA: Beacon Press, 1957).

[4] نستعمل مصطلح «المشاريع العامة» للإشارة إلى الشركات ذات الطابع الربحي التي تؤدي مؤسسات الدولة العامة دوراً رئيسياً في ملكيتها أو نشأتها، وتشمل البنوك وشركات الطيران والاتصالات والألومنيوم… إلخ التي تملك الدولة أو مؤسسات التأمينات الاجتماعية حصة معتبرة من أسهمها.

[5] نستعمل «النوع المعياري» (ideal-type) حسب مفهوم ماكس فيبير.

[6] «Pant by Numbers: The Cities with the Most Dangerous Air-Listed,» The Guardian, 13/2/2017, <https://goo.gl/493f55>.

[7] Peter Dockrill, «Middle East May Be Uninhabitable This Century Due to Deadly Heat, Study Finds,» Science Alert (5 November 2015), <https://goo.gl/iWJrJC>.

[8] «Persian Gulf Pollution Called World’s Worst,» Chicago Tribune, 7/2/1993, <https://goo.gl/zX6JkM>.

[9] Nathan Halverson, «What California Can Learn from Saudi Arabia’s Water Mystery,» Reveal News (22 April 2015), <https://goo.gl/XKobXq>.

 

رابط المصدر:

https://caus.org.lb/ar/%d8%aa%d8%b5%d8%af%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d8%b1%d9%88%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d8%ba%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M