سونر چاغاپتاي
تقوّض الحملة العسكرية المستمرة ضدّ المتمردين والمدنيين في إدلب الاتفاقات التي توصل إليها الرئيسان فلاديمير بوتين ورجيب طيب أردوغان، إلى جانب تسببها بإرسال مئات الآلاف من اللاجئين الفارين باتجاه الحدود التركية. فقد كان للرئيسين سابقاً تصوراً يتمثل بتعايش الجيش التركي والفصائل السورية المتمردة التي يدعمها في المحافظة جنباً إلى جنب مع القوات الروسية والسورية. غير أن العملية العسكرية المتجددة التي شنّها بوتين وبشار الأسد أثارت الشكوك حول ما إذا كان بإمكان أردوغان منعهما من الاستيلاء على معظم الأراضي أو جميعها. وفي 4 شباط/فبراير، حذر الرئيس التركي من أنه “لن يسمح للقوات السورية بالتقدم”، لكن خياراته في متابعة هذا الإنذار محدودة بسبب مجموعة من العوامل الاستراتيجية والسياسية.
أردوغان بحاجة إلى التوافق مع بوتين
رغم أن أردوغان هو السياسي الأكثر نفوذاً في تاريخ تركيا الانتخابي الحديث، إلا أن الانقلاب الفاشل عام 2016 جعله يشعر بأنه عرضة للخطر. وقد استغل بوتين هذه المخاوف كجزء من جهوده الأوسع نطاقاً لتصوير نفسه كحامي القادة المهددين في جميع أنحاء العالم، من الأسد إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وبعد فترة وجيزة من محاولة الانقلاب، اتصل بوتين بأردوغان قبل أن يفعل ذلك أي من الحلفاء الغربيين التقليديين لتركيا، ثم واصل تقديم الدعم في مختلف القطاعات، حتى إن حملة القمع التي أعقبت الانقلاب جعلت أردوغان غير مرحب به على نطاق واسع في العواصم الأوروبية.
وتاريخياً، تُعد روسيا أبرز الأعداء الجيوسياسيين لتركيا، غير أن بوتين تراجع عمداً عن هذا الموقف سعياً منه إلى دق اسفين بين [أعضاء] حلف “الناتو”. وفي إطار هذا التغير في المواقف (مهما كان مؤقتاً)، دعم بوتين وأردوغان الانفراج في العلاقات، وعقدا اتفاقات بشأن المسائل الأمنية (على سبيل المثال، شراء تركيا لأنظمة الدفاع الصاروخي الروسية “S-400“) وتجنبا المواجهة في مساعيهما العسكرية في المنطقة، أولاً في سوريا، ولاحقاً في ليبيا.
وفي الوقت نفسه، فإن تاريخ تركيا الطويل الحافل بتعرضها للتخويف من قبل روسيا يجعل أردوغان متردداً في تحدي بوتين. ومن بين جميع الدول المجاورة لها، روسيا هي الوحيدة التي تخشاها أنقرة حقاً. فبين القرنين الخامس عشر والعشرين، خاض الشعبان ما يقرب من عشرين حرباً، تم التحريض لجميعها من قبل الروس الذين فازوا فيها في النهاية.
وبالتالي، يحرص القادة الأتراك على تجنب تصعيد الأزمة الحالية في إدلب. ورغم أن القوات التركية قد تصدّت للقوات السورية المحلية والوكيلة إلى حدّ ما، إلا أن أنقرة ستتجنب المواجهة العسكرية الأوسع مع روسيا حول إدلب.
أنقرة بحاجة إلى موسكو في ليبيا
قبل العام الماضي، كان الصراع المتأزم بين الحكومة الليبية المعترف بها دولياً في طرابلس وقوات الجنرال خليفة حفتر المتمركزة في الشرق قد وصل عموماً إلى طريق مسدود. وكان هذا الركود، رغم هشاشته، مقبولاً إلى حد ما لتركيا طالما أن حكومة طرابلس (التي تدعمها تركيا) لم تتعرض لتهديد خطير من قبل حفتر (الذي يحظى بدعم خصوم أردوغان في المنطقة، والإمارات العربية المتحدة ومصر).
ولكن مع مرور العام واندلاع القتال مرة أخرى بشكل جدي، غيرت روسيا اللعبة من خلال تعزيز دعمها العسكري لحفتر. ومن خلال تزويده بالمواد الأساسية (على سبيل المثال، قدرة الحرب الليلية)، والمزيد من المرتزقة المدربين جيدًا (أي “جيش فاغنر”)، والدراية الفنية لإسقاط طائرات بدون طيار والتي وفرتها تركيا لحكومة طرابلس، حوّل بوتين القائد حفتر إلى تهديد مدمر في وجه حلفاء أنقرة المحليين. وقد أرغم ذلك أردوغان على نشر قواته في ليبيا، وسعيه للحصول على مساعدة روسيا لضمان وقف لإطلاق الناريمكن أن يمنع حفتر من الاستيلاء على طرابلس.
وعلى الرغم من فشل بوتين في التوسط لوقف إطلاق النار بشكل نهائي في قمة عُقدت في كانون الثاني/يناير في موسكو، إلا أنه قلل من دعمه القوي لحفتر – في الوقت الحالي. ويمنحه ذلك فرصة لربط سياسته إزاء سوريا بسياسته تجاه ليبيا عند التعامل مع تركيا. وإذا واصل أردوغان عمليات التصدي التي يشنها في إدلب، فمن المرجح أن يجدد بوتين دعمه الكامل لحفتر، ليضع بذلك طرابلس في قبضة الجنرال.
وهذا السيناريو غير مقبول لأنقرة، ليس فقط لأنه سيكون بمثابة إهانة لأردوغان في المنطقة، بل أيضاً لأنه سيؤدي إلى محاصرة تركيا في منطقة البحر المتوسط من قبل الخصوم القدامى (اليونان وقبرص) والجدد (مصر وإسرائيل). وخلال السنوات القليلة الماضية، أطلقت هذه الدول الأربع مبادرات مختلفة تتعلق بالغاز الطبيعي والأمن، وهي مبادرات تعتقد أنقرة أنها ستتبلور لتصبح تعاوناً استراتيجياً نشطاً ضد تركيا. وقد لعب هذا الخوف دوراً رئيسياً في قرار أردوغان في تشرين الثاني/نوفمبر بتوقيع اتفاقية الحدود البحرية مع ليبيا، مما أسفر عن رسم خط قد يتيح له اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل، والتصدي في الوقت نفسه للضغوط المصرية -الإماراتية على طرابلس. لكن إثارة غضب بوتين في سوريا قد تقلب هذه الاستراتيجية رأساً على عقب.
أردوغان بحاجة إلى التصرف حول اللاجئين
تستضيف تركيا أساساً حوالي 4 ملايين لاجئ سوري، وإذا سقطت محافظة إدلب، فقد تمارس حركات النزوح الجماعية الناتجة عن ذلك ضغوطاً كبيرة على موارد أنقرة وتتسبب في المزيد من ردود الفعل المحلية. فالبيئة السياسية في تركيا مستقطبة إلى حد كبير بين الكتل المؤيدة لأردوغان والمناهضة له، لكن الاستياء من اللاجئين السوريين هو قضية نادرة يتحد بشأنها الرأي العام. وبعد أن رحّب الأتراك بملايين السوريين الفارين واستضافوهم منذ ما يقرب من عقد من الزمن، يبدو الآن أن معظم الأتراك يعتقدون أن وجودهم يعيق جهود الحكومة لمعالجة الركود الاقتصادي والتحديات الأخرى. ووفقاً لاستطلاع حديث أجرته “جامعة قادر هاس”، فإن ما يقرب من 70 في المائة من الأتراك الذين شاركوا في الاستطلاع “غير راضين” عن وجود اللاجئين.
وبالتالي، إذا واصلت روسيا والأسد حملتلهما لإخلاء إدلب، فلن توافق تركيا بمفردها على استيعاب جميع تدفقات اللاجئين الناتجة عن الحملة. وعوضاً عن ذلك، من المرجح أن يحاول أردوغان توجيه اللاجئين نحو أوروبا، إما بشكل غير مباشر عبر بلدان ثالثة أو عن طريق فتح أبواب تركيا والسماح لهم بالعبور إلى اليونان.
أجَلْ لأردوغان بعض النفوذ
إن هدف بوتين هو إنهاء الحرب في سوريا بشروط مؤاتية له وللأسد، والتوصل في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية من خلال ما يسمى بـ”عملية الأستانة”. وتُعتبر مشاركة تركيا في هذه العملية أمر أساسي إذا كانت لنتيجتها أن تحصل على نوع من الشرعية الدولية. فمن دون موافقة أنقرة، ستصبح “عملية الأستانة” نادياً “لأصدقاء الأسد” بنظر العالم، لأن روسيا وإيران هما المشاركان الآخران الحاليان فقط في هذه العملية.
ويدرك بوتين أيضاً أن الإفراط في ممارسة الضغوط في إدلب قد يعيد أردوغان إلى ذراع واشنطن، وبالتالي يكرر خطأ جوزيف ستالين في 1945-1946، عندما دفعت مطالبات السوفييت بأراضٍ تركية إلى انضمام البلاد إلى حلف شمال الأطلسي وتصبح حليفاً مقرباً من الولايات المتحدة. ويبدو أن الكرملين يدرك أن مصالحه الاستراتيجية الطويلة الأمد ستتحقق بشكل أفضل من خلال عرض اتفاق جديد على أردوغان في إدلب، حتى لو كان يعتزم خرق ذلك الاتفاق في وقت لاحق. وربما يسمح بوتين لتركيا بشن ضربات رمزية قوية على أهداف نظام الأسد.
غير أنه من أجل الحفاظ على التوازن، لن تسمح موسكو لأردوغان بطرد قوات الأسد من إدلب بشكل كامل. ونظراً للطبيعة غير المتناسقة لعلاقة تركيا مع روسيا والتهديد الحقيقي الذي تشكله موسكو على المصالح التركية في ليبيا، سيضطر أردوغان إلى القبول باتفاق حول إدلب إذا عرض عليه بوتين اتفاق كهذا.
وسيرتكز هذا الاتفاق المحتمل على الأرجح على المصالح الأساسية للأسد. فنظامه ذو القيادة العلوية لا يزال يرغب في استعادة أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، ولكن بأقل عدد ممكن من السكان العرب السنّة، بما أن شرارة انتفاضة 2011 انطلقت من هذه المجتمعات. ويشير ذلك إلى أنه حالما يضمن الأسد أمن الطريقين السريعين الاستراتيجيين “M4 ” و “M5” اللذان يمران عبر إدلب شرقاً وجنوباً، فقد يسمح لأردوغان – على الأقل مؤقتاً – بالسيطرة على القسمين الغربي والشمالي من المحافظة المتاخمين لتركيا. ومن شأن ترتيب كهذا أن يحصر معظم سكان إدلب (بمن فيهم حوالي 2 -3 ملايين مدني) في منطقة تبلغ مساحتها حوالي 1000 ميل مربع. لكن المخاطرة بهذا الوضع البشري الهش قد يكون الثمن الذي هم على استعداد لدفعه من أجل إيجاد حل لإدلب في وقت ما في المستقبل .
رابط المصدر: