فرق توقيت: ماذا بعد العقوبات الغربية الجديدة على روسيا؟!

داليا يسري 

 

يُقدم لنا الرئيس الأوكراني ” فولوديمير زيلينسكي” نموذجًا مثاليًا للسلوك السياسي الذي لا ينبغي لأحدٍ أبدًا أن يحذو حذوه. فبعد مشوار متكامل من لغة التعنت والتصعيد ضد روسيا، ومحاولة اللحاق بالركب الغربي، والرفض التام للإبقاء على علاقات بلاده مع روسيا إن لم يكن في وضع “موالٍ”، على الأقل في وضع “محايد” كي تلعب دورًا كمنطقة عازلة تفصل ما بين الاتحاد الروسي من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى؛ بدأ أخيرًا، 25 فبراير، في دعوة الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، للجلوس إلى طاولة المفاوضات فيما أعلن استعداده للإبقاء على بلاده في وضع دولي محايد حقنًا للدماء! وقد جاء ذلك بعد أن دخلت القوات الروسية إلى أوكرانيا بالفعل، وأصبح الشعب الأوكراني في وضع لا يُحسد عليه، إما في الملاجئ أو ذاهبًا إلى الجبهة وهو يُدرك أنه مُلاقٍ حتفه لا محالة.

ونفهم من قرار “زيلينسكي” الصائب الذي اتُخذ بعد فوات الأوان حقيقة مفادها أن كل شيء في الحياة له ثمن، حتى الوقت أيضًا له ثمن! بشكل كفيل بأن يجعل من القرارات الصائبة التي لا تتخذ في وقتها المناسب قرارات تذهب سدى بلا أي تأثير يُذكر على سير الأحداث أو تصويب الأوضاع التي ساءت بالفعل وتضرر منها كثيرون بلا أي ذنب. وفي سياق موازٍ، وبعد العقوبات الغربية الجديدة التي تم فرضها على موسكو، نطرح تساؤلًا حول الدور الذي سيلعبه الوقت في إثبات مدى صواب أو خطأ هذه القرارات؟ والطرف الذي سيدفع الثمن في حالة أن اتضح أنه لم يكن ينبغي على الغرب فرض هذه العقوبات؟

غزو أوكرانيا: موجات جديدة من العقوبات

من الممكن القول إن العقوبات الغربية الجديدة على روسيا جاءت على موجتين: أولهما؛ عندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها، 23 فبراير، عن توقيع عقوبات جديدة على روسيا بعد اعترافها باستقلال إقليمي “لوهانسك” و”دونيتسك” تهدف إلى إلحاق أضرار قاسية بقدرة روسيا على تمويل جهودها العسكرية.

فقد استهدفت بنكين مملوكين للدولة تقول الولايات المتحدة إنهما يمثلان عنصرين أساسيين في قطاع الدفاع الروسي، بحيث لن يعود بإمكانهما القيام بأعمال تجارية في الولايات المتحدة أو الوصول للنظام المالي الأمريكي. وقالت الولايات المتحدة إنها فرضت عقوبات أيضًا على خمسة من النخب الروسية الرئيسة، وأضافت قيودًا على الصفقات الأمريكية المتعلقة بالديون الوطنية لروسيا.

بينما ذهب الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على 27 شخصية ومنظمة روسية من ضمنها مصارف. بحيث تحد هذه العقوبات أيضًا من وصول روسيا إلى الأسواق المالية الأوروبية، وتوقف من إمكانية حصولها على الأموال من بنوك الاتحاد الأوروبي، وتتسبب في حظر التجارة بين الاتحاد الأوروبي والمنطقتين اللتين أعلنتا انفصالهما. واشتملت العقوبات كذلك عقوبات على نحو 351 عضوًا من مجلس الدوما الروسي.

ومن جهة أخرى، أعلن رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” في السياق نفسه عن فرض عقوبات على خمسة بنوك روسية وثلاثة من رجال الأعمال الروس الأثرياء. فيما ظهر أن العقوبة الأوروبية الأكثر لفتًا للانتباه وُقعت عندما أعلن المستشار الألماني، “أولاف شولتز”، إيقاف فتح خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا، كإجراء رأت فيه برلين أنه نوع من أنواع العقوبات على موسكو.

وانتقلت العقوبات الغربية على موسكو إلى الموجة الثانية بمجرد الدخول العسكري الروسي الشامل بشكل فعلي للأراضي الأوكرانية، في صباح الخميس 24 فبراير. فقد بدأ الأوروبيون الحديث عن عقوبات تمس شخص الرئيس الروسي نفسه، ورجاله المخلصين مثل وزير الخارجية الروسي، “سيرجي لافروف”، والتي سرعان ما أعلنت الولايات المتحدة عن اعتزامها الانضمام للاتحاد الأوروبي في فرض نفس العقوبات.

وهو القرار الذي قالت عنه، “جين بساكي”، المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض، 25 فبراير، بأنه قد جاء بعد محادثة هاتفية جرت بين الرئيس الأمريكي، “جو بايدن”، ورئيسة المفوضية الأوروبية، “أورسولا فون دير لاين”. فإلى جانب حظر السفر وتجميد الأصول الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على كبار مسؤولي الكرملين المشاركين في قرار روسيا الاعتراف باستقلال الإقليمين، أضاف الاتحاد الأوروبي 98 مسؤولًا روسيًا وممثلًا لقوات الأمن الروسية إلى قائمة العقوبات، بما في ذلك “بوتين” و”لافروف”.

وتشمل قائمة العقوبات أيضًا رئيس الوزراء، “ميخائيل ميشوستين”، ونائب رئيس مجلس الأمن، “دميتري ميدفيديف”، ووزير الداخلية، “فلاديمير كولوكولتسيف” وآخرين. وتضم القائمة نوابًا وكبار المسؤولين الروس، فضلًا عن كبار المسؤولين العسكريين وقادة القواعد الحدودية والوحدات المختلفة في بيلاروسيا.

وتمس العقوبات بشكل مباشر الصناعات الدفاعية الروسية، فقد تم فرضها على 60 شركة صناعية روسية، بما في ذلك الشركات المنتجة للـ “سوخوي، توبوليف، صاروخ بروجرس، كلاشينكوف، وغيرها”. ويُحظر على هذه الشركات الوصول إلى أسواق رأس المال وأي خدمات مالية، وتقديم المساعدة الفنية والمتاجرة بمنتجاتها وتقنياتها للأغراض العسكرية أو ذات الاستخدام المزدوج، فضلًا عن تقنيات ومعدات إنتاج النفط.

ومن جانبها، فرضت الولايات المتحدة أيضًا عقوبات على بوتين ولافروف، وكذلك أعضاء في مجلس الأمن الروسي، حسبما أفادت وكالات الأنباء العالمية نقلًا عن وزارة الخزانة الأمريكية. وبهذه الطريقة، ينضم بوتين إلى القادة الغربيين الذين عاقبتهم الولايات المتحدة، بمن فيهم الرئيس الفنزويلي، “نيكولاس مادورو”، وآية الله الإيراني علي خامنئي، والزعيم الكوري الشمالي، “كيم جونغ أون”، والرئيس السوري بشار الأسد.

من الذي سيدفع ضريبة الوقت في العقوبات على روسيا؟

في أواخر العام 2021 عندما احتدمت الأمور ودخل العالم في أجواء ساخنة ربما تنذر باندلاع حرب عالمية ثالثة، بدأ الحديث يدور عن عقوبات غربية محتملة على روسيا لو أقدمت بالفعل على غزو أوكرانيا. والآن، وكما نعرف، فقد تجاوز الحديث عن عقوبات حد التلويح والتهديد ودخل بالفعل إلى حيز الأمر الواقع. مما يأخذنا إلى سؤال مُلح، حول طبيعة هذه العقوبات وما إذا كانت عقوبات مؤلمة من طرف واحد فقط، أم أنها ربما ستكون مؤلمة للطرفين، الفارض والمفروض عليه سيتضرر على حد سواء؟! وسؤال آخر، حول كيف ردت موسكو وكيف من المتوقع أن تؤول الأمور فيما يتعلق باستجابتها لهذه العقوبات؟!

نبدأ من تعليق، “ديميتري ميدفيديف”، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، على موقف بلاده من هذه العقوبات بتاريخ 22 فبراير، حيث قال “نحن نعلم ما سيحدث بعد ذلك. مرة أخرى، عقوبات وتهديدات وضغوط سياسية من جهات مختلفة. صرخات جنونية وتيارات مُضللة. لقد مررنا بالفعل بكل هذا وتوقفنا منذ فترة طويلة عن الخوف. لدينا أعصاب قوية”. وتابع “ميدفيدف”، “علاوة على ذلك، تظهر التجربة أن خصومنا الحاليين سيأتون إلينا عاجلًا أم آجلًا مطالبين بالعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن جميع القضايا.” مؤكدًا في الوقت نفسه، أن هذا أمر لا مفر منه بالنظر إلى دور روسيا في العلاقات الدولية. وأنهى “ميدفيديف” كلماته بأن قال، “التاريخ سيؤكد أننا على صواب”.

وفي سياق مماثل، علق “ديميتري بيسكوف”، السكرتير الصحفي للكرملين، اليوم 25 فبراير، قائلًا: إن روسيا ستتخذ إجراءات انتقامية ضد العقوبات الجديدة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. مؤكدًا أن بلاده سوف تسترشد بالمصالح الوطنية ومبادئ المعاملة بالمثل عند اتخاذ هذا النوع من القرارات. وردًا على سؤال حول المشكلات التي ستواجه روسيا بسبب حظر تصدير المواد اللازمة للدخول في صناعات التكنولوجية الروسية الفائقة إلى موسكو. قال “بيسكوف”، “بالطبع سيكون هناك مشكلات لكنها ليست غير قابلة للحل”. ووفقًا له، فإن القيود المعلنة ضد روسيا –على سبيل المثال- بشأن استيراد أشباه الموصلات والرقائق للصناعات النووية والعسكرية والفضائية ستخلق مشكلات، غير أن بلاده عكفت لسنوات ممتدة على تقليص احتياجاتها للواردات من هذا النوع وضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي منها. ووفقًا لـ “بيسكوف”، فقد تحقق الهدف.

ولمحاولة فهم الموقف الروسي من العقوبات الغربية، نحن في غنى عن الاطلاع على تصريحات المسؤولين الروس المذكورة أعلاه او غيرها، نظرًا لأن معطيات الأمور على أرض الواقع تؤكد أن موسكو ستتألم من العقوبات لكنها لديها ما يكفي من الاستعداد لتجاوز الأمر بدون أضرار قاتلة. ولهذا السبب أقدمت على خطوة الغزو بدون أن تكترث لأمر العقوبات هذه المرة، فلا شك أن القيادة الروسية أعدت بالفعل العُدة على مدار السنوات الماضية انتظارًا للحظة المواتية.

والأدلة على عدم تضرر الاقتصاد الروسي من الإجراءات العقابية الجديدة كثيرة. أولها يبدأ عند الطريقة التي شاهد بها العالم موسكو وهي تتجاوز العقوبات الغربية بعد ضمها لشبه جزيرة القرم. وثانيها؛ يذهب للاقتصاد الروسي الذي عكف بوتين على مدار سنوات على جمع الاحتياطي النقدي اللازم له مما جعله اليوم يقف حصينًا صامدًا وهو يتمتع بمستويات قياسية من الاحتياطيات النقدية التي تشكل صمام أمان لروسيا. بالإضافة إلى أسباب أخرى كذلك، يندرج من ضمنها بالطبع أن روسيا تشهد فائضًا ملحوظًا في الميزان التجاري خلال السنوات الماضية.

علاوة على ذلك، لا يمكن النظر إلى أسباب تفادي موسكو لأضرار العقوبات الغربية في منأى عن متابعة طبيعة التحالف الروسي الصيني العميق، والذي تم في مطلع فبراير الجاري، بالتزامن مع افتتاح فاعليات أولمبياد بكين. والذي كان من الجلي، أنه تحالف غير مسبوق من نوعه من البلدان، وغير عادي، وأنه يُعطي دلالات تبشر بأنه مرحلة استباقية من مراحل الإعداد للحرب.

فقد كان ذلك تعاونًا يمس صادرات الطاقة الروسية إلى الصين، بالإضافة الى التعاون التجاري، والتعاون في مجالات العملة كذلك. مما يعني أن موسكو كانت تستعد لهذه اللحظة منذ البداية، وكانت بالفعل لديها حساباتها، وتعي أنها بصدد تلقي ضربات اقتصادية مؤلمة. لكن بفعل هذا التحالف، وبفعل الاستعدادات الاستباقية لموسكو، فقد تحولت هذه العقوبات الغربية من عقوبات كان من المقرر أن تكون “قاتلة” لروسيا إلى عقوبات نكتفي بأن نصفها بأنها مجرد “مؤلمة”، ستنجو منها روسيا بالفعل.

مما يأخذنا إلى سؤال آخر، ما هي عاقبة هذه العقوبات على الغرب نفسه؟ وهل من الممكن أن تكون العقوبات هي السلاح الذي تضر به أوروبا نفسها في المستقبل؟

الرد على هذا السؤال، لن يذهب بعيدًا عن كلمة السر في أقوى سلاح مصوب في وجه أوروبا بيد روسيا، الطاقة؛ إذ تعتمد بلدان القارة الأوروبية على 40% من صادرات الطاقة الروسية إليها. وإذا قررت أوروبا ألا تستورد الطاقة من هناك، لاسيما ألمانيا التي علقت تشغيل مشروعها المنتظر “نورد ستريم-2″، سيكون الرهان الآن على مدى قدرتها على توفير بدائل في وقت قريب عن هذه الصادرات. وستكون خيارتها محدودة للغاية، تتلخص فيما بين الدول العربية التي سيتطلب استيراد الغاز منها الوقت والبنية التحتية المتكافئة من جهة، أو الولايات المتحدة التي تصدر الغاز الطبيعي المسال، لكن سيتطلب هذا الخيار أيضًا وقتًا وجهدًا أكبر قد لا تكون أوروبا الآن في حالة تسمح لها دفعه.

ونخلص من كل ذلك إلى إن أوروبا ليست مستعدة لإيجاد بديل عن صادرات الطاقة الروسية، وأنها لم تستعد بعد لدفع ثمن مواقفها السياسية الحرة عندما يتعلق الأمر بما فعلته روسيا أو بما ترغب في فعله، لكن الحالة الأوكرانية أثبتت أن العكس غير صحيح! فقد أبدت موسكو استعدادًا استباقيًا لتلقي الصفعة التي رأت أنها ثمن ينبغي عليها دفعه لتحقيق مُرادها في فضائها الجيوسياسي ومركزها العالمي.

وردًا على سؤال من سيدفع ثمن الوقت، عندما يحين الأوان الذي تفكر فيه أوروبا العودة، لاسيما ألمانيا، بإعادة فتح “نورد ستريم 2″، نقول إن الأوان في ذلك الوقت ربما يكون بالفعل فات. وربما تدفع أوروبا –بذلك الوقت- الثمن باهظًا، حيث من المحتمل أن تبقى خياراتها محدودة ما بين المعاناة من نقص في موارد الطاقة، أو إعادة شرائها من روسيا ولكن بأسعار جديدة تمامًا غير تلك التي كانت معروضة ومتاحة في الماضي. لذلك، من المرجح أن يفوت الوقت حتى يتضح أن العقوبات الأوروبية على روسيا الآن ربما لن تضر سوى أوروبا نفسها.

من ناحية أخرى، هناك أيضًا ردود أفعال غير بعيدة عن موسكو، التي سبق وأعلنت بالفعل في وقت مبكر من الأمس أنها سترد على العقوبات بإجراءات انتقامية. مثال دامغ على هذه الإجراءات، يتلخص في إجابة عن سؤال حول ماذا لو قررت موسكو وقف وارداتها من دولة مثل فرنسا؟! ونأخذ الرد على هذا السؤال من على لسان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال تصريح له بتاريخ اليوم 26 فبراير، عندما قال إن عاقبة طول أمد الحرب بين روسيا وأوكرانيا ربما تنعكس سلبيًا على بلاده التي تعد تاسع أكبر مورد للمنتجات الغذائية الزراعية لروسيا بقيمة 780 مليون يورو سنويًا. وتمثل هذه ورقة ضغط ربما لم تلوح بها موسكو علنًا حتى الآن، لكن هذا لا يعني أنها ليست بعيدة عنها، وهذا لا ينفي أيضًا أن موسكو هي سيدة الموقف الآن، رُغم العقوبات الغربية المُشددة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67683/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M