تعظيم المكاسب: الموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية

فردوس عبدالباقي

 

ظهرت الصين رسميًا في الأزمة الأوكرانية داعية جميع الأطراف لتهدئة التوترات الدائرة وإنهاء عقلية الحرب الباردة، ومشجعة للحوار والتفاوض، مع التمسك في الوقت نفسه بالموقف الروسي في الصراع. ورغم أنه من المعتاد أن تتبع الصين الحذر تجاه التوترات الدولية، إلا أنها تواجه خلال الأزمة الأوكرانية معضلة تجعل موقفها شديد الوضوح. من هنا سيتم تناول ملامح هذا الموقف، وما يفرضه على بكين من فرص وتحديات.

أهم ملامح الموقف الصيني من الأزمة

قبل دخول القوات الروسية لأوكرانيا، عبّرت الصين من خلال وزير خارجيتها “وانغ يي” في يناير 2022 عن أن روسيا لديها مخاوف أمنية مشروعة، وهو ما تم اعتباره مؤشرًا واضحًا على تعاطف بكين مع وجهة نظر موسكو بشأن نفوذ الناتو باتجاه الشرق. وفي 31 يناير صوتت الصين مع روسيا ضد عقد اجتماع عام اقترحته الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا في مجلس الأمن الدولي. ودعا الممثل الدائم للصين في الأمم المتحدة لتنفيذ اتفاقية “مينسك-2” والتوصل لآلية أمنية أوروبية فعّالة ومستدامة من خلال المفاوضات التي يتم فيها أخذ المخاوف الأمنية الروسية في الاعتبار، وحث جميع الأطراف على تحمل المسئولية لإحلال السلام بدلًا من تصعيد التوترات والتهديد بالحرب.

وبعد اندلاع الحرب، بدت الصين وكأنها تقف في منطقة وسط، إذ أشار الرئيس الصيني “شي جين بينج” خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي “فلاديمير بوتين”، في 25 فبراير 2022، إلى أن “الجانب الصيني يدعم الجانب الروسي في حل المشكلة من خلال التفاوض مع الجانب الأوكراني”. ونوه وزير الخارجية الصيني يوم 26 فبراير إلى أن الصين تحترم سيادة أوكرانيا وفي الوقت نفسه المخاوف الأمنية الروسية.

وبدت الصين وكأنها مؤيدة لما تقوم به روسيا حينما اتخذت موقفًا مفاجئًا بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن لإدانة غزو أوكرانيا. ورغم أن المتحدثة باسم وزارة الخارجية دعت جميع الأطراف لضبط النفس وتؤيد حل النزاعات الدولية بما يتماشى مع أهداف والمبادئ الأممية، ظهر تحول جزئي في هذا الموقف الذي يبدو حياديًا حين رفضت استخدام الصحفيين كلمة “غزو” على النهج الغربي، وفي الوقت نفسه هناك إدراك بأن الميثاق الأممي ينص على استخدام القوة في حالة الدفاع عن النفس. ووجهت اتهامًا للولايات المتحدة أيضًا بأنها هي التي تدعو للحرب، في تعبير ضمني عن تأييدها لما تقوم به روسيا، وهو ما ظهر جليًا في امتناع الصين عن التصويت بإدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، مما جعل موقفها الضمني الداعم بات أكثر وضوحًا، وتأكد ذلك في امتناعها عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس 2022 التي مررت قرارًا يطالب روسيا بالتوقف عن استخدام القوة ضد أوكرانيا بأغلبية 141 صوتًا من أصل 193.

وقد رفضت الصين قبل تصعيد الأزمة ما تقدمت به الولايات المتحدة للتدخل دبلوماسيًا لعدم قيام روسيا بغزو أوكرانيا استنادًا لاعتبارات الصداقة بين روسيا والصين، وذكرت تقارير أن رد الصين جاء بأنها لن تحاول إعاقة الخطط الروسية. وفيما يخص العقوبات، فإنه يمكن قراءة عدم مشاركة الصين في العقوبات المفروضة على روسيا، حتى لا تواجه نفس الموقف من روسيا إذا ما توجهت لضم تايوان، وقد اعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية “هوا تشون ينغ” أن الصين لا تعتقد أن العقوبات هي أفضل وسيلة لحل المشكلات، بجانب أنها عارضت فرض عقوبات أحادية الجانب، خاصةً أن العقوبات لم تؤتِ ثمارها في السابق، وهو ما يفرض ضرورة إعادة النظر في آليات حل النزاع.

وعلى المستوى الإعلامي، أعادت صحيفة “ديلي بكين” الصينية المملوكة للدولة نشر بيان سفارة روسيا في بكين الذي دعا العالم لعدم مساعدة حكومة “النازيين الجدد” في كييف. كما تم إخضاع التعليقات على الأزمة في وسائل التواصل الاجتماعي لرقابة شديدة، وتم تصفيتها لتظهر بالشكل المؤيد لروسيا وانتقاد الولايات المتحدة رغم عدم نجاح روسيا في توجيه الرأي العام العالمي لصالحها.

لكن من جانب آخر، تراجعت السفارة الصينية في كييف عن بيان لمواطنيها يطالب برفع الأعلام الصينية على سياراتهم لمساعدة بعضهم بعضًا وإظهار قوة الصين في الوقت نفسه، وجاء في ظل هذا التراجع توصية للمواطنين بعدم الكشف عن هوياتهم علانية.

الفرص التي تبرزها الأزمة للصين

يُرجّح أن الأزمة الأوكرانية تبرز بعض الفرص أمام الصين، منها:

  • اختبار رد الفعل الأمريكي: إذ لن يكون أمام الولايات المتحدة أي خيار سوى اتخاذ رد فعل، لأنه لو لم تتخذ الولايات المتحدة قرارًا سوى فرض عقوبات على روسيا، فستتضرر مصداقيتها بين حلفائها بشدة وسيضعف نظام تحالفها، مما سينعكس إيجابًا على الصين. كما أنه لو انخرطت الولايات المتحدة في أوكرانيا عسكريًا، فإن ذلك يعني تشتيت الموارد الأمريكية مما قد يؤدي لتراجع استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتخفيف سياسة الاحتواء التي تمارسها الولايات المتحدة للصين، والسماح بأن يكون هناك حوالي من 5ـ10 سنوات لتعزيز الصين فرص تنميتها ووصولها إلى مستوى ليس من السهل مجاراته خاصةً إذا ما أرادت التوجه بعد هذه الفترة لضم تايوان.
  • صرف انتباه الغرب عن الصين: حيث ستقلل الأزمة مخاوف الصين من تكوين جبهة غربية مشتركة ضدها أو تهديدها في حالة استمرار المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا، مما يساهم في وضع الصين في موقع ملائم بين الولايات المتحدة وروسيا وإعطائها مساحة أكبر للمناورة ومجالًا أفضل للاستمرار في التنمية بالإضافة لتعزيز العلاقات التجارية الصينية الأوروبية.
  • الاستفادة من علاقتها التجارية بأوكرانيا: ستعمل الصين على الاستفادة من أوكرانيا التي باتت بكين شريكها التجاري الأول، وهو ما يجعلها لا تنحاز بشكل كامل وواضح لروسيا، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 103.4 مليارات دولار في عام 2020 مقارنةً بـ12.76 مليار دولار في عام 2019. كما أن أوكرانيا كانت أحد مراكز طريق الحرير الجديد.
  • الحصول على صادرات الطاقة الروسية: وهنا يكن الإشارة إلى أن الصين اعتادت على التعامل مع الدول المصدرة للطاقة وتُفرض عليها عقوبات لشراء النفط والغاز بتكلفة مخفضة، مثلما حدث مع إيران وفنزويلا. بناءً عليه من المتوقع أن تساهم الأزمة الأوكرانية في مزيد من توطيد العلاقات بين روسيا والصين في ظل فرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا، إذ من المرجح أن تستمر الصين في شراء الخام الروسي كي تفي باحتياجاتها الاقتصادية.

تعد روسيا ثالث أكبر مورّد للصين من النفط المنقول بحرًا، ووصلت وارداتها في يناير 2022 إلى 811 ألف برميل يوميًا. ومن حيث الإجمالي، تعد روسيا ثاني أكبر مورد نفطي للصين، إذ استوردت الصين أكثر من 15% من صادرات الخام الروسية، وتم نقل 40% من هذه الواردات عبر خط أنابيب “إسبو”. وبالنسبة للغاز، تعد روسيا ثالث أكبر مورد للغاز إلى الصين، إذ صدّرت 16.5 مليار متر مكعب من الغاز للصين في عام 2021، بما يعادل حوالي 5% من الطلب الصيني. وتعد روسيا ثاني أكبر مورد للفحم للصين.

وفي إطار الأزمة الأوكرانية، بدأت بوادر تعزيز التعاون في الطاقة في أواخر فبراير عام 2022 بعد توقيع كل من شركة “غازبروفود سويوز فوستوك” لأنابيب الغاز الخاصة و”غازبروم برويكتيروفاني”، اتفاقية لتنفيذ أعمال التصميم والمسح كجزء من بناء خط أنابيب الغاز “سويوز فوستوك”، الذي سيمتد من روسيا عبر منغوليا إلى الصين، بما سيسمح بإمداد ما يصل إلى 50 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويًا للصين، ويأتي كجزء من خط أنابيب الغاز الروسي “باور أوف سيبريا 2″، ومن المتوقع استكمال تصميم خط الأنابيب في 2022 – 2023، لتبدأ أعمال بناء المشروع في 2024، ليتم تشغيل خط الأنابيب في 2027-2028. وقد يمثل هذا الجانب الاقتصادي الخاص بالطاقة جزءًا من النفوذ الذي يمكن أن تمارسه الصين على روسيا وضغطها عليها، وستستمر الصين في الوقت نفسه في تلاعبها اللفظي حول الأزمة طالما ظلت مستمرة.

تحديات تفرض نفسها على الموقف الصيني 

رغم ما تفرضه الأزمة على الصين بالتزام الهدوء أو الحياد على أقل تقدير، لكن -كما سبق الذكر- يبدو أنها تأخذ صف روسيا، وهذا سيفرض عليها مجموعة من التحديات، منها:

  • الرغبة في التوازن بين روسيا وأوكرانيا: في الوقت نفسه تقع الصين أمام تحدٍّ خاصةً أنها تمتلك علاقات قوية مع كل من روسيا وأوكرانيا، فهي من ناحية تعمل على تعزيز علاقتها مع موسكو في الجوانب العسكرية والاستراتيجية، ومن ناحية أخرى تريد الحفاظ على أوكرانيا.
  • تجديد المطالب الانفصالية في أقاليم صينية: إذا كانت الصين تدعم من وجهة نظرها فكرة الأمن القومي للدول على اعتبار أن روسيا من حقها أن تحافظ على أمنها القومي، فقد قال “بوتين” إنه يحرر المتحدثين باللغة الروسية داخل أوكرانيا، فماذا لو واجهت الصين مطالبات متجددة من التبت والإيجور بمزيد من الحكم الذاتي أو الاستقلال بحكم اختلافهم عن الداخل الصيني؟ فإن الصين تخشى حدوث ذلك معها لأنها لا تتقبل مسألة الاعتراف بالمناطق الانفصالية، أو إجراء تغييرات حدودية نتيجة لاستخدام القوة العسكرية.
  • تهديد مبادرة “الحزام والطريق”: حيث ستخلق الأزمة قلقًا صينيًا على مستقبل مبادرة الحزام والطريق وأمن الطرق الاقتصادية والتجارية الصينية إلى أوروبا، خاصةً تشغيل القطار الصيني الأوروبي في حالة استمرار العداء لفترة أطول. وبالتالي، ستلقي الأزمة ظلالًا سلبية على العلاقات التجارية الصينية الأوروبية التي بدأت في التطور للتو، وذلك بالنظر إلى تطور نظرة غربية للصين تفيد بأن التحدي الاستراتيجي الصيني من غير المتوقع أن يهدأ بسبب الأزمة الأوكرانية.
  • تعطيل الانتعاش الاقتصادي الصيني: كما أن الإجراءات العدوانية التي تقوم بها روسيا ضد أوكرانيا ترجع جزئيًا للدعم الضمني الذي تقدمه الصين لروسيا، خاصةً بعد البيان المشترك الذي خرجت به كل من الصين وروسيا في فبراير 2022 بأنهما يسعيان لبناء نظام دولي بديل. عطفًا على التأثير الاقتصادي السلبي، فإن إطالة أمد الأزمة سيؤدي إلى اضطراب سلاسل التوريد العالمية، مما سيجعلها تترك أثرًا سلبيًا على انتعاش الاقتصاد الصيني.
  • تحدي روسيا للصين في المستقبل: هنا يظهر تساؤل حول ما إذا كانت الصين لا ترفض الموقف الروسي، هل ستتقبل الصين روسيا بحجم أكبر على غرار الاتحاد السوفيتي في المستقبل؟ حيث إن الإجابة ستكون أنه من الصعب تقبل الصين لهذا لما سيمثله من تهديد حتى في ظل سعي كل منهما لتعميق التعاون الاستراتيجي بين البلدين، وتأكيد الرئيس الصيني في 4 فبراير 2022 أنه لن يكون هناك “محظور” في علاقة الدولتين. بالإضافة إلى الاختلافات المرتبطة بالاشتراكية بين البلدين التي ستضع عائقًا في المستقبل بينهما إذا ما تم النظر إلى إيمان الصين بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية.

مما سبق عرضه، يتضح أن السلوك الصيني يدور في فلك التحدث بشكل أكبر وتحقيق التوازن بين دعم روسيا من جانب، وعدم استفزاز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وقراءة كيف يتعامل الغرب مع الأزمة لاستخلاص الدروس إذا ما اتخذت قرارًا بضم تايوان، وما يمكن أن يحدث لها كقوة اقتصادية تحصل على جزء كبير من اقتصادها من خلال الدول الأخرى في حالة تعرضها لعقوبات غربية مشتركة وخسارتها للاتحاد الأوروبي الذي يعد ثاني أكبر شريك تجاري للصين. لذا سيكون من الصعب على الصين أن تتجنب تطورات الأزمة الحالية في حالة تصاعدها بعكس وضع أزمة شبه جزيرة القرم لأنه سيكون كاشفًا وسيفرض عليها ضغوطًا أكبر.

وسيكون السيناريو الأفضل للتعامل مع الصين في هذه الحالة هو تفهُّم وتقبُّل كل الأطراف للموقف الصيني، لكن سيكون أسوأها –وهو المرجّح- هو تدهور علاقات الصين مع تلك الأطراف في المستقبل بسبب عدم اتساقها، وهو ما سيظهرها كقوة عظمى غير مسئولة لأنها في حالة رغبتها في ضم تايوان سيكون عليها شرح فكرتها لاحترام السيادة وعدم التدخل وكيفية انسجامها مع موقفها تجاه أوكرانيا.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18796/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M