جولة بلينكن في آسيا الوسطى وما هو أبعد من إثبات الحضور

نرمين سعيد

 

في نقلة جريئة على رقعة الشطرنج، توجه وزير الخارجية الأمريكي في جولة وسط آسيوية شملت الخمس دول التي كانت من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، في خطوة ضمن خطوات الدبلوماسية الأمريكية النشطة لإثبات الحضور في منطقة النفوذ الروسي الأكثر رخاوة في آسيا الوسطى، وربما في محاولة لتفكيك التحالفات الجيوسياسية التقليدية على غرار الخطوات الأمريكية في منطقة الإندوباسيفيك، والتي تركز على اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية، ولا يستبعد أن واشنطن ترغب في غسل سمعتها في المنطقة بعد الانسحاب الفادح من أفغانستان، وأن تكون على مدى من القرب يسمح لها بمراقبة كابول دون التورط رسميًا فيها.

وتوصف هذه النقلة بالجريئة لأنه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي اتبعت الولايات المتحدة نهجًا نمطيًا للتعامل مع آسيا الوسطى، تمحور في كثير من الأحيان حول “وحدة القضية” التي تستدعي حالة الحراك الأمريكي في غياب للوعي حول أهمية المنطقة من الناحية الجيوسياسية، بغض النظر عما إذا كان الحدث جللًا أم لا، فانتقلت واشنطن في علاقاتها مع المنطقة من التركيز على الديمقراطية إلى التركيز على الطاقة ثم مكافحة الإرهاب فيما بعد الحادي عشر من سبتمبر، ولكن جولة وزير الخارجية الأمريكي الأولى من نوعها تخرق حالة التنميط في العلاقات بين واشنطن والوسط من قارة آسيا.

ويمكن تلخيص الأهداف الأساسية للجولة الحالية في النقاط التالية:

  • الضغط على دول آسيا الوسطى للتخلي عن موقفها الحيادي من روسيا، حيث رفضت الجمهوريات الخمسة إدانة العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا واكتفت بالحياد، وهو ما يحث الولايات المتحدة على بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية لتغيير الوضع من الحياد للإدانة، وكذلك تحاول واشنطن ومن ورائها الأوروبيين الضغط على الصين لانتزاع الإدانة منها للعملية العسكرية الروسية. ولكن جمهوريات آسيا الوسطى لن تحقق مصلحة من إدانة موقف روسيا في أوكرانيا نظرًا لاستراتيجية العلاقات التي تربط الأطراف، فكازخستان على حدة تدعم اقتصادها بشكل كبير من خلال علاقاتها مع روسيا وأوكرانيا، ومن ثم فإن الحياد هو الموقف الأكثر عقلانية فضلًا على أن الحدود البرية التي تربط كازخستان مع روسيا يبلغ طولها حوالي 7500 كلم وهي الحدود البرية الأطول في العالم. علاوة على أن تراجع الوجود العسكري لموسكو في المنطقة بشدة وسط الحرب الأوكرانية، يثير القلق في عواصم آسيا الوسطى التي اعتمدت تقليديًا على الضمانات الأمنية والمساعدة الروسية، ويضاف إلى ذلك أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا تهدد التجارة والتصدير في آسيا الوسطى، والتي تركز بشكل كبير على العبور عبر روسيا، وتهدد أيضًا سبل عيش ملايين العمال المهاجرين من آسيا الوسطى الذين يرسلون مليارات الدولارات إلى أوطانهم كل عام من روسيا.
  • وعليه تريد الولايات أن تحجز لنفسها موطئ قدم، خصوصًا أن آسيا الوسطى أصبحت ساحة للتنافس الدولي الهادئ بعد التصاعد في دور القوى الإقليمية وعلى وجه التحديد تركيا- إيران والهند، فقد قامت أنقرة بتشكيل منظمة جمعت فيها دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية ما عدا طاجيكستان الناطقة بالفارسية، كذلك أقدمت كل من تركيا وإيران على تصدير طائرات مقاتلة بدون طيار إلى المنطقة ووعدت بإنتاجها في قيرغيزستان وطاجيكستان، وعلى صعيد الهند فقد عقد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قمة افتراضية مع الجمهوريات الخمس خلال العام الماضي.
  • تحاول واشنطن من خلال حالة من الدبلوماسية النشطة “المستجدة” والتي لم تكن مصاحبة لوجود الرئيس بايدن في البيت الأبيض، اللعب على وتر التحالفات الجيوسياسية التقليدية على أمل تغييرها أو بتقدير أقل تفاؤل تحقيق اختراقًا فيها، وهو ما ينعكس في الحراك النشط لوزيري الخارجية والدفاع في مناطق متعددة من العالم وعلى رأسها الشرق الأقصى والشرق الأوسط وأفريقيا لاحتواء النفوذ الروسي – الصيني المتنامي. ولكن تواجه واشنطن في هذا الإطار عدة عراقيل، خصوصًا في منطقة آسيا الوسطى التي تجمعها بروسيا علاقات تاريخية ومصالح مشتركة أكثر من تلك التي تجمع بين واشنطن وجمهوريات آسيا الوسطى حتى بعد محاولات واشنطن لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع العواصم الخمس، أي أن شكل العلاقة بين واشنطن وآسيا الوسطى سيأخذ منحى العلاقات الإملائية بشكل أكبر. وعلى صعيد آخر، فإن روسيا تمتلك الكثير من الأوراق التي تمكنها من زعزعة الاستقرار في واحدة من مناطق نفوذها، وهو ما يشكل عامل ردع للجمهوريات الخمس من الدخول في تحالف مع الولايات المتحدة يهدد موسكو بأي شكل، وعلى الجانب الآخر تملك موسكو مفاتيح حفظ الاستقرار وليس ببعيد تدخل القوات الروسية في يناير 2022 لحفظ الاستقرار في كازخستان، بعد الاضطرابات التي اجتاحت البلاد هناك على خلفية قرار الحكومة برفع أسعار المحروقات، وهو الدور الذي حرص بلينكن خلال جولته الوسط آسيوية على التأكيد عليه عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على سيادة جمهوريات آسيا الوسطى، وذلك في محاولة لدق إسفين في العلاقات الروسية مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، لأن واشنطن تدرك أن أية خلافات بين روسيا وهذه الدول ستؤدي إلى تشتيت المجهود الروسي على الجبهة الأوكرانية، وهو ما دفع وزير الخارجية الكازاخستاني للتأكيد على أن بلاده ليست مهددة من قبل روسيا.
  • الدعم الاقتصادي لجمهوريات آسيا الوسطى في محاولة لتقليل اعتمادها الاقتصادي على روسيا وإظهار واشنطن في صورة الشريك الاقتصادي الموثوق، وفي هذا الإطار أنشأت الولايات المتحدة مبادرة المرونة الاقتصادية لآسيا الوسطى بمبلغ 25 مليون دولار لتوسيع طرق التجارة الإقليمية، وإنشاء أسواق تصدير جديدة، وجذب وزيادة استثمارات القطاع الخاص.
  • تستغل واشنطن رغبة هذه الدول في الفكاك من التبعية الروسية، ومحاولة إيجاد بدائل حتى في اتجاه الجنوب ناحية أفغانستان على اعتبار كابول جزء من آسيا الوسطى، وهو ما دفع طاجيكستان وأوزباكستان للضغط على واشنطن بعد سقوط كابول في قبضة طالبان في عام 2021 إلى عدم عزل أفغانستان، ولكن من الواضح أن واشنطن لا تمتلك القابلية لمناقشة هذا الطرح في التوقيت الحالي  ولا تهتم كثيرًا على اعتماد كابول على جمهوريات آسيا الوسطى بشكل كامل، والطرح الذي يفترض حرية حركة الجماعات الإرهابية في أفغانستان بحرية لم تتكرر منذ التسعينيات، نظرًا لتغير نطاقات الاهتمام الخاصة بواشنطن.
  • تشكل منطقة آسيا الوسطى بؤرة غنية بمصادر الطاقة، وسوق مهمة يمكن أن تشكل بديلًا ولو محدودًا عن مصادر الطاقة الروسية، حيث تنظر واشنطن بمزيد من القلق للعلاقات المبنية على الطاقة بين روسيا وأوروبا خشية من عودة المحور “الأوراسي”، وربما يكون هذا هو الدافع لاستهداف السيل الشمالي.
  • ترى الولايات المتحدة، أنه لا يمكن للصين أن تلعب دورًا في تأجيج الصراع وفي عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا في آن واحد، ويضاف إلى ذلك الدور الصاعد للصين في منطقة آسيا الوسطى منذ انطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينية في 2013، والتي ترى فيها الولايات المتحدة مبادرة سياسية قبل أن تكون اقتصادية للترويج للأيدولوجية الصينية ومن ثم تريد احتوائه. خصوصًا أن بكين غدت جهة فاعلة رئيسة في آسيا الوسطى، من خلال الاستثمار في مشاريع البنية التحتية المحلية لتحويل المنطقة إلى ممر لوجيستي ونقل يربط بين أوروبا وآسيا. لذلك، ونتيجة لاستثمارات بكين، تعتمد جمهوريات آسيا الوسطى في الوقت الحاضر بشكل كبير على صناديق النقد الصينية. وفي ضوء هذا فإنه بالنسبة للمحور الصيني، فإن هذه الدول الوسط آسيوية لا تبدو مهتمة بالانحياز إلى جانب الغرب على حساب الصين.
  •  ومن زاوية احتواء النفوذ الصيني أيضًا، تنظر واشنطن إلى هذه المنطقة من الناحية الجيوسياسية باعتبارها تمثل حلقة الوصل بين آسيا وأوروبا، فيما يتعلق بمبادرة الحزام والطريق ومن خلال آسيا الوسطى يمكن حرمان الصين من الوصول إلى أوروبا وتعطيل المشروع بالكامل، خصوصًا أن البيت الأبيض ينظر إلى مبادرة الحزام والطريق باعتبارها فرصة ذهبية للصين لجمع مختلف أنواع البيانات عن القارة الأوروبية، وقد أشارت واشنطن منذ أيام إلى أن الحاويات الصينية في الموانئ الأمريكية قد تكون موظفة للتجسس على الأمريكيين، وذلك في محاولة منها لضرب النفوذ والتمدد التجاري للصينيين.

استخلاصًا؛ يحتاج صناع القرار السياسي في البيت الأبيض إلى اتباع نهج النفس الطويل لبناء العلاقات الممتدة والراسخة مع جمهوريات آسيا الوسطى. وذلك لأن اعتماد نهج قائم على الديمومة يسمح بالتغلب على فترات الصعود والهبوط التي تتحكم فيها الجغرافيا السياسية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75973/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M