عودة ترمب والنسخة الخليجية الثانية من مقاربة خفض التصعيد

  • أدى صمود نهج خفض التصعيد بين دول الخليج وإيران، وإدانة هذه الدول العلنية للتصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران في الأشهر الأخيرة، إلى فتح صفحة جديدة مختلفة في مقاربة خفض التصعيد الإقليمي، تحتاجها طهران بشكل أكبر.
  • تنطلق النسخة الثانية من مقاربة خفض التصعيد من رغبة خليجية حقيقية وجادة بدور أمريكي أكثر شمولية وإنتاجية وواقعية تجاه قضايا المنطقة؛ ومن ضمنها الملف الفلسطيني، ومعالجة القضية الإيرانية عبر الدبلوماسية وليس المواجهة العسكرية.
  • من المهم أن تعمل دول الخليج على إيصال كلمتها إلى فريق ترمب مبكراً، وأنْ تسعى إلى تقييم مصالحها بين فريقه الذي يتراوح بين مجموعة انعزالية تتماشى مع صورة ترمب وخطابه المحلي، وأخرى محافظة جديدة متنافسة.

 

تبدو المقاربة الخليجية، المستمرة حالياً ومنذ سنوات، والمتعلقة بخفض التصعيد الإقليمي وإعطاء الأولوية لأجندة الجيو-إيكونوميك، متوافقة مع بعض ملامح إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الجديدة؛ حيث وعد بإنهاء الحروب وتخفيف الصراعات. والمثير للانتباه، أن مقاربة خفض التصعيد الخليجية مع الجيران والفرقاء الإقليميين انطلقت أساساً في فترة ولاية الرئيس ترمب الأولى (2017-2021). لكنّ وجهة النظر التي يقدمها هذا التحليل تذهب إلى تبلور نسخة خليجية ثانية لمقاربة خفض التصعيد.

 

بعض أهداف ترمب 2.0

لعلّ من الانتظارات الأساسية في منطقة الخليج للعام 2025 استكشاف الاتجاهات الاستراتيجية الأولية للإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترمب نحو منطقة الخليج والعلاقة مع إيران، وكيفيات استجابة دول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى لتلك الاتجاهات والاستراتيجية الأمريكية.

 

في الواقع، لم تُعطِ إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على الأقل في سنتها الأولى، أولوية للشرق الأوسط. كانت الأولوية داخلية، وعلى المستوى الخارجي كانت أوروبا والصين وآسيا في الواجهة. ولهذا فإن إدارة ترمب الأولى -التي كسرت التقاليد السياسية الأمريكية من طريق زيارة ترمب السعودية والشرق الأوسط في أول جولة رئاسية خارجية له- هي الآن (في ظل عودة ترمب مجدداً إلى البيت الأبيض) أمام تساؤل عما إذا كانت ستعطي مرة أخرى أولوية كبيرة للشرق الأوسط. وتبدو الإجابة الأولية؛ نعم.

 

تترقب المنطقة الاتجاهات الاستراتيجية الأولية التي ستتبناها إدارة ترمب 2.0 نحو الخليج والعلاقة مع إيران (أ.ف.ب)

 

ومع صعوبة التكهُّن بمواقف ترمب وسياساته، وفي ظل عدم تحرره كلياً من سلطة المؤسسات الأمريكية ودوائر التأثير الداخلية المختلفة في مجريات السياسة الأمريكية، من المتوقع أنه سيضع على أجندته وضمن أهدافه ما يلي:

 

  • تحقيق إنجاز في مسألة توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، ويرغب ترمب أن تكون المملكة العربية السعودية في مقدمة القائمة الجديدة.
  • عقد صفقة رابحة في الملف الإيراني تُبنَى على تراجعِ نفوذِ إيران الاستراتيجي، وخصوصاً إبعاد أي احتمالات لامتلاك إيران سلاحاً نووياً. ولعل تعيينه فريقاً من الصقور في إدارته مؤشر على رجحان اتخاذه نهجاً متشدداً حيال إيران. لكنّ تجربة ترمب مع مستشاره القوي للأمن القومي في إدارته السابقة جون بولتون (أُقيل في سبتمبر 2019) تؤكد أن بوسعه التحرك بعيداً عن نصائح فريقه الصقوري إن أراد.
  • تحقيق تسوية للحرب في أوكرانيا.
  • وفي صدارة أهدافه بالطبع إنعاش الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، وإظهار تفوقها العالمي على الصين. في المقابل، فإن ترمب ينظر إلى الصين بوصفها لاعباً محتملاً بمقدوره المساعدة في إبرام التسوية بين موسكو وكييف. لكن هذا الأمر لن يكون من دون مقابل، بعد إعلان ترمب عن فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 10% على الواردات الصينية، وإصراره على أن إيقاف فرضها مشروط بمساعدة بيجين في منع تدفق المواد الأولية للفنتانيل إلى الولايات المتحدة.

 

ماذا تريد دول الخليج من إدارة ترمب 2.0؟

بدأت مقاربة خفض التصعيد الخليجية في ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى. ولعل أهم ما عنته وتعنيه هذه المقاربة أن الدبلوماسية والحوار والتواصل مع الفرقاء والمنافسين الإقليميين أجدى من المواجهة والصراع. كما عنت هذه المقاربة أن المعادلة الصِفرية للتنافس الإقليمي غير مجدية استراتيجياً ومكلفة على صعيدي الأمن والاقتصاد. ومع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة والمشهد الدولي، ومع ولاية الرئيس ترمب الثانية يبدو أننا أمام نسخة جديدة من مقاربة خفض التصعيد.

 

في النسخة الأولى من مقاربة خفض التصعيد لم تكن حرب أوكرانيا مشتعلة، ومع اندلاعها منذ فبراير 2022 حتى الآن اتجهت دول الخليج لأداء أدوار الوساطة بين أوكرانيا وروسيا. وما يزال بإمكان دول الخليج متابعة هذه الأدوار وتوسيعها إلى جانب مجموعة من اللاعبين الإقليميين والدوليين؛ مثل تركيا والهند والصين.

 

ومن جانب آخر، فإن بدايات فترة ولاية ترمب الأولى حالت دون ممارسة السعودية والإمارات، على خلاف قطر وعُمان والكويت، أدوار حوار جدية مع إيران، التي ساءت علاقتها مع عهد ترمب في ظل سياسة “الضغوط القصوى”، التي انتهجها، وانسحابه من الاتفاق النووي في العام 2018.

 

تنادي دول الخليج اليوم بخفض التصعيد من موقع قوة واقتناع وإدراك أكبر لفوائد هذا الخفض على المستوى الاستراتيجي (أ.ف.ب)

 

لكنّ صمود نهج خفض التصعيد بين دول الخليج وإيران حتى الآن، وإدانة هذه الدول العلنية للتصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران في الأشهر الأخيرة، إنما يفتح صفحة جديدة مختلفة في مقاربة خفض التصعيد، تحتاجها إيران بشكل أكبر. ففي النسخة الأولى من خفض التصعيد كان ثمة توجهاً من الخليج تجاه إيران، أكثر منه توجّه إيراني نحو الخليج. وقد تعدّلت هذه الموازين مع اتفاق المصالحة السعودية-الإيرانية بوساطة الصين في مارس 2023. واليوم، وبعد العواصف الجيوسياسية التي اجتاحت المنطقة منذ 7 أكتوبر 2023، وعودة ترمب إلى السلطة مجدداً، فإن إيران بأمس الحاجة لأن تطلب خفض التصعيد، وهو أحد فوارق النسخة الثانية لخفض التصعيد.

 

في النسخة الأولى انطلقت المقاربة بين دول الخليج وإيران، أو بين دول الخليج وتركيا؛ في ظل امتعاض خليجي من رد فعل أمريكي فاتر وغير كافٍ إزاء التحركات العدوانية للمليشيات المتحالفة مع إيران، وخاصة هجمات الحوثيين ضد المصالح السعودية (2019)، والإماراتية (2022). في المقابل، تنطلق النسخة الثانية من رغبة خليجية حقيقية وجادة بدور أمريكي أكثر شمولية وإنتاجية وواقعية تجاه قضايا المنطقة؛ ومن ضمنها الملف الفلسطيني، ومعالجة القضية الإيرانية بحكمة أكبر؛ عبر الدبلوماسية وليس المواجهة العسكرية والتصعيد. وهذا يعني أن دول الخليج اليوم تنادي بخفض التصعيد من موقع قوة واقتناع وإدراك أكبر لفوائد هذا الخفض على المستوى الاستراتيجي، وليس فقط لإدارة أزمة أو باعتباره ردة فعل. هذا التوجه الخليجي المدروس تقول من خلاله دول الخليج إن لها كلمة مستقلة بخصوص الاستقرار الإقليمي، وأنها ليست طرفاً هامشياً في معادلة الأمن الجماعي في المنطقة.

 

ولهذا؛ فإن من أهم التحديات التي تواجهها دول الخليج العربية، محاولة إقناع الفريق الصقوري الجديد للرئيس ترمب بأخذ هذه المعطيات السابقة بعين الاعتبار، والوفاء بوعوده الانتخابية، التي ذهب فيها إلى أنه يريد إنهاء الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وتعزيز التسويات والتهدئة، وعقد الصفقات.

 

ودول الخليج مدعوّة لأنْ تُوْصِل كلمتها إلى فريق ترمب مبكراً، وأنْ تسعى إلى تقييم مصالحها بين فريقه الذي يتراوح بين مجموعة انعزالية تتماشى مع صورة ترمب وخطابه المحلي، وأخرى محافظة جديدة متنافسة.

 

ولعلّ انفتاح إيران (المختلفة هذه المرة بسبب انكشافها الشديد أمام الهجمات الإسرائيلية، وبسبب الإضعاف الملموس لها ولحزب الله وسقوط حليفها السوري) على مباحثات محتملة مع إدارة ترمب الجديدة يكشف عن استجابة إيرانية محتملة مختلفة، ربما، عن طبيعة الاستجابة الإيرانية في ظل إدارته الأولى. وفي حال وجدت إدارة ترمب بالفعل “إيران جديدة” فمن المحتمل أن تتوقف عن انتهاج سياسة “الضغط الأقصى” ضد طهران.