حشد المتطوعين… الميدان الأوكراني والمسير نحو السيناريو السوري

محمد منصور

 

رغم أن مسألة وجود “مجموعات مسلحة شبه عسكرية” في أوكرانيا لم تكن جديدة على الميدان الأوكراني الذي شهد تكريسًا للنفوذ العسكري والسياسي لمجموعات مسلحة تتخذ من بعض التوجهات الإيديولوجية المتطرفة مرتكزًا لتشكيل ما يشبه “حالة ميليشياوية” كاملة المعالم رسخت وجودها على طول خط المواجهة في إقليم “دونباس” منذ عام 2015، الا أن هذه المسألة دخلت مرحلة جديدة كليًا مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي دخلت يومها الثامن عشر، عبر ما يبدو أنه “حشد متبادل” للميليشيات والمتطوعين الأجانب، بين طرفي الصراع الدائر حاليًا على الأراضي الأوكرانية.

تدشين هذه المرحلة جاء بعد تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير دفاعه سيرجي شويجو عن وجود أكثر من 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط يريدون القتال إلى جانب موسكو في أوكرانيا، وتحديدًا مع الوحدات الانفصالية الموالية لروسيا في إقليم دونباس.

هذه الخطوة وإن كانت ظاهريًا تعد ردًا على تدفق المتطوعين الأوروبيين للقتال ضمن “الفيلق الدولي” الذي أعلنت كييف عن تشكيله مؤخرًا، إلا أن الوقائع الميدانية تشير إلى أن موسكو وضعت هذا الخيار منذ البداية ضمن أجندتها “التكتيكية” لتشكيل حالة أشبه ما تكون بالحالة السورية التي تتوازن فيها القوتان الغربية والشرقية على ضفتي الأنهار “الفرات في الحالة السورية – الدنيبر في الحالة الأوكرانية”، عبر تموضع القوات النظامية والوحدات شبه العسكرية وكتائب المتطوعين من كلا الجانبين.

المحور الشمالي… الضغط على كييف من اتجاهين

لفهم طبيعة القرار الروسي المتعلق باستقدام متطوعين من الشرق الأوسط للقتال في أوكرانيا، لابد من إلقاء نظرة على الوضع التكتيكي العام للوحدات العسكرية الروسية التي تقاتل في الجبهات المختلفة، وعلى رأسها الجبهة الشمالية التي تستهدف مرحليًا السيطرة على العاصمة “كييف”.

في الأسبوع الأول للمعارك، واجهت الوحدات الروسية مقاومة عنيفة في مدينة “تشيرنيهيف” التي اضطرت إلى الالتفاف حولها، وكذا تصاعد هذه المقاومة، خاصة بعدما بدأت في التركيز -عقب سيطرتها “دون مقاومة” على منطقة “تشيرنوبل”- على المحور الشمالي الغربي للعاصمة، والذي يشمل مناطق “غوستوميل – بوتشا – إربين”، فقد دارت في المناطق الثلاث خلال الأسبوع الأول من العمليات معارك ضارية بين وحدات الحرس الوطني الأوكرانية والقوة الروسية الرئيسة التي تم تخصيصها لهذه الجبهة، وتتألف من أربعة ألوية محمولة جوًا، هي الثامن والتسعين، والسادس والثلاثين، والسابع والثلاثين، والحادي والثلاثين، بجانب لواء مدرع واحد هو اللواء الخامس.

التحركات الروسية في هذه الجبهة كانت محدودة وغير مركزة، ولوحظ فيها -كما في معظم الجبهات الأخرى- لجوء الوحدات الروسية إلى الالتفاف حول المدن وتجاوزها، بشكل يبدو منه أن الهدف التكتيكي للقوات الروسية هو تحاشي التصادم المباشر قدر الإمكان مع القوات الأوكرانية والمدنيين الأوكرانيين داخل المدن، وفي نفس الوقت السيطرة على أكبر رقعة ممكنة من الأرض.

لجوء القيادة العسكرية الروسية إلى استدعاء الوحدات الشيشانية العاملة ضمن قوات الحرس الوطني الروسية، والتي تتضمن القوة الخاصة “قوة أحمد”، والفرقة 141 المدرعة، للانتشار ضمن المحور الشمالي، كان مؤشرًا على أن المخطط العسكري الروسي كان يضع خيار الاعتماد على قوات عسكرية -رديفة- ضمن الخيارات الميدانية الأساسية، وذلك بهدف السيطرة السريعة على العاصمة، وتحقيق الأهداف العسكرية المرحلية في المحور الشمالي.

وقد كان القرار بدفع الوحدات الشيشانية -التي تتميز بخبرة ميدانية كبيرة في حرب المدن، وبخوضها هذه المعركة مدفوعة باعتبارات تاريخية وعقائدية- له مفعول إيجابي على عمليات المحور الشمالي، حيث تم تأمين السيطرة الروسية على منطقتي “غوستوميل” و”بوتشا” بشكل شبه كامل، وبات القتال خلال الساعات الأخيرة مركزًا على منطقة “إربين” التي يحاول لواءان محمولان جوًا هما اللواء الثامن والتسعين والحادي والثلاثين اختراقها لدخول الأحياء الشمالية الغربية للعاصمة، خاصة وأن التعزيزات الروسية التي عبرت من حول مدينة “تشيرنيهيف” المحاصرة بدأت خلال اليومين الماضيين في تفعيل محور هجومي آخر نحو العاصمة، وهو محور منطقة “بروفاري” شمال شرق العاصمة.

لتصبح كييف بذلك مطوقة من الشمال بشكل كامل. يضاف إلى ذلك بدء وحدات روسية محمولة جوًا، في التقدم جنوبًا في المحور الشمالي الغربي للعاصمة، نحو منطقة “مكاريف”؛ بهدف الوصول إلى الطريق الرئيس المؤدي إلى الأحياء الغربية للعاصمة، وقطع طرق الإمداد القادمة من مدينة “زهيتومير”.

القوات الرديفة على الجانبين

بالنظر إلى تجربة استخدام الوحدات الشيشانية في المحور الشمالي، وإلى حقيقة أن الوحدات الروسية التي دخلت إلى أوكرانيا، كانت مشكلة في مجملها من المتطوعين النظاميين والوحدات الخاصة والمظلية، بجانب بعض الوحدات ذات الطبيعة “الشرطية” المدربة على عمليات مكافحة الشغب، مثل وحدات “روزجفرديا”، يمكن القول إن خيار استخدام القوات الرديفة في هذه الحرب كان خيارًا روسيًا أساسيًا ضمن الخيارات التي تم وضعها على طاولة خطة الهجوم على أوكرانيا، وهو خيار تبدو فيه الخبرة الروسية في سوريا وأفريقيا -فيما يتعلق بتشكيل وتدريب وحدات المتطوعين الرديفة، أو إرسال الوحدات الخاصة لتدريب القوات المسلحة الصديقة- بمثابة عنصر أساسي يجعل من الاستفادة من هذا الخيار على المستوى الميداني أمرًا ممكنًا جدًا فيما يتعلق بالحالة الأوكرانية.

ففي سوريا، شكلت موسكو خلال السنوات الماضية عدة وحدات عسكرية رديفة، على رأسها ما يعرف باسم “الفيلق الخامس” الذي قامت بتدريبه وتسليحه، وشكلت منه بعض الوحدات الخاصة تحت اسم “صائدي داعش” خلال عمليات الجيشين الروسي والسوري في البادية السورية والمنطقة الشرقية ضد تنظيم داعش. ناهيك عن رعاية موسكو للمصالحات في أغلب المناطق السورية، والتي كانت تتضمن إدماج المسلحين المعارضين -المنخرطين ضمن عمليات المصالحة- في صفوف الوحدات العسكرية التابعة للفيلق الخامس.

هؤلاء المقاتلون السوريون يتمتعون بطبيعة الحال بخبرة ميدانية كبيرة، خاصة في ميدان عسكري مشابه إلى حد بعيد بالميدان الأوكراني، وبشكل محدد حروب المدن التي تفادت القوات الروسية الدخول فيها حتى الآن في أوكرانيا. تعد المجموعات السورية من ضمن أبرز المجموعات التي يتوقع أن تدخل في دائرة القتال تحت لواء الجيش الروسي في أوكرانيا خلال الأيام المقبلة، لكنها لن تكون الوحيدة على ما يبدو.

ففي هذا الإطار برز دور -يمكن اعتباره جديدًا- للقارة السمراء، وتحديدًا لبعض مواطني الكاميرون والكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى الذين أعلنوا عبر تسجيلات مصورة استعدادهم للسفر إلى أوكرانيا للقتال ضمن القوات الروسية. وهنا لابد من ذكر حقيقة أن موسكو حاضرة في هذه الدول، خاصة في أفريقيا الوسطى، عبر مرتزقة “فاجنر”، الذين يمكن اعتبارهم بمثابة أداة روسية أساسية للوجود في مناطق النزاع المختلفة التي لا تتوفر فيها إمكانية تموضع قوات روسية نظامية. مرتزقة “فاجنر” دربوا سابقًا الوحدات العسكرية في أفريقيا الوسطى ودول أفريقية أخرى، وبالتالي يمكن أن يلعبوا دور “الوسيط” الذي سيوفر للمتطوعين الأفارقة الوسائل اللوجيستية للانتقال إلى أوكرانيا.

في المقابل، تتصاعد بشكل لافت عمليات وصول المتطوعين من عدة دول أوروبية نحو الحدود البولندية – الأوكرانية، خاصة بعد أن أبدت بعض الدول مثل الدنمارك وبريطانيا أنها لن تمنع مواطنيها من السفر للقتال في أوكرانيا ضمن “الفيلق الدولي”. حتى الآن، شملت قائمة الدول التي وصل متطوعون من مواطنيها إلى أوكرانيا دول مثل بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وفرنسا وبولندا وجورجيا. بعض هؤلاء المتطوعين يمتلك خبرات قتالية سابقة في العراق، ولكن الأكثر لفتًا للانتباه هنا أن الورقة السورية ربما يكون لها تأثير مزدوج مشابه للأثر الذي أحدثه وجود مقاتلين شيشانيين ضمن التشكيلات الرديفة للجيش الأوكراني، في نفس الوقت الذي تقاتل فيه الوحدات الشيشانية ضمن تشكيلات الحرس الوطني الروسي.

فمن المعلوم أن عدة فصائل مسلحة ينحدر منتسبوها من منطقة القوقاز، خاصة من الشيشان -من بينها فصيل “جنود الشام” و”أجناد القوقاز”- توجد حاليًا في محافظة إدلب السورية، وبعض هذه الفصائل انضوت تحت لواء “هيئة تحرير الشام” أو ما كان يعرف سابقا باسم “جبهة النصرة”. تشير معلومات إلى أن عمليات نقل بعض هؤلاء المقاتلين إلى اوكرانيا قد بدأت بالفعل عبر الأراضي التركية، وأنهم من جنسيات متنوعة، علمًا بأنه سبق لتركيا إرسال مئات السوريين الموالين لها للقتال في إقليم “ناجورنو قره باغ” ضد الجيش الأرمني، وبعضهم ظل موجودًا على أراضي الإقليم، ويحتمل أن يتم نقلهم إلى أوكرانيا أيضًا.

هؤلاء بالإضافة إلى فرق المتطوعين الأكثر خبرة من بيلاروسيا والشيشان وجورجيا سيقاتلون جنبًا إلى جنب مع الميليشيات اليمينية ووحدات الحرس الوطني الأوكرانية في الجبهة الشمالية بشكل رئيس، وفي الجبهة الشرقية والجنوبية بشكل أقل، وهذا يفرضه عامل أساسي وهو “طرق المواصلات”.

هذا العامل يعد من العوامل الحاكمة في تحديد الموقف الميداني العام في الجبهة الشمالية لأوكرانيا، ففعليًا باتت الحدود بين أوكرانيا وبولندا، المسار الأساسي لعبور المقاتلين والمساعدات التسليحية الغربية، نحو نقطة التجميع الأساسية في مدينة “لافيف”، ومن ثم توزيعها على الجبهات المختلفة، ولهذا كان لافتًا توجه بعض الوحدات الروسية نحو غرب العاصمة، لقطع طريق الإمداد الرابط بينها وبين مدينة “زهيتومير”. استمرار دخول هذه الإمدادات إلى العمق الأوكراني ربما يشكل معضلة أساسية أمام موسكو التي اضطرت إلى التروي في عمليات تقدمها الميداني بفعل الانتشار الواسع للوسائط المضادة للدبابات في كافة الجبهات.

تباطؤ العمليات في الجبهتين الشرقية والجنوبية.. إلى حين

ربما يمكن اعتبار “تباطؤ التقدم” أيضًا من السمات الأساسية لعمليات الجيش الروسي في الجبهتين الجنوبية والشرقية، فقد أوقفت القوات الروسية محاولة تقدمها على الساحل غربًا نحو ميناء “أوديسا”، وعدلت تحركاتها الهجومية في الجبهة الجنوبية، لتصبح مركزة أكثر على ثلاثة اتجاهات، الأول بدأ بعد تأمين السيطرة على مدينة “خيرسون”، وهو في اتجاه الشمال الغربي، لإكمال الطوق على مدينتي “ميكوليف” و”فوزنيسينسك”، والوصول إلى محيط محطة جنوب أوكرانيا النووية، التي تضم ثلاثة مفاعلات.

الاتجاه الثاني هو نحو مدينة “زابورازهيا” ومحيطها، أما الاتجاه الثالث فهو شرقًا لإكمال السيطرة على بقية مناطق ساحل بحر آزوف، وهو الاتجاه الهجومي الأكثر نجاحًا على الإطلاق في كافة الجبهات، إذ سيطرت فيه القوات الروسية على مدينتي “ميليتوبول” و”بيرديانسك”، ووصلت إلى التخوم الغربية والشمالية لمدينة “ماريوبول”، والتحمت مع القوات الانفصالية في إقليم دونيتسك، التي بدورها ركزت على السيطرة على المناطق الشمالية لمدينة ماريوبول، مثل منطقة “فولونفاخا” التي سيطرت عليها القوات الانفصالية مؤخرًا.

في الجبهة الشرقية تبدو الأمور أكثر بطئًا، حيث تستمر عمليات القصف المدفعي من المواقع الانفصالية شمال مدينة “لوهانسك” في دونباس، نحو مدينة “سيفيرودونيتسك” والمدن المحيطة بها، بالتزامن مع محاولات القوات الروسية دخول المدن المحاصرة في النطاق الشمالي الشرقي مثل “خاركيف” و”سومي”، وقيام هذه القوات بمحاولة لحصار الجيب الأوكراني الذي يقاتل في المناطق الغربية لإقليم دونباس، عبر إطلاق تحرك هجومي جنوبًا نحو شمال مدينة دونيتسك، بالتزامن مع إطلاق القوات الانفصالية فيها عمليات معاكسة نحو الشمال.

خلاصة القول، انه يمكن اعتبار بعض الملامح الميدانية للتكتيكات العسكرية الروسية في أوكرانيا، مثل محاصرة المدن واللجوء للسيطرة على المفاعلات النووية، والوتيرة البطيئة لعملية عزل العاصمة كييف، وكذلك تقليل الزخم الهجومي الذي كان يستهدف الجانب الغربي من نهر الدنيبر “محور مدينة أوديسا”، واللجوء إلى ورقة “المتطوعين”؛ بمثابة دلائل على رغبة موسكو في الضغط بشكل تدريجي على الحكومة الأوكرانية ومن خلفها الغرب للقبول بتسوية سياسية ترضي موسكو، أو فرض حالة مطابقة لمعادلة “شرق وغرب الفرات” في سوريا، والتي قد توفر لموسكو ما ترغب فيه على المستوى الاستراتيجي قصير المدى، ولكنها قد تحول تجربة معارك إقليم دونباس إلى حالة عامة في أوكرانيا يتم فيها تطبيق نموذج الشرق السوري بصورة شبه كاملة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/68184/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M