مسار تطور العلاقات التركية الجيبوتية

إعداد : فاطمة محمد حمودة – حاصلة على بكالوريوس في العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وطالبة دراسات عليا في كلية الدراسات الافريقية العليا جامعة القاهرة

 

مقدمة :

لقد ظهر اهتمام تركيا بقارة أفريقيا عمومًا وبمنطقة القرن الأفريقي على وجه الخصوص بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، وذلك من خلال تطوير علاقاتها بالدول الأفريقة في كافة المجالات، وظهر ذلك جليًا في سلوك السياسة الخارجية التركية وزيارات الرئيس التركي “رجب طيب اردوغان” الأخيرة لدول  القرن الأفريقي؛ إثيوبيا، إريتريا، الصومال، وجيبوتي، وكان يطفي على هذه الزيارات الجانب الاقتصادي، إذ صاغت تركيا سياسة انفتاح طموحة تجاه إفريقيا منذ نهاية التسعينات، وقامت بإبرام العديد من اتفاقيات التعاون والشراكات الاستراتيجية مع بلدان القارة.

وتمكنت تركيا من تكثيف علاقتها مع دول القرن الإفريقي بشكل عام وجيبوتي على وجه الخصوص في ظل تراجع الأدوار الغربية؛ نظرًا لربط هذه المجتمعات أي تواجد دولي بالاستعمار، وهو ما أدى إلى تقبل مشاريع من خارج هذه القوى الدولية المستعمرة، وكذلك تراجع التوغل الإسرائيلي في جيبوتي والصومال لعدم القدرة على التأثير عليهما نتيجة لاختلاف الهوية الدينية، وهذا ما استغلته تركيا لدعم التقارب بينهما، بالإضافة إلى استغلال محاولات إيران لفرض التبشير على دول الصومال وجيبوتي وإريتريا لطردها تمامًا خارج الدول المذكورة في محاولة منها للحفاظ على علاقتها مع دول الخليج العربي.

يرجع اهتمام تركيا بتطوير علاقتها الاقتصادية مع جيبوتي في الوقت الذي تتطور فيه علاقتها مع إثيوبيا بشكل متوازي إلى الرغبة في تحقيق تكامل أفريقي لهذين المسارين، حيث ارتباط جيبوتي بالبحر الأحمر وقناة السويس وما يتحكمان به فيما يتعلق بالتجارة الخارجية، ووقوع البحر الأحمر عند منطقة التقاء ثلاث قارات يجعل الدول العظمى تتنافس في السيطرة عليها لتتمكن من تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية، بالإضافة إلى أنها ضمن منطقة القرن الأفريقي، مما يمثل ذلك بعدًا استراتيجيا هاما من واقع السيطرة على الممرات المائية الجيبوتية كما إنها مدخل هام لأفريقيا من جهة الشرق.

أولًا: أهمية الموقع الجيوسياسي لجيبوتي: 

تعد جيبوتي مفترق طرق استراتيجي في القرن الأفريقي، وذلك لوقوعها في الجزء الشمالي الشرقي من القرن الأفريقي عند التقاء البحر الأحمر بخليج عدن، وتحدها إريتريا شمالا وإثيوبيا في الغرب والجنوب الغربي، كما تلتقي مع الصومال جنوبا، وتبلغ شواطئها حوالي 370 كيلومترات، إضافة إلى شاطئها الشمالي القريب من إريتريا والذي يطل على مضيق باب المندب الواقع على الرأس الجنوبي الغربي لليمن.

وتشكل جيبوتي المحطة الثالثة في المشروع التركي في القرن الأفريقي، حيث تسعى تركيا لجعلها بوابة تجارية لاستثمارتها في إثيوبيا، إذ إنها أكثر أمنًا من الصومال خاصة مع وجود قواعد عسكرية أمريكية ويابانية وفرنسية فيها، كما تقوم الصين ببناء قاعدة عسكرية، بالإضافة إلى عزم المملكة العربية السعودية على بناء قاعدة عسكرية بها، وأيضًا وجود القوات الألمانية والأسبانية والإيطالية بها.

ومع إدراك تركيا بأهمية العامل الاقتصادي في التأثير على جيبوتي بدأت باستثمارات تخدم أهدافها المستقبلية في هذه المنطقة الجيبوتية، حيث قامت بتحويل الطريق الذي يربط شمال إثيوبيا بجيبوتي – وهو طريق تاجورة مقلي- إذ تتولى تركيا تمويل الجزء الواقع داخل الأراضي الجيبوتية، ومن ذلك المنطلق تكون تركيا قد أكدت رغبة حليفتها إثيوبيا في إيصال رسالتها إلى النظام الإريتري بأنها تجاوزت أهمية ميناء “عصب” لإثيوبيا، وذلك عبر وجود اتصال مباشر لصادراتها وواردتها من أقاليمها الشمالية عبر منفذ جيبوتي، إذ إن هذه الواردات والصادرات التي تظهر لسلك طرق دائرية تكون بعد اكتمال هذا الطريق في غنى عن منفذ “عصب”، والذي يُنتِج عن ذلك تضاءل أهميته الاستراتيجية.

لكن تعد دولة الإمارات العائق الأكبر للتوغل التركي الاقتصادي في جيبوتي وذلك نتيجة لقيام شركة دبي بإدارة ميناء جيبوتي الرئيسي –وهو الميناء الأهم على الساحل الغربي للبحر الاحمر ومضيق باب المندب- في ظل سعي تركيا للهيمنة على موانئ باب المندب الأفريقية أو إنشاء موانئ أخرى بديلة بدلًا من ذلك ، كما يبلغ حجم التبادل التجاري بين الإمارات وجيبوتي حوالي 564 مليون دولار خلال عام 2014.

ثانيًا: التبادل التجاري والاقتصادي التركي الجيبوتي:

اكتسب الدور التركي في جيبوتي طابع اقتصادي أكثر من كونه سياسي وعسكري وثقافي رغم ان هذه الآليات موجودة بالفعل في العلاقات بين الدولتين، إذ رأى ضرورة ربط الاقتصاد الجيبوتي بالاقتصاد التركي، وذلك لتأمين العمق الاستراتيجي لجيبوتي، ومع أن سياسة الانفتاح الاقتصادي تعود لتركيا إلى عام 1998 إلا أنها تكرست مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، واتخذت العلاقات منحنى جديد خاصة مع بداية عام 2005 بعد ان حصلت تركيا على صفة مراقب دولي في الاتحاد الأفريقي وأيضًا انضمامها إلى البنك الإفريقي للتنمية.

ورغم اتباع تركيا سياسة المساعدات المالية الإنسانية في التقارب من دول القارة الأفريقية إلا أن هذا النوع من المساعدات لا يشكل حجما كبيرا، إذ ترتكز على المساعدات المقدمة من منظمات المجتمع المدني التركية والتي بلغت خلال الفترة من 2013 حتى 2016 حوالي 2.5 مليون دولار، ومن أبرز الجهات الحكومية المانحة للمساعدات: الهلال الأحمر التركي، جمعية حسنة، وقف الدياننة التركي، وقف عزيز محمود خوادي، جمعية موديو، ومؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية، وشملت المساعدات التركية أدوية، مواد غذائية، مستلزمات دراسية للأيتام، وملابس، أما بالنسبة للمساعدات الحكومية فتبقي محدودة مثل منح جيبوتي 6 سيارات إسعاف كاملة المعدات بالإضافة إلى بعض المنح الدراسة وذلك في فبراير 2015.

وفي ضوء تركيز تركيا على استمرار التنمية والدعم الإنساني في جيبوتي نفذت العديد من المشاريع الاجتماعية والاقتصادية التي تصب في مصلحة الشعب الجيبوتي، فقامت ببناء مسجد ومجمع عبدالحميد خان الثاني على الطراز العثماني على مساحة 10 آلاف متر مربع ويتسع لحوالي 5 آلاف مصلي، بإنشاء مركز تعليمي يستوعب 400 شخص، وأيضًا صالة مؤتمرات ومكتبة ومنشأة للفعاليات الاجتماعية، إضافة إلى قيام مؤسسة “تيكا” بترميم ثلاث مساجد تعود للعهد العثماني.

وفي إطار تعزيز الشراكة الجيبوتية التركية والتي تشهد تطورًا في مختلف مجالات التعاون بين البلدين وقعت كل من تركيا وجيبوتي منذ عام 2012 عدة اتفاقيات في مجالات الطاقة والتعليم والاستثمار فضلًا عن القطاع الصحي، وتجاوزت الصادرات التركية إلى جيبوتي خلال الخمس سنوات الأخيرة حوالي 100 مليون دولار، كما تسعى تركيا إلى أن تبلغ الصادرات 150 مليون دولار مستقبلًا، وتهدف إلى تحويل جيبوتي مرتكزًا لصادراتها ووارداتها من القارة عبر إنشاء منطقة التجارة الحرة فيها، حيث اتفقتا على إنشاء منطقة اقتصادية خاصة بينهما تمكن الشركات التركية من صناعات في جيبوتي والتي تعتبر نقطة الدخول إلى المنطقة، وهذا ما ساعدها في إجراء العديد من الاستثمارات في مرافق الموانئ والسكك الحديدية والطرق السريعة لربط المنطقة بأكملها، إذ خصصت جيبوتي لتركيا منطقة تجارة حرة تغطي مساحة قدرها 5 ملايين متر مربع، وذلك في مسعى منها لتسهيل نقل البضائع التركية إلى القارة السمراء، وبوجود هذه المنطقة تتمكن تركيا من تصدير الموانئ الخام والصناعات المتعلقة بالمنتجات الزراعية والأدوات المنزلية الكهربائية بيسر إلى شرق أفريقيا وستؤمن المنطقة وصول المنتجات التركية إلى 200 مليون مستهلك، وتمت المصادقة عليها في نوفمبر 2015.

مع تخطى الاستثمارات التركية بجيبوتي حاجز 300 مليون دولار تطمح تركيا لزيادة حجم التبادل التركي إلى حوالي 150 مليون دولار، وذلك في الوقت الذي وصل فيه حجم التبادل التجاري خلال عام 2014 إلى 60 مليون دولار، حيث ترتكز تلك الصادرات حول الملابس والمواد الغذائية والسيارات وقطع غيار الآلات، وبهذا تكون تركيا قد حققت نجاحًا معتبرًا في إرساء دعائم سياستها في العلاقات الدبلوماسية الناعمة التي تنتهجها جيبوتي.

جاءت زيارات المسئولين الأتراك إلى جيبوتي في إطار تعزيز العلاقات الاقتصادية وتوطيدها بين البلدين، إذ شهدت زيارة الرئيس “أردوغان” لجيبوتي خلال عام 2015 توقيع 7 اتفاقيات تعاون من بينهم اتفاقية مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الجيبوتية، واتفاقية أخرى تنص على التعاون المشترك في مجال الشباب والرياضة، اتفاقية تعاون مشترك لتدريب الشرطة، اتفاقية تعاون أمني، اتفاقية للتدريب العسكري والتقني والعلمي، واتفاقية بحرية بين البلدين، فضلًا عن الاتفاقية الخاصة بإقامة المنطقة التجارية الاقتصادية السابق ذكرها، ونتيجة لهذه الزيارات شهدت العلاقات بين البلدين نقلة نوعية، حيث إنه بعدما كانت تعمل شركتان تركيتان و12 مواطنًا تركيا فقط في جيبوتي خلال عام 2013 ارتفع العدد ليصبح أكثر من 18 شركة وأكثر من 450 مواطن تركي خلال عام 2015.

كما وقعت تركيا اتفاقية تمويل بقيمة 11 مليون يورو في يناير 2015 لتنفيذ مشروع بناء سد “ويعا” من قبل مهندسين أتراك، إذ يهدف هذا المشروع إلى حماية سكان العاصمة من الفيضانات المتكررة، وأيضًا للاستفادة منه في الزراعة والري، بالإضافة إلى توقيع وزارة الغابات والمياه التركية ووزارة الثروة الحيوانية والسمكية في جيبوتي اتفاقية حول تعزيز علاقات الصداقة والتعاون الثنائي في مجال المياه، حيث اتفق الطرفان على إنشاء السد على نهر “أصولي” في العاصمة جيبوتي والتي يكنها 75% من سكان البلاد، وتم بدء البناء في هذا السد في اكتوبر 2017 والذي يبلغ ارتفاعه 71 متر بطاقة تخزين تقدر بـ 14 مليون متر مكعب.

خاتمة:

يقوم مخطط تركيا على إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية وفرض النفوذ على المنطقة العربية وأفريقيا ما يمكنه من استنزاف ثرواتها وطاقتها، إذ تستهدف تركيا البلدان العربية والافريقية التي تمتلك ميزة نسبية كجيبوتي والسودان والصومال الذين يقعوا على خليج عدن ومضيق باب المندب، حيث يعد باب المندب من أهم شرايين التجارة العالمية وذلك نظرًا لمرور خمس التجارة العالمية عليه، وهذا ما جعل الرئيس التركي “أردوغان” يخطط للاستفادة من هذا المضيق في إنشاء قاعدة خدمات لوجيستية، وأيضًا منطقة اقتصادية حتى تكون قاعدة الانطلاق نحو الأسواق الأفريقية في حوض نهر النيل وشرق أفريقيا.

وفي ظل مساعي تركيا لتحقيق أهدافها قامت بتهديد طريق تاجورة الذي يربط بين إثيوبيا وجيبوتي، كما قامت بفرض عدد من الاتفاقيات وأبرزها إقامة المنطقة الاقتصادية التركية في جيبوتي، بالإضافة إلى تعزيز استثمارتها بجيبوتي إلى ثلاث مليارات دولار، في محاولة منها للإستفادة من علاقتها مع الأخيرة في جعلها سوق لمنتجاتها في شرق القارة.

ورغم الرغبة المستميتة لتركيا لتعزيز تلك العلاقات إلا إنه يواجهها العديد من العقبات التي تحول بينها وبين رغباتها التوسعية والتي تتمثل في انشغالها بحروبها في كل من سوريا وليبيا وما آلت إليه من تراجع في الاقتصاد التركي وخسارة العديد من الجنود الأتراك وهو ما ساهم في زيادة المعارضة التركية ورفضهم لسياسات “اردوغان” التوسعية والتدخل في شؤون الدول الجوار، خاصة وإن ذلك يُزيد من عداءات تركيا إقليميا من قبل مصر بدعمها عدم التدخل التركي في ليبيا وسوريا ودوليا من قبل روسيا برفضها التواجد التركي في سوريا، وأيضا زيادة خلافاتها مع الاتحاد الأوروبي نتيجة ملفات أنقرة في انتهاكات حقوق الإنسان والتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط بالرغم من توقيع العقوبات الاوربية عليها، بالإضافة إلى الوجود القوي للإمارات داخل جيبوتي وبث استثماراتها في مجال الموانئ (الماديات والنفط) والمناطق الحرة، والمشاريع العقارية وكذلك الفنادق، بالإضافة إلى تصديرها لزيوت النفط والمستحضرات الغذائية وغيرها لجيبوتي.

قائمة المراجع:

  • محسن حسن، جمهورية جيبوتي دراسة في التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية (الصومال: مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 2016)
  • عبدالرحمن أحمد عثمان، “الدور التركي في توطيد العلاقات بين دول غرب البحر الأحمر” في مؤتمر العاقات الأفريقية التركية المحور 04(الخرطوم: جامعة أفريقيا العالمية، مركز البحوث والدراسات الأفريقية، 27 اكتوبر2015)
  • مركز المزماة للدراسات والبحوث، التغلغل التركي والقطري في دول القرن الأفريقي الصومال، إثيوبيا، جيبوتي، كينيا، إريتريا ج1 (دبي: مركز المزماة للدراسات والبحوث، 5مارس 2017)
  • وكالة الأناضول، “أكبر مساجد شرق إفريقيا..هدية تركيا لشعب جيبوتي، 17 ديسمبر 2018، 30 أبريل 2019، متاح على: https://cutt.us/UepDX
  • جريدة القرن، “ارتفاع حجم الصادرات التركية الجيبوتية إلى 150 مليون دولار، 12 ديسمبر 2016، 1 مايو 2019، 1 مايو 2019،متاح على: https://cutt.us/L2Pto
  • عبد الله إسماعيل آدم، “تركيا في القرن الأفريقي هل تفلح الدبلوماسيةالناعمة؟”، تركيا بوست، 30 يناير 2015، 1 مايو 2019،متاح على: https://cutt.us/2ifnx
  • مؤسسة تيكا، “أردوغان يشارك في وضع حجر الأساس لمشروع ترميم شارع برهان بي في جيبوتي”، 30 أغسطس 2010، 1 مايو 2019، متاح على: https://cutt.us/SZwEm
  • جريدة المصريون، “جيبوتي: إنشاء تركيا مناطق صناعية وتجارة حرة بالبلاد يدعم التنمية”، 20 يناير 2015، 1مايو 2019، متاح على: https://cutt.us/BWpUv
  • ديلي صباح، “تركيا تقترب من إكمال بناء سد الصداقة أمبولي بجيبوتي، 30 مارس 2019، متاح على:https://cutt.us/DJjvU
  • Elem Eyrice Tepecikliogu, economic relations between turkey and Africa: challenges and prospects, Ajol (south Africa: ajol, Vol.8, No1,2017)

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=65387

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M