لا تلتقطها الكاميرات.. ومداها التدميري يفوق القوة العسكرية: “الحروب السيبرانية” بين موسكو والغرب

 نرمين سعيد

 

لم تعد ساحات الحروب اليوم مجرد ساحات تقليدية في البر والبحر والجو؛ فقد تطورت ساحات أخرى بديلة أكثر جاذبية للعديد من الفواعل الدولية كإحدى وسائل الردع غير التقليدي. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن روسيا كانت من القوى الكبرى “الرائدة” في هذه النوعية من الحروب، وقد عملت في السنوات الماضية على تطوير قدراتها بشكل لافت للنظر يمكن رصده في أن عدد الهجمات السيبرانية التي قام بها الروس ضد الأمريكيين والأوروبيين فاق من حيث العدد والكفاءة أضعاف ما تعرضت له روسيا في المقابل من هجمات إلكترونية.

وتُجنب الهجمات السيبرانية الدول الوقوع تحت طائلة القانون، بما فيها من جرائم الحرب وتعويضات الضحايا، وتعتمد بشكل أكبر على العبث بالتكوين النفسي للشعوب؛ ليس فقط عند وقوع الهجمة، ولكن أثناء ترقب وقوع الأسوأ الذي لا يمكن التكهن به أو قياسه.

وتستهدف الهجمات السيبرانية بشكل أساسي كذلك تغيير الواقع الجيوسياسي، إضافة إلى توجيه إشارة مبدئية للدولة العدو تعبر عن جدية الطرف الخصم قبل البدء في الهجوم العسكري فيما يوصف بالحروب الهجينة، وهي التي توظف فيها الأداة العسكرية التقليدية إضافة إلى وسائط أخرى من أبرزها الهجمات الإلكترونية.

وتعتمد في بنيتها البشرية على الجنــود السيبرانيين، وهم قطاع متخصص في مجال تكنولوجيا المعلومات، ويلحقون بالجيوش النظامية لتنفيذ خدمات الهجوم والدفاع، إضافة إلى الاعتماد على عملاء سريين للقيام بأعمال القرصنة نيابة عن الدول، وتنفي الحكومات علاقتها بهم حال افتضاح أمرهم.

خندق واحد

لذلك يقف الغرب اليوم في خندق واحد متأهبًا لردود الفعل الروسية على الدعم العسكري الذي تم مده إلى كييف، والعقوبات الاقتصادية ضد موسكو- وتدور الحسابات حول أن رد فعل بوتين قد يكون الاعتماد على الهجمات السيبرانية التي تكبل الناتو والولايات المتحدة والأوروبيين خسائر كبيرة، بحيث تكون نقطة البداية واحدة من الدول الأكثر هشاشة في الناتو أو الاتحاد الأوروبي.

وهو ما قد ينقل الصراع إلى مستوى أكثر خطورة، لأن البلد الذي سيتم استهدافه سيبرانيًا سيصبح طرفًا مباشرًا في الحرب الروسية- الأوكرانية، خصوصًا وأن روسيا من الدول التي وفرت موارد ضخمة لتطوير إمكاناتها في مجال الحروب السيبرانية.

من جانب آخر، فقد يتطور الأمر إلى مواجهة بين روسيا وحلف الناتو الذي صرح أنه سيتعامل مع كل هجمة سيبرانية على دولة من دول الناتو كحالة منفردة؛ لكي يقيم ما إذا كان سيفعل البند الخامس للدفاع الجماعي والذي ينص على أنه في حالة الهجوم على أحد الحلفاء فإنه يعد هجومًا على جميع الحلفاء. ذلك خصوصًا أن الجانب الروسي يبرع في الهجمة التي تشمل حجب خدمة الإنترنت، وهو ما يضر بكافة القطاعات داخل الدولة ويسبب خسائر لا حصر لها حتى على مستوى الأرواح، لأن القطاعات الصحية في جميع الدول تقريبًا أصبحت تعتمد على شبكة الإنترنت.

وكانت روسيا قد عملت على تأمين نفسها في هذه الساحات، فأنشأت في عام 2018 وضمن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي مركز تنسيق مكافحة الهجمات السيبرانية والذي يتولى مهام الكشف والوقاية والقضاء على تداعيات الهجمات الإلكترونية. إضافة إلى أن البرلمان الروسي كان قد وافق في 12 من فبراير 2018 على قانون عزل البلاد عن شبكة الإنترنت العالمية، لجعل البلاد في موقع أفضل لصد أي هجمات إلكترونية محتملة من الخارج.

وقد تنوعت وتعددت الهجمات السيبرانية في فترات مختلفة إلى الحد الذي يجعل من الضروري صياغة حساباتها. ومن الهجمات الأبرز والأكثر تأثيرًا الصراع بين روسيا وجورجيا في 2008 وبين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية في عام 2009 والتي شهدت هجمات إلكترونية كورية على شبكات البيت الأبيض. ثم جاء الهجوم الإلكتروني بفيروس “ستاکسنت” على برنامج إيران النووي عام 2010 ليمثل نقلة مهمة في تطور واستخدام الأسلحة الإلكترونية.

وهو نفس العام الذي شهد إعلان روسيا عن عقيدتها العسكرية والتي تضمنت توظيفًا متكاملًا للقدرات العسكرية وغير العسكرية. إذ بلغ إجمالي الإنفاق الروسي في هذا المجال 127 مليون دولار من إجمالي 40 بليون دولار مما يجعل موسكو تحتل المركز الرابع على مستوى العالم في تطوير قدرات الحروب الإلكترونية.

بل أن الروس ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فقاموا عن طريق منظمة “البريكس” بالعمل على إنشاء فضاء إلكتروني خاص بروسيا ومستقل عن الشبكة الدولية الحالية؛ بغية التخلص من الهيمنة الغربية فتقوم البرازيل ببناء منظومة الكابلات التي يمكن أن تربطها بروسيا والصين وجنوب افريقيا، بكابل طوله 34 ألف كلم، وهو يربط بين مدينة “فلاديفوستوك” فى شرق روسيا و”فورتاليزا” فى البرازيل، مرورًا بشانتو الصينية و”تشيناى” الهندية و”کيب تاون” في جنوب افريقيا. ليس هذا فحسب، بل من المتوقع أن يوفر المشروع خدمات الإنترنت في 21 دولة أفريقية، وبذلك يتم إنشاء شبكة إنترنت جديدة موازية لشبكة الإنترنت الحالية.

استراتيجية الروس

تستند الاستراتيجية الروسية للحروب الإلكترونية على استخدام الهجمات الإلكترونية بوصفها عاملًا تعزيزيًا ومساعدًا لأدوات الحرب التقليدية، وغالبًا ما تبدأ روسيا تحركاتها العسكرية بهجمة إلكترونية تستهدف البنى التحتية في البلد العدو؛ بهدف شل عملية الاتصالات، وهو ما قامت به موسكو في 2008 في حربها ضد تبليسي العاصمة الجورجية.

وقامت بنفس الأمر ضد إستونيا في عام 2007 بسبب إقدام الأخيرة على نقل تمثال يخلد ذكرى أحد الجنود الروس الذين قضوا كضحايا في الحرب العالمية الثانية. ويذكر هنا أن الهجمات التي شنتها موسكو على إستونيا كانت مكلفة جدًا وشديدة التعقيد إلى الحد الذي دعا إستونيا إلى الاستعانة بحلف الناتو في وقتها لصد الهجوم، وهو السيناريو الذي يخشى من تكراره الآن، ويفسر حالة العداء الإستوني في التصريحات ضد روسيا. ومما ترتب على ذلك، أن كون حلف الناتو وحدة للدفاع الإلكتروني ومقرها “تالين” عاصمة إستونيا.

ونلاحظ هنا أن الهجمة الروسية الإلكترونية على إستونيا وجورجيا لم تكن بشراسة الهجمة التي شنتها روسيا على قرغيزستان في 2009 على خلفية شروع الأخيرة في استضافة قاعدة عسكرية أمريكية، قبل أن يتم تعطيل خدمة الإنترنت في البلاد لترضخ قرغيزستان في النهاية وتتراجع عن استضافة القاعدة الأمريكية.

أما في أوكرانيا عام 2014 وقبل ثلاثة أيام من انتخاب الرئيس الأوكراني، قامت مجموعة من القراصنة الروس باختراق الأنظمة المسجل عليها بيانات التصويت والاقتراع، في محاولة للتلاعب في النتائج وإحداث الفوضى، فيما تمكن خبراء القرصنة في أوكرانيا من استعادة النظام قبل يوم الانتخابات. وفي نفس العام قامت الحكومة الروسية بشن هجوم DDOS والذي يعد أعنف 32 مرة من الهجوم الذي تم شنه على جورجيا في 2008، وتسبب في توقف خدمة الإنترنت في أوكرانيا في الوقت الذي كان المتمردون الروس يحكمون سيطرتهم على شبه جزيرة القرم.

من منظور آخر، فقد نجحت روسيا ليس فقط في توظيف الهجمات السيبرانية كتمهيد لصراعاتها العسكرية، ولكنها وظفتها أيضًا في تفاعلاتها السياسية من منطلق تحقيق المصلحة الوطنية. وفي عام 2015 على وجه التحديد تعرض البرلمان الألماني “البوندستاج” لواحدة من أكبر عمليات التجسس في تاريخه، ووصلت روسيا لمعلومات لا تتصل بأعمال مجلس النواب الاتحادي الألماني فقط، بل معلومات تخص القادة الألمان، وحلف شمال الأطلنطي أيضًا.

وذلك الأمر الذي يفسر التصريحات التي أطلقها اليوم المستشار الألماني “أولاف شولتز” والتي أكد خلالها أن العمل جارٍ لصد أي هجمات إلكترونية يشنها الجانب الروسي، خصوصًا بعد أن انخرطت ألمانيا في الصراع بشكل كبير عبر معدات تسليح قامت بإرسالها إلى كييف.

ووصلت الهجمات الإلكترونية الروسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل أنها باتت تشكل واحدة من أهم مهددات الأمن القومي الأمريكي. وفي هذا الإطار، فقد أقدم بايدن في قمة جنيف في يونيو الماضي على تسليم نظيره الروسي قائمة تتضمن 16 قطاعًا حيويًا للبنى التحتية، تمتد من الطاقة إلى المياه وغيرهما، ينبغي ألا تتعرض لهجمات سيبرانية.

وقد كان لواشنطن تجربة سيئة للغاية في الهجمات الروسية وصلت إلى حد التدخل في الانتخابات الأمريكية في 2016. لذلك فإنه إذا قامت روسيا بهجمة ضد الولايات المتحدة فإنها ستكون وفرت لها السياق المناسب للرد المباشر، ولذلك يستعبد أن تكون واشنطن هدفًا لهجمة سيبرانية من قبل روسيا الآن.

وبناء على ما تقدم من عرض للسجل الروسي الحافل بالهجمات السيبرانية والتي كان من أهمها وأكثرها تأثيرًا الهجمة التي شنتها روسيا في 2014 أثناء ضمها لشبه جزيرة القرم – فقد أضاع الغرب مجتمعًا فرصة كانت ذهبية لردع بوتين في وقتها، وهو ما نجم عنه الوضع العالمي المتفاقم الآن. ومرة أخرى تمت ممارسة نفس اللعبة والتلويح بضم أوكرانيا لحلف الناتو مع أن الفرصة كانت سانحة على مدى ثماني سنوات لضم أوكرانيا للحلف الأطلنطي والتعامل على هذا الأساس- ولذلك يبقى التساؤل في فلك تصاعد الأحداث وتعثر المفاوضات- ماذا لو هاجمت روسيا إحدى دول الناتو “سيبرانيًا” هل تفعل المادة الخامسة للأطلنطي؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67723/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M