رغم ما بدا أنه بوادر “حالة تهدئة” في الجبهات السورية كافة في أعقاب سقوط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، بدأت بشكل تدريجي تظهر بوادر معاكسة لحالة توتر متعددة الاتجاهات، لم تقتصر فقط على بعض المناطق في العمق السوري، التي شهدت بشكل متقطع اشتباكات ومواجهات ميدانية على خلفيات مختلفة، بل باتت هذه الحالة تشمل بشكل شبه كامل جبهتين تعدان حاليًا مصدر عمليات التصعيد على الأرض في سوريا، الأولى هي جبهة شمال شرق سوريا، وتحديدًا جبهة “قره قوزاق – سد تشرين”، أما الثانية فهي “الجبهة الجنوبية”.
في هذه المادة نتناول التفاعلات التي تمت ملاحظتها خلال الأيام الأخيرة في نطاق المحافظات الجنوبية السورية، والتي تنوعت بين الاشتباكات التي تمت بين بعض الفصائل المسلحة المحلية، وبين التحركات الإسرائيلية المستمرة في نطاق محيط الجولان السوري المحتل، وهي تحركات رغم تعدد أهدافها فإنها في المجمل تؤشر إلى أن الجنوب السوري بات محطة أساسية لتطورات ميدانية وأمنية مستقبلية، تفرضها التغيرات الحادة التي طرأت على المشهد الداخلي السوري، والذي تمتد آثاره إلى المحيط الإقليمي لدمشق.
تحركات إسرائيلية ذات أهداف متعددة

منذ أوائل الشهر الماضي، عكف الجيش الإسرائيلي -استغلالًا للتطورات الميدانية التي طرأت في دمشق- على تنفيذ سلسلة من الإجراءات الميدانية على الأراضي السورية، سواء عبر الغارات المتكررة على مواقع الجيش السوري السابقة ومخازن ذخائره ومطاراته، أو عبر التحرك بشكل متدرج وفي عدة محاور، كانت تقع في البداية بشكل أساسي في محافظتي القنيطرة وريف دمشق، لكنها توسعت مؤخرًا لتشمل مناطق متعددة بريف درعا الغربي، لتصبح العمليات العسكرية الإسرائيلية في هذا النطاق متصلة المحاور بشكل أنتج عمليًا “منطقة عازلة” في محيط الجولان السوري المحتل.
اللافت في هذا الصدد أن التحركات العسكرية الإسرائيلية على الأرض أصبحت تكرس مشهدًا أشبه بالوجود الإسرائيلي الحالي في جنوب لبنان أو في قطاع غزة، أو ما يمكن أن نعتبره “شكلًا جديدًا من أشكال احتلال الأراضي”، يتضمن البقاء في المناطق التي تدخلها القوات الإسرائيلية -طالما دعت الحاجة التكتيكية أو العملياتية لذلك- مع الحرص على أن يكون الانتشار الميداني مقتصرًا على المواقع الأهم على المستوى الاستراتيجي، دون الحاجة إلى الوجود بشكل مكثف في معظم المواقع بالمناطق التي توجد بها القوات الإسرائيلية؛ وهذا تفاديا لاستدعاء المزيد من الوحدات المقاتلة، حيث يعتمد الجيش الإسرائيلي في الوقت الحالي في عملياته على الأراضي السورية على وحدات متخصصة في القتال الجبلي، خاصة اللواء الجبلي 810، وكتائب من اللواء 474 “الجولان”، والوحدة الخاصة 510 “شلداغ”، بجانب كتائب أخرى من الفرقة الإقليمية 210 “باشان”، من بينها وحدة “فارا” الخاصة.
على المستوى الميداني، يمكن حصر محاور تحرك القوات الإسرائيلية في كل من محافظتي القنيطرة وريف دمشق، وفي ريف درعا الغربي، والتي شملت حتى الآن نطاقًا يناهز 600 كلم مربع، في المحاور التالية من الشمال للجنوب:
- المحور الأول هو محور “جبل الشيخ”، الواقع في ناحية قطنا في ريف دمشق، والذي بعد أن سيطرت القوات الإسرائيلية على كافة مناطق الجبل، وعلى محطة الرصد التي تقع أعلاه، تشرع في الوقت الحالي، في تأمين وتفتيش عدة قرى هي عرنة وبقعسم وتل أبيض والريمة ودربل والحسينية، وصولًا إلى أقصى نقطة وصلت إليها وهي “قلعة جندل”، حيث تتواجد وحدات إسرائيلية حاليًا شمال هذه القرية، على تقاطع الطريق المؤدي إلى قريتي “رخلة” و”كفر قوق”. في جانب آخر، تعمل القوات الإسرائيلية في الوقت الحالي، على تجهيز قاعدتين رئيستين في نطاق جبل الشيخ، الأولى عبارة عن مركز لتجمع الجنود، أما الثانية فهي مركز الاتصالات والتنصت.
- في المحور الثاني، تسير العمليات باتجاه بلدة حضر ومنطقة التلال الحمراء، حيث يستمر انتشار الوحدات الإسرائيلية، وتنفيذ عمليات تفتيش مكثفة في بلدتي حضر وبيت جن، التابعتين لمحافظة ريف دمشق.
- المحور الثالث هو محور “الأوفانية – جباتا الخشب”، وتستمر فيه عمليات تمشيط وتفتيش المنازل في بلدة الأوفانية ومحيطها وأطراف بلدة جباتا الخشب، وطرنجة والكسار وتل الأحمر وتل القبع.
- المحور الرابع تقع فيه بلدات “الحميدية – القنيطرة – مدينة البعث – أم باطنة”، وتستمر عمليات التفتيش عن الأسلحة من جانب الوحدات الإسرائيلية، في قريتي أم باطنة وخان أرنبة والمشيرفة والصمدانية، ووصلت القوات الإسرائيلية مؤخرًا إلى نطاق سد “المنطرة” شرقي مدينة القنيطرة. كما امتدت عمليات هذا المحور خلال الفترة الماضية جنوبًا، لتشمل قرى رحبنة وبريقة والصباح وكدنا وسويسة وعين عائشة والرفيد والبطيحة ومعلقة وصيدا الجولان وغدير البستان.
- التركيز الإسرائيلي الأكبر في الوقت الحالي يبقى على المحور الخامس، وهو محور “ريف درعا الغربي”، الذي تتحرك القوات الإسرائيلية فيه باتجاهين أساسيين، اتجاه شمالي سيطرت فيه على قرى جملة والعارضة وموزرة والشبرق ومسيرية، واتجاه جنوبي شرقي على طول حوض نهر اليرموك، سيطرت فيه على قرى محاذية للحدود الأردنية، أهمها كويا ومعرية وبيت أرة، وصولًا إلى سد الوحدة، وقد وصلت القوات الإسرائيلية إلى موقع “الجزيرة” العسكري، الذي كان يتبع سابقًا للجيش السوري، ويقع غرب قرية “معرية” في ريف درعا الغربي، وتعمل حاليًا على إعادة تأهيل القاعدة وتدعيمها، بما يوحي أنها ستمثل نقطة ارتكاز دائمة للجيش الإسرائيلي في المدى المنظور.

على مستوى الأهداف العملياتية، أظهرت العمليات البرية الإسرائيلية في نطاق حوض اليرموك خاصة، وفي مناطق ريف القنيطرة وريف درعا بشكل عام، أن الأهداف الإسرائيلية من عملياتها في سوريا، لا تنحصر فقط في التأسيس لـ “منطقة عازلة” مع سوريا، بعد إسقاط اتفاق فض الاشتباك المعمول به منذ عام 1974، واستكمال تدمير البنية العسكرية والتسليحية للجيش السوري، بل تتعدى ذلك لتشمل إحكام السيطرة بشكل كامل على السدود والمنابع المائية في مناطق جبل الشيخ وريف القنيطرة ودرعا.
هذا يتضح من خلال النظر إلى حدود التوغل الإسرائيلي على طول المناطق الشرقية لهضبة الجولان، حيث تشمل هذه النقاط أو تتماس مع عشرة مواقع أساسية للأمن المائي السوري، تتنوع بين سدود وخزانات طبيعية وبحيرات، أهمها سد الوحدة الذي يقع على نهر اليرموك، مباشرة على خط الحدود بين سوريا والأردن، وتصل طاقته التخزينية إلى 225 مليون متر مكعب، ويعد أحد أبرز المنشآت المائية في حوض اليرموك. من الأمثلة المهمة في هذا الصدد أيضًا، سد “المنطرة” في محافظة القنيطرة، والذي يُعد ثاني أكبر سد في سوريا، ووصلت القوات الإسرائيلية إليه قبل أيام.
بالعودة إلى الأنشطة الميدانية للجيش الإسرائيلية في القرى السورية، يمكن ملاحظة أن الوجود الإسرائيلي في هذه القرى يقابل باحتجاجات متكررة من جانب السكان المحليين، خاصة في ظل تصاعد المخاوف من تكريس إسرائيل وجودها في المناطق التي تحتلها حاليًا بالأراضي السورية، حيث تقوم وحدات الهندسة العسكرية الإسرائيلية، بتأسيس نقاط “شبه دائمة” في المناطق التي احتلتها، بجانب تعبيد طريق رئيسي، يربط بين المواقع المستحدثة في جبل الشيخ شمالًا، وصولًا إلى موقع “الجزيرة” العسكري في ريف درعا الغربي، وهذا -للمفارقة- نفس الأسلوب الذي اتبعته إسرائيل فيما يتعلق بمواقع تمركزها الحالية في محاور قطاع غزة.
اشتباكات “الصنمين” وبوادر انفلات السلاح

اذا ما وضعنا جانبًا التحركات الإسرائيلية في الجنوب السوري، سنجد أن تطورات أخرى مهمة على مستوى الوضع الداخلي في هذا النطاق قد طرأت خلال الأيام القليلة الأخيرة، وتتلخص بشكل أساسي في حدثين لافتين، الأول هو منع الفصائل المسلحة المحلية في محافظة السويداء رتلًا عسكريًا تابعًا لإدارة العمليات العسكرية وإدارة الأمن العام من دخول المحافظة، ما اضطر الرتل إلى العودة مرة اخرى إلى العاصمة دمشق، رغم أن تحركه في اتجاه السويداء جاء عقب لقاء تم مؤخرًا بين قيادات الفصائل الموجودة في السويداء والقيادة الجديدة في دمشق، تم الاتفاق خلاله على تفعيل الوجود العسكري لإدارة الأمن العام وإدارة العمليات العسكرية داخل السويداء، وهو ما تم التأكيد عليه خلال زيارة تمت في الثامن عشر من الشهر الماضي، لوفد من حكومة تصريف الأعمال إلى محافظة السويداء.
وعلى الرغم من أن الفصائل المسلحة الأساسية في السويداء، وعلى رأسها فصيل “أحرار الجبل”، قد أكدت أن ما حدث كان سببه “سوء تنسيق” بين القوة القادمة من دمشق والفصائل المتواجدة في السويداء؛ فإن هذه الحادثة تعد مؤشرًا مهمًا على وجود خلافات داخلية بين فصائل الجنوب السوري حيال العلاقة مع “إدارة العمليات العسكرية” في دمشق. التطور الثاني المهم يرتبط بالاشتباكات العنيفة التي شهدتها مدينة الصنمين في ريف درعا الشمالي بين مجموعتين مسلحتين محليتين، الأولى كانت تتبع لجهاز “الأمن العسكري” السابق في الجيش السوري، وتعرف باسم مجموعة “محسن الهيمد”، أما الثانية فتتبع قياديًا يعرف باسم “وليد الزهرة”، قُتل عام 2020 خلال اشتباك مع الجيش السوري، وتعد عمليًا تابعة لفصائل المعارضة المسلحة.
هذه الاشتباكات انتهت بعد تدخل إدارة العمليات العسكرية عبر وفد أرسلته من دمشق اجتمع مع مجموعة “محسن الهيمد”، واتفق معها على عدة بنود أبرزها وقف إطلاق النار بين الطرفين وإنهاء المظاهر المسلحة، وتسليم السلاح الثقيل إلى إدارة العمليات العسكرية، وتسليم المواقع التي تسيطر عليها مجموعة الهيمد، على أن تنتشر قوات تابعة لإدارة العمليات العسكرية في نقاط فصل بين الأطراف المنخرطة في هذا النزاع داخل مدينة الصنمين حتى إشعار آخر.
لفهم أكبر لطبيعة الوضع “المسلح” في الجنوب السوري يجدر بالذكر أنه ينتشر في هذا القطاع الجغرافي في الوقت الحالي فصائل مسلحة متعددة، القسم الأكبر منها ينضوي تحت لواء ما يعرف بـ “الجبهة الجنوبية” وهو تجمع للفصائل المسلحة في مدينة درعا، تم تشكيله في فبراير 2014، وتوسع لاحقًا ليشمل الفصائل المتواجدة في محافظة السويداء، وضم في مرحلة سابقة ما يقرب من 60 فصيلًا محليًا مسلحًا، لكن تم تجميد أنشطته بعد التسوية التي رعتها روسيا عامي 2018 و2021، وقضت بدمج فصائل هذا التشكيل ضمن تشكيلات سورية نظامية أشرفت موسكو عليها، وعلى رأسها “اللواء الثامن”، الذي تزعمه المدعو أحمد العودة.
وقد ظلت بعض فصائل هذا التجمع خارج مسارات المصالحة التي رعتها، ومن ثم سارعت عدة فصائل منها مؤخرًا في إعادة تفعيل أنشطتها في مدينتي درعا والسويداء، وشملت هذه الفصائل بشكل رئيس، ثلاث تشكيلات درزية في مدينة السويداء، هي (حركة رجال الكرامة – قوات شيوخ الكرامة – لواء الجبل)، بجانب فصيل مسلح أساسي في مدينة درعا يدعى “تجمع أحرار حوران”.
هذه الفصائل الأربعة عملت من جانبها على دخول العاصمة دمشق بالتزامن مع سقوط النظام السوري، ومازالت تحتفظ باستقلاليتها عن فصائل “غرفة عمليات ردع العدوان” وعن إدارة العمليات العسكرية التابعة لتنظيم “هيئة تحرير الشام”، رغم عقد لقاء جمع بين قادة فصائل الجبهة الجنوبية وقيادة الهيئة، بعد أيام من سقوط النظام السوري، تم خلاله الاتفاق على استلام قوات إدارة العمليات العسكرية، معبر “نصيب” الحدودي مع الأردن، وهو ما تم بالفعل.
مما سبق يمكن أن نستخلص أن الوضع المسلح في الجنوب السوري مازال عمليًا على حالته التي كان عليها قبل سقوط النظام السوري، مع ملاحظة أن المواجهات التي تمت في مدينة الصنمين مؤخرًا، وكذلك الاشتباكات التي شهدتها بلدة الصافية قرب مدينة “ازرع” بريف درعا الأوسط، بين عناصر مسلحة من العشائر البدوية، هي في الأساس إما اشتباكات حول النفوذ المناطقي أو ترتبط بالمواقف السابقة للأفراد والمجموعات من النظام السوري السابق، خاصة أن اتفاقيات المصالحة التي شهدتها محافظة درعا عام 2018 قد أسفرت عن انضمام بعض المسلحين لوحدات رديفة للجيش السوري، وقيام البعض الآخر بإلقاء السلاح أو مغادرة الجنوب السوري.
حقيقة الأمر أن تحديات عدة تبدو ماثلة أمام أي إدارة جديدة في دمشق حيال الوضع القائم حاليًا في الجنوب السوري، سواء ما يرتبط بالتحركات الإسرائيلية الميدانية، والتي طالت بشكل مؤثر الأمن المائي السوري، أو الحالة المسلحة الحالية في محافظات الجنوب التي تفاقمت بفعل انتشار الأسلحة والذخائر في كافة المناطق بعد انهيار النظام السابق، واستيلاء الأطراف المحلية المختلفة على مخازن العتاد والذخائر.
هنا لابد من العودة إلى بنود الاتفاق الذي تم مؤخرًا في مدينة الصنمين، ويلاحظ فيها أنها سمحت باستمرار امتلاك المجموعات المحلية أسلحتها الخفيفة، وهو ما يفتح الباب عمليًا -على الأقل في المرحلة المعاشة- لإمكانية تكرار الاشتباكات بين هذه المجموعات، التي لمست بوضوح أن هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لها لا تمتلك العديد الكافي للانتشار في كافة المناطق السورية، في ظل عزوف الهيئة عن الاستعانة بالضباط والعناصر الذين انشقوا سابقًا عن الجيش السوري، وكذا انشغال الهيئة في الوقت الحالي بعمليات أمنية بدأتها في منطقة الساحل وفي مدينة حمص.
في الخلاصة، يمكن القول إن المواجهات المناطقية التي شهدتها مدينة الصنمين جنوب سوريا، وكذلك عمليات الإعدام الميدانية التي شهدتها مناطق عدة من بينها اللاذقية وحلب وريف السلمية وحمص، والتي استهدفت بشكل أساسي الأقليات مثل المسيحيين والعلويين، باتت تشكل اختبارًا أساسيًا للإدارة السياسية والأمنية الجديدة في البلاد، خاصة أنه رغم تصريحات وزير الدفاع مرهف ابو قصرة حول انطلاق جلسات مع الفصائل المختلفة من أجل التجهيز لضمها لـ “وزارة الدفاع الجديدة”، فإن هذه العملية ستأخذ وقتًا طويلًا، وستواجه بعدة تحديات، أهمها تزايد حالة التوجس من التوجهات المستقبلية للإدارة الجديدة في دمشق، وهو ما استتبعه رفض تسليم الأسلحة من جانب مكونات محلية عدة في البلاد، خاصة المكون الدرزي في الجنوب، وبالتالي يضع استمرار الوضع الحالي المنطقة الجنوبية في سوريا أمام احتمالات صعبة خلال المدى المنظور، بين مطرقة الاحتلال الإسرائيلي لمناطق حيوية فيها وسندان انفلات السلاح وحامليه ونيران تنافر يلوح في الأفق بين فصائل الجنوب وفصائل الشمال.