لماذا أعادت القوى الأوروبية تمركز قواتها العسكرية لمكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي في النيجر؟

فرنسا افريقيا

بسمة سعد

باحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تشهد الساحة السياسية والأمنية في منطقة الساحل الإفريقي تطورات متسارعة على المستوى السياسي والأمني، كان توتر العلاقات المالية الفرنسية الأوروبية بمثابة مُحرّك ومُحدِّد مهمّ في رسمها، وهو ما دفَع القوى الأوروبية لإعادة النظر في اختيار حليف استراتيجي إفريقي مهم قادر على سدّ الثغرات الناجمة عن توتُّر هذه العلاقات، بالإضافة إلى محافظة أوروبا على مكانتها وتحركاتها ونفوذها في منطقة الساحل، لا سيما في ظل تغلغل النفوذ الروسي في المنطقة؛ فوقع الاختيار على النيجر، وهو ما أثار تساؤلاً رئيسيًّا حول: سبب اختيار القوى الأوروبية النيجر لتكون نقطة تمركز رئيسية لإعادة نشر قواتها العسكرية في منطقة الساحل بدلاً مالي؟

انطلاقًا مما سبق، يهدف المقال إلى مناقشة الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية للبحث عن نقطة تمركز بديلة لقواتها العسكرية في منطقة الساحل عقب الانسحاب من مالي في إطار عمليتي “بارخان” و”تاكوبا”، بما في ذلك الأسباب الواقفة وراء اختيار النيجر كحليف استراتيجي مهمّ بديلاً عن الشريك المالي، بالإضافة إلى تناول التداعيات المحتملة وراء إعادة تمركز القوات العسكرية الأوروبية في النيجر.

أولاً: لماذا اتجهت أوروبا للبحث عن موطئ قدم لها في منطقة الساحل بديلاً لمالي؟

هناك سببان رئيسيان يمثلان دافعين وراء اتجاه القوى الأوروبية للحفاظ على وجودها في منطقة الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى البحث عن موطئ قدم لها في المنطقة بدلاً من مالي، يتمثل في النيجر، يُمكن مناقشتهما كالتالي:

1- الخلاف المالي الفرنسي الأوروبي

تدهورت العلاقات الفرنسية الأوروبية المالية خلال الأشهر الماضية لسببين رئيسيين؛ يعود أولهما إلى إطلاق فرنسا استراتيجيتها لإعادة هيكلة وجودها العسكري في منطقة الساحل في العام 2021م، تضمَّنت سَحْب باريس لأكثر من 2000 جندي من قواتها المندرجة في عملية “بارخان”، وغلق عدد من قواعدها العسكرية في مالي، وإعادة تموضع قواتها في إطار قوات أوروبية متخصصة يُطلق عليها “تاكوبا”([1])، فسَّرتها مالي بأنه انسحاب مفاجئ وتخلٍّ واضح لشريك استراتيجي عنها في ظلّ ما يُعانيه المشهد الأمني من تحديات جسيمة، وهو ما فرَض على باماكو البحث عن حليف استراتيجي جديد قادر على ملء الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب القوات الفرنسية من قواعدها في مالي.

 وهنا تكمن المشكلة؛ حيث اختار المجلس العسكري المالي الاستعانة بمجموعة “فاغنر” الروسية المنافس الفرنسي الأوروبي الأبرز في الساحة الإفريقية، مُهمِّشًا البديل الفرنسي الأوروبي المطروح والمتمثل في قوة “تاكوبا” الأوروبية لسدّ هذا الفراغ الأمني، وهو ما يكشف عن إدراك القيادة العسكرية المالية خسارة الرهان على أي حليف فرنسي أو أوروبي لدعم مالي في مكافحة الإرهاب، وهو ما عبّر عنه رئيس وزراء مالي مايغا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2021م قائلاً: “الوضع الجديد الذي نشأ بسبب انتهاء برخان، والذي يضع مالي أمام أمر واقع ويُعرّضها لما يشبه التخلّي في منتصف الطريق، يقودنا إلى استكشاف السُّبل والوسائل لكي نَضْمن على نحو أفضل الأمن مع شركاء آخرين”، مشيرًا إلى أن المطلوب هو “ملء الفراغ الذي سينشأ حتمًا عن إغلاق بعض مواقع برخان في شمال مالي”([2]).

في هذا الصدد، امتد الخلاف الفرنسي المالي إلى باقي شركاء مالي الأوروبيين في مكافحة الإرهاب؛ حيث أعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون رسميًّا في فبراير 2022م انسحاب قواتهما من مالي، وإنهاء العمليتين العسكريتين “برخان” الفرنسية، و”تاكوبا” الأوروبية([3])، تبعها اتخاذ الاتحاد الأوروبي قرارًا في أبريل 2022م بإنهاء عمل بعثته التدريبية العسكرية في مالي؛ بسبب استقدام السلطات الانتقالية المالية لمجموعة “فاغنر” الروسية، مؤكدًا أن هذا القرار لا يعني الانسحاب من منطقة الساحل، وأن بعثات الاتحاد التدريبية ستواصل عملها في المنطقة([4]).

 كما أنه على الرغم من وحدة الموقف الأوروبي من مالي، إلا أن برلين حرصت على تقييم مشاركتها في مهمة التدريب في مالي بشكل خاص؛ حتى لا تترك المجال مفتوحًا لروسيا، إلى أن اتخذت قرارًا في 4 مايو 2022م بإنهاء مشاركتها في مهمة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي في مالي، مبديةً استعدادها لمواصلة مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وفقًا لشروط معينة([5])، مما يُشير إلى اتجاه برلين إلى ربط حدود مشاركتها في باماكو بما تتخذه القيادة العسكرية المالية من سياسات ومدى اتساقها مع أسس وتوجهات الجانب الأوروبي.

أما بالنسبة لثاني تلك الأسباب فيتعلق بتراجع المسار الديمقراطي في مالي؛ بعدما تعرَّضت باماكو لانقلابين عسكريين خلال أقل من عام واحد؛ أولهما في أغسطس 2020م، وثانيهما في مايو 2021م، وقعت على إثره القيادة العسكرية المالية في مرمى انتقادات الدول الأوروبية، ودفعت باريس إلى تعليق عملياتها العسكرية المشتركة مع مالي حتى وإن كان قرار تعليق العمليات جاء بشكل مؤقت، ولم يدم أكثر من شهر واحد ( يونيو – يوليو) 2021م، إلا أنه ساهم في زيادة الخلاف المالي الفرنسي الأوروبي، الذي تعمق عقب تقديم المجلس العسكري المالي بقيادة “أسيمي غوتا” مقترحًا في يناير 2022م تَمثَّل في إعادة السلطة إلى المدنيين خلال فترة انتقالية تمتدّ لخمس سنوات تبدأ من يناير 2022م، بدلاً من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في فبراير 2022م([6])، وهو ما رفضته المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، واتجهت لفرض عقوبات قاسية على مالي كسبيل للضغط عليها للالتزام بإجراء الانتخابات واستعادة الحكم المدني([7])، دعمتها القوى الأوروبية والولايات المتحدة ([8]).

2- الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الساحل الإفريقي والنيجر

في ظل تصاعد الخلاف المالي الفرنسي الأوروبي، واتجاه باريس وشركائها الأوروبيين لإعادة تقييم حساباتهم وترتيب أوراقهم فيما يتعلق بمحددات وأهداف سياستهم في منطقة الساحل؛ حرصت باريس والقوى الأوروبية الشريكة في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل على التأكيد على أن انسحابها من مالي، لا يعني انسحابها من منطقة الساحل؛ مما يُشير إلى إدراك القوى الأوروبية للأهمية الاستراتيجية لمنطقة الساحل الإفريقي استنادًا إلى عدة محددات، وبالتالي ضرورة البحث عن مركز ونقطة انطلاق بديلة لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة، فكانت النيجر هي الخيار الأمثل بالنسبة لها، وهو ما يُمكن توضيح أسبابه على النحو التالي:

أ- الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة الساحل:

تتسم منطقة الساحل الإفريقي([9]) بأهمية جيوستراتيجية بالغة جعلتها موضع اهتمام مِن قِبَل القوى الإقليمية والدولية وعلى رأسها القوى الأوروبية، لعدة أسباب، أولها أنَّها تُعدّ حلقة الوصل الرابطة بين شمال إفريقيا ومنها إلى أوروبا وجنوب القارة، ثانيها؛ تتمتع دول منطقة الساحل الإفريقي بالعديد من الثروات المعدنية كالذهب واليورانيوم والنفط والغاز، حيث تمتلك موريتانيا مخزونًا كبيرًا من الحديد المهمّ في صناعة الصلب في الدول الأوروبية، كما أن المنطقة تمتلك نقطة العبور الاستراتيجية من الغاز الرابط بين نيجيريا وأوروبا مرورًا بالنيجر والجزائر على مسافة 4128 كم، وبإمكانيات سنوية تبلغ 30 مليار  متر مكعب([10])، بينما تصدر تشاد 200 ألف برميل يوميًّا، وتُعدّ مالي ثالث منتج للذهب في إفريقيا بعد غانا وجنوب إفريقيا، ناهيك عن كون نيجيريا أكبر دولة مُصدِّرة للنفط بحجم إنتاج يومي يصل إلى 27 مليون برميل واحتياطي يبلغ 36 مليار برميل([11]).

ثالث تلك الأسباب هو أن ثُلثي عدد سكان دول المنطقة دون سن 25، وبالتالي تمتلك كتلة شبابية ضخمة([12])، هذا إلى جانب كونها سوقًا استهلاكيًّا ضخمًا، يمكن ضخّ فيه المنتجات الأوروبية، بينما تتعلق رابع تلك الأسباب بطبيعة المخاطر الأمنية التي تواجهها دول منطقة الساحل التي تنظر إليها الدول الأوروبية على أنها البوابة الخلفية للقارة الأوروبية، وأن الأخيرة ليست بمنأى عنها وعن تداعياتها، كتنامي ظاهرة الإرهاب في المنطقة وتعدُّد الأفرع الإقليمية للتنظيمات الإرهابية؛ حيث صنّف مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2022م جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بالجماعة الإرهابية الأسرع نموًّا على مستوى العالم بعدما سجلت أكبر زيادة في عدد الهجمات الإرهابية وعدد القتلى في العام 2021م بواقع 351 قتيلاً بزيادة قدرها 69%([13]) عن العام السابق. بينما تُعد ولاية داعش في غرب إفريقيا الجماعة الأكثر فتكًا في منطقة الساحل، بالإضافة إلى تصنيف المؤشر خمس دول إفريقية في قائمة البلدان العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب حول العالم، تقع أربعة منها في منطقة الساحل، وهم؛ (بوركينافاسو (المرتبة الرابعة)، ونيجيريا (المرتبة السادسة)، ومالي (المرتبة السابعة)، والنيجر (المرتبة الثامنة). ناهيك عن أن الاضطرابات السياسية والتحديات الاقتصادية وضعف القدرات الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى ضعف آليات ضبط الحدود؛ كلها ساهمت في إنعاش شبكات الجريمة المنظَّمة العابرة للحدود؛ حيث سجلت منطقة وسط إفريقيا في مؤشر الجريمة المنظمة الإفريقي لعام 2021م ثالث أعلى معدل جريمة بمتوسط قاري يبلغ (5.11) من إجمالي 10 درجات([14])، كما صُنِّفت نيجيريا بثاني أعلى معدل جريمة في العالم، وكذلك القارة الإفريقية بواقع 7.15 عقب جمهورية الكونغو الديمقراطية([15]).

بالإضافة إلى ارتباط تلك المخاطر الأمنية بمعدلات النزوح واللجوء والهجرة، لا سيما بالنسبة لأوروبا باعتبار ذلك أحد المحددات الرئيسية الراسمة للسياسة الأوروبية تجاه منطقة الساحل؛ حيث تمكنت الدول الأوروبية من الحد من عدد المهاجرين إلى أوروبا خلال السنوات الأخيرة، فلم تتجاوز نسبة المهاجرين خارج إفريقيا حاجز الـ20% في العام 2020م، أما بالنسبة لـ80% الباقية من المهاجرين فلم يغادروا القارة([16])، وهي نسبة معرَّضة للزيادة في هذه المرحلة التي تتسم بالارتباك والتخبط المحدود للسياسة الأوروبية تجاه مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل في ظل توتر العلاقات مع مالي.

ولقد سجل تقرير جديد صادر عن مركز البيانات الإقليم (RDH ) للشرق الأوسط وشمال إفريقيا التابع للمنظمة الدولية للهجرة (IOM ) في فبراير 2022، معنون بـ” منطقة في حالة حركة” وفاة 1161 مهاجرًا في النصف الأول من عام 2021م على الطرق البحرية من وعبر شمال إفريقيا إلى  أوروبا، بزيادة بنسبة 155٪ مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020م والتي شهدت وفاة 450 مهاجرًا، كما أوضح التقرير أن طريق وسط البحر الأبيض المتوسط هو الأكثر فتكًا خلال النصف الأول من عام 2021م بـ 769 حالة وفاة مسجلة([17]).

استنادًا لما سبق، كان على الدول الأوروبية البحث عن حليف إفريقي استراتيجي بديل عن مالي في منطقة الساحل يكون بمثابة نقطة ارتكاز  لاستراتيجيتها في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل؛ ليقع الاختيار  على النيجر  كقاعدة أساسية لأوروبا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وهو ما بدأ الإعداد له في وقت سابق من العام 2021م عندما  كان الرئيس النيجري “محمد بازوم” هو الرئيس الإفريقي الوحيد المدعو إلى باريس خلال الاجتماع الافتراضي لمجموعة دول الساحل الخمس في يوليو 2021م، كما أوضح الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” خلال القمة الإفريقية الأوروبية المنعقدة في فبراير 2022م أن النيجر ستكون مركز العمليات العسكرية لمكافحة الإرهاب في الساحل بدلاً من مالي قائلاً: “لن يكون قلب هذه العملية العسكرية في مالي، بل في النيجر… وربما بطريقة أكثر توازنًا في جميع دول المنطقة التي تريد هذه [المساعدة الأمنية]”([18]).

كما حضَّ الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” المجتمع الدولي خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس النيجري “محمد بازوم” في 4 مايو 2022م على الاستثمار إلى أقصى الحدود لمساعدة جيش النيجر على محاربة الجماعات المسلحة التي باتت تُشكل تهديدًا عالميًّا مع امتدادها إلى خليج غينيا، سواء الاستثمار في المعدات، أو في تدريب الجيش، مؤكدًا أن “السلام والاستقرار في النيجر ومجمل منطقة الساحل يمثلان أولوية مطلقة للأمم المتحدة”([19]).

ب- الأهمية الجيوستراتيجية للنيجر:

من المهم طرح تساؤل حول السبب وراء اختيار النيجر كنقطة ارتكاز للعمليات العسكرية الأوروبية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل بدلاً من مالي؟، وهو ما يُمكن الإجابة عليه من المبررات التالية؛ أولها؛ ما تتمتع به النيجر من ثروات معدنية كاحتلالها المرتبة الرابعة عالميًّا في إنتاج اليورانيوم بنسبة 7.8% من الإنتاج العالمي يُغطِّي ما يُعادل نحو 12% من احتياجات الاتحاد الأوروبي([20])، كما تمتلك احتياطيات من الفحم عالي الجودة في جنوب وغرب البلاد، بينما تُقدر الاحتياطيات النفطية بنحو 324 مليون برميل([21]).

 ثاني تلك الأسباب هو تنامي العمليات الإرهابية في النيجر؛ حيث سجلت البلاد ثاني أكبر زيادة في عدد قتلى العمليات الإرهابية من 257 قتيلاً في العام 2020م إلى 588 في العام 2021م بزيادة بلغت نسبتها 129%، لتكون بذلك هذا العام([22]) ولأول مرة من بين الدول العشر التي سجلت سقوط أكبر عدد من قتلى العمليات الإرهابية في العالم؛ على الرغم من ثبات عدد الهجمات الإرهابية بين عامي 2020م و2021م، مما يُشير إلى مدى فتك ودموية تلك الهجمات، التي تسبّبت في سقوط ثالث أكبر عدد من القتلى المدنيين في العام 2021م.  تركزت العمليات الإرهابية في خمس مناطق من إجمالي ثماني مناطق في النيجر، سجلت خلالها منطقة تيلابيري الواقعة على الحدود المالية البوركينية في غرب البلاد نحو نصف الهجمات الإرهابية في البلاد، ونحو 61% من عدد قتل الهجمات الإرهابية في العام 2021م([23])، وهو ما أكد عليه الرئيس النيجري “بازوم” في أول تصريح له عقب انسحاب بارخان وتاكوبا،  بأن الهدف الحالي هو تأمين الحدود الغربية للنيجر([24]).

هذا بالإضافة إلى تركز 72% من الهجمات الإرهابية في بوركينافاسو البالغة 216 في العام 2021م في المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينافاسو (مثلث الموت)([25])، مما أسفر عن سقوط 732 قتيلاً بنسبة زيادة 11% مقارنة بالعام السابق، وأن ما يعادل 70% من العمليات الإرهابية الواقعة في مالي وقعت في منطقة الحدود المعنية وهو ما يجعل من الحدود الغربية النيجرية أكثر المناطق سخونة وتضررًا من العمليات الإرهابية في البلاد. بناء عليه، أقر البرلمان النيجري في 22 أبريل 2022م وبأغلبية مطلقة قانون يسمح بنشر قوات أجنبية جديدة في البلاد  لمحاربة الإرهاب([26])، كما أوضح الرئيس “بازوم” بأن القواعد الجديدة التي سيتمركز بها القوات الفرنسية والأوروبية لن تكون بعيدة عن ميناكا وغاو الماليتين([27])، وهو ما يعني تقليل حدة المخاطر الناجمة عن الانسحاب الفرنسي الأوروبي من مالي، والحرص على التمركز قرب مسرح العمليات المالي، وكذلك على مقربة من التطورات الأمنية التي تشهدها دول خليج غينيا.

ثالث الأسباب المتعلقة باختيار النيجر نقطة تمركز للقوات الأوروبية، هو امتلاك برلين بالفعل مركزًا لوجستيًّا في النيجر، يتمثل في قاعدة النقل الجوي في نيامي، رابعها؛ أن النيجر دولة ديمقراطية يقودها رئيس منتخب([28])، مما يجعلها نموذجًا مثاليًّا للشراكة الإفريقية الأوروبية القائمة على المبادئ والقيم الأوروبية الخاصة بالديمقراطية واحترام الرأي الآخر، بالإضافة إلى عمق العلاقات النيجرية الأوروبية؛ فلم تخط موسكو أعتاب البلاد حتى الآن، على العكس من مالي.

أما بالنسبة لخامس تلك الأسباب فتتعلق بالمخاوف الأوروبية من اتخاذ مهاجري ولاجئ النيجر مسار الهجرة إلى أوروبا؛ حيث تسجل النيجر نزوح حوالي 264000 نيجري، يعيش حوالي 28000 نازح في منطقة أولام والمناطق المجاورة، كما أوضحت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن هناك أكثر من 250 ألف لاجئ من الدول المجاورة في النيجر. بالإضافة إلى إفادة شركاء الأمم المتحدة بأن أكثر من 17600 شخص نزحوا إلى النيجر في شهر مارس فقط([29]).

كما تُشير التقديرات إلى أن 6.8 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي المزمن، ولا يحصلون على ما يكفي من الطعام، وأن خطة الاستجابة الإنسانية للنيجر لعام 2022م ممولة بنسبة 8.7%([30])، وهو ما يثير المخاوف الأمنية من تداعيات تفاقم معدل انعدام الأمن الغذائي في النيجر، وارتفاع عدد النازحين فيها والمهاجرين واللاجئين إليها، وهو ما يُفسّر السبب وراء إعلان وزيرة الخارجية الألمانية “أنالينا بيربوك” بأن برلين ستركز على بحث معضلة الإمدادات الغذائية وأنها قدمت نحو 100 مليون يورو مساعدات للنازحين، وستقدم حوالي 15 مليون يورو إضافية لمكافحة أزمة الغذاء([31])، مما يُشير إلى اتجاه برلين لزيادة حجم مساعداتها التنموية والإنسانية لدول الساحل خلال المرحلة القادمة، وبالطبع في القلب منها النيجر، بل ربما تطمح النيجر لاحتلال بلادها مرتبة متقدمة في قائمة البلدان المستفيدة من برامج التنمية الألمانية.

ثانيًا: تداعيات إعادة تمركز القوات العسكرية الأوروبية في النيجر

إن إعادة توجه الأنظار إلى النيجر مِن قِبَل شركاء منطقة الساحل  في ملف مكافحة الإرهاب كأحد نقاط التمركز الرئيسية للقوى الأوروبية، وليس باعتبارها أحد دول الساحل المتضررة من تنامي نشاط الإرهاب وحلفاء أوروبا في مكافحة الإرهاب، يدفع لمناقشة التداعيات المحتملة جراء التمركز العسكري الأوروبي في النيجر، والتي يتمثل أولها في تصاعد الأصوات النيجرية المعارضة للتمركز الأوروبي الفرنسي في النيجر  بهدف مكافحة الإرهاب، مع استعادة التجربة الفرنسية لمكافحة الإرهاب في مالي إلى أذهان المجتمع النيجري وما حققته من مكاسب وتكبدته من خسائر، وهو ما يُستدل عليه باعتراض متظاهرين في بلدة تيرا غربي النيجر قافلة عسكرية فرنسية في 27 نوفمبر 2021م([32])، معربة عن رفضها للوجود الفرنسي على أراضيها،  تبعها استنكار “بازوم” للحملة التي شنت على عملية برخان في المنطقة.

ثانيها؛ إن التمركز العسكري الأوروبي في النيجر قد يُثير استفزاز الجماعات الإرهابية، ويدفها إلى تكثيف عملياتها في النيجر، وبالتالي تأليب المجتمع النيجري على الوجود الفرنسي الأوروبي على أراضيها وإثارة المشاعر المعادية للفرنسيين، وكذلك للقوى الأوروبية، وما لذلك من انعكاسات على الموقف الشعبي من الحاكم وعلى معدل الاستقرار السياسي، لا سيما في ظل تعدد نماذج الانقلابات العسكرية الإفريقية باعتباره المسار الأسوأ الذي وإن لم يكن متوقعًا ترجمته على أرض الواقع في المدى القريب أو المتوسط، لكن لا يُمكن الجزم بصعوبة ترجمته على المدى البعيد.

ثالث تلك التداعيات المحتملة فيما يتعلق بتوتر العلاقات الإفريقية-الإفريقية، لا سيما بين مالي والنيجر على خلفية الانسحاب الفرنسي الأوروبي من مالي، والدعم النيجري للسياسة الفرنسية الأوروبية في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، مما يعني شقّ الصف الإفريقي في سياسات مكافحة الإرهاب، وهو ما تجسَّد بشكل واضح في إعلان مالي 16 مايو 2022م الانسحاب من كل أجهزة مجموعة دول الساحل الخمس “G5” وهيئاتها بما فيها القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب([33])، وما لذلك من تداعيات على الجهود الإفريقية-الإفريقية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.

خلاصة القول: يبدو أن المشهد الساحلي الإفريقي يتجه نحو مزيد من التعقيد فيما يتعلق بالعلاقات الإفريقية-الإفريقية، بخلاف العلاقات المالية الفرنسية الأوروبية، ومن المتوقع أن يُلقي ذلك بظلاله على تطورات المشهد السياسي والأمني في المنطقة، بل وعلى وجه الخصوص في النيجر، مما يفرض على الرئيس النيجري “محمد بازوم” ورئيس المجلس العسكري في مالي ضرورة تغليب لغة الحوار مع باقي دول الساحل، وتحييد أي قضايا قد تُثير خلافات بين الجانبين وتغليب المصلحة الإفريقية العليا، مع الحفاظ على آلية للتنسيق والتعاون بينهما وبين باقي دول المنطقة حتى عقب انسحاب مالي من مجموعة الساحل الخمس ولو في أضيق الحدود.


[1] – بسمة سعد، إعادة تموضع: لماذا تصاعد الخلاف بين فرنسا ومالي؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 13 أكتوبر 2021م. https://acpss.ahram.org.eg/News/17279.aspx

[2] – فرنسا تحذر مالي من العزلة وفقدان دعم المجتمع الدولي إذا استعانت بمجموعة “فاجنر” الروسية، فرانس24، 29 سبتمبر 2021م:

https://cutt.us/X5yhI

[3] – مالي: الانسحاب العسكري الفرنسي “لا يعني خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل”، فرانس 24، 17 فبراير 2022م:

https://cutt.us/n2JPB

[4] – الاتحاد الأوروبي ينهي عمل بعثته التدريبية في مالي، بوابة إفريقيا الإخبارية، 12 أبريل 2022م: https://cutt.us/2AJSZ

[5] – ألمانيا تقرر إنهاء مشاركتها في مهمة الاتحاد الأوروبي التدريبية في مالي، لوسيل، 4 مايو 2022م: https://cutt.us/H8g8g

[6] – مالي: إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية سيكون في فبراير 2022م ضمن المهلة الموعودة بعد الانقلاب، فرانس24، 15 أبريل 2021م: https://cutt.us/BWjNS

[7] – دول غرب إفريقيا تفرض عقوبات اقتصادية على مالي، سكاي نيوز، 10 يناير 2022م: https://cutt.us/HhkpX

[8] – الاتحاد الأوروبي يدعم عقوبات «إيكواس» ضد مالي، الشرق الأوسط، 13 يناير 2022م، https://cutt.us/YKMzB

[9] – وتعرف منطقة الساحل الإفريقي بالبقعة الجغرافية التي تضم دول الساحل الخمس (تشاد والنيجر وموريتانيا ومالي وبوركينافاسو)، بالإضافة إلى نيجيريا.

[10] – سامي بخوش، استراتيجية الاتحاد الأوروبي ثلاثية الأبعاد حيال الساحل الإفريقي: السياقات والمضامين، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية (الجزائر: جامعة باتنة1 – الحاج لخضر، كلّيـة الحقــــوق والعلـــوم السيـاسية، المجلد 8، العدد 1، العام 2021م) ص 753.

[11] – سالي محمد فريد، الساحل والصحراء ما بين الإمكانيات الاقتصادية وفرص الاستثمار الجاذبة وبين انتشار ظاهرة الإرهاب (دراسة)، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، 18 سبتمبر 2021.  https://pharostudies.com/?p=7818

[12]  Mohammed Ahmed Gain, Conflicting agendas and strategic rivalry in the Sahel, mei@75, 16 November 2021.

https://www.mei.edu/publications/conflicting-agendas-and-strategic-rivalry-sahel

[13]– Global Terrorism Index 2022, Report (Sydney: The Institute for Economics and Peace, 2022),P4.

https://www.visionofhumanity.org/wp-content/uploads/2022/03/GTI-2022-web_110522-1.pdf

[14] -Africa Organied crime index 2021 Evaluation of crime in Covid World, Institute for security studies,2021, p 32.

[15] –Idem.

[16] – صندوق أوروبي من أجل إفريقيا.. فهل ينجح في وقف الهجرة؟، دوتشة فيله، 13 أبريل 2022م: https://cutt.us/Q61tw

[17] – سمر نصر المنظمة الدولية للهجرة: ارتفاع معدلات وفيات المهاجرين في النصف الأول من 2021م، جريدة الأهرام، 24 فبراير 2022م: https://gate.ahram.org.eg/News/3420810.aspx

[18] – Niger becomes France’s partner of last resort after Mali withdrawal, France 24, 18 February 2022.

https://www.france24.com/en/africa/20220218-niger-becomes-france-s-partner-of-last-resort-after-mali-withdrawal

[19] – على بردي، غوتيريش يطالب بـ«الاستثمار إلى أقصى الحدود» لدعم جيش النيجر في مكافحة الإرهاب، الشرق الأوسط، 4 مايو 2022م.

[20] – سامي بخوش، مرجع سبق ذكره.

[21] – أمينة الدسوقي، الأكبر في غرب إفريقيا.. النيجر مملكة اليورانيوم في العالم.. صور، صدى البلد، 8 مارس2020م.

https://www.elbalad.news/4205327

[22] – Global Terrorism Index 2022, OP.CIT, P14.

[23] – Ibid, P27

[24]  Niger becomes France’s partner of last resort after Mali withdrawal, OP.CIT.

[25] Global Terrorism Index 2022,OP.CIT,P23

[26] – على بردي، مرجع سبق ذكره.

[27] – بازوم: تاكوبا لها مزايا كبيرة لنا وهدفنا تأمين حدودنا مع مالي، الأخبار،14 فبراير 2022م.

https://alakhbar.info/?q=node/38561

[28]  Niger becomes France’s partner of last resort after Mali withdrawal, OP.CIT.

[29] – A refuge from terror in Niger, as UN Chief pledges to be voice for the displaced, UN, 3 May 2022.

https://news.un.org/en/story/2022/05/1117452

[30] –Idem.

[31] – تردد برلين: دلالات جولة وزيرة الخارجية الألمانية إلى مالي والنيجر، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة،4 مايو، 2022م.

https://cutt.us/lKrRV

[32]  Niger becomes France’s partner of last resort after Mali withdrawal, OP.CIT.

[33] – في قرار مفاجئ.. مالي تعلن الانسحاب من مجموعة دول الساحل، سكاي نيوز، 16 مايو 2022م: https://cutt.us/W84nd

 

.

رابط المصدر:

https://www.qiraatafrican.com/home/new/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2-%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D8%AC%D8%B1#sthash.fOfcjKhm.Rt8ZPbx3.dpbs

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M