هل هذه فرصتنا الأخيرة لإصلاح القطاع الخاص في الخليج؟

عمر الشهابي

في خضم الحالة العالمية من الغموض وعدم اليقين التي أطلقتها جائحة كورونا وتزامنها مع أزمة تدهور سوق النفط، بات واضحًا مخاطر عدم استدامة نمط النمو الحالي في دول الخليج العربية، وأن بداية تغير جذري آت لا محالة، سواءً كان ذلك طواعية أو قسرًا. وبما إن كورونا قد هز الكثير مما كنا نعامله بوصفه مسلمات سابقًا، فحري بنا أن نفتح آفاق تفكيرنا ونقاشنا لماهية المستقبل الاقتصادي المنشود في دول مجلس التعاون، بناءً على التحديات والمشاكل التي ركزنا عليها في المقالات السابقة.

ويجب أن يتطرق أي حديث عن الإصلاح في اقتصاديات دول مجلس التعاون أساسًا إلى كيفية التعامل مع إنتاج النفط وإيراداته، هذا بالإضافة إلى خمسة أطراف اجتماعية فاعلة في اقتصادياتها، وهم الدولة ومتخذو القرار فيها، وكبار أصحاب رؤوس الأموال، والمواطنون، والوافدون، والقوى الأجنبية في المنطقة. وسنتناول كلًا منها بالحديث في المقالات القادمة، مولين اهتمامنا لدورها في اقتصاديات دول مجلس التعاون، والتغيرات المنشودة في كل منها. ولنبدأ بأصحاب رؤوس الأموال الخاصة الذين عادة ما نسميهم بـ”القطاع الخاص”.

القطاع الخاص في وضعه الحالي من أكبر المشاكل الّتي تواجه اقتصاداتنا ومن أكثرها حاجة للإصلاح

على مدى السنوات الأخيرة توجهت غالبية الرؤى والسياسات في دول مجلس التعاون نحو ترويج القطاع الخاص بصفته الحل المنقذ لاقتصاداتنا. وما سأجادله هنا أن القطاع الخاص في وضعه الحالي من أكبر المشاكل التي تواجه اقتصاداتنا ومن أكثرها حاجة للإصلاح. فخطاب الإصلاح الاقتصادي في دول الخليج، الذي يركز على القطاع الخاص كأنه العصا السحرية التي ستحل كل المشاكل ما إن يُطلق لها العنان لتأخذ مكان القطاع العام صاحب العلة الأساسية في الاقتصاد (بزعم هذا الخطاب)، نظريةٌ خاطئة مغايرة للواقع وقد تقودنا إلى كوارث لا تُحمد عقباها. وصحيح أن ثمة مشاكل تتعلق بالتوظيف والإنتاجية في مؤسسات ووزارات الدولة، لكننا إذا نظرنا من الناحية الإنتاجية في القطاع الربحي، فإن أساس المشكلة ليس في المشاريع العامة بل في هيكلية القطاع العائلي الخاص.

لنبدأ بما يعنيه مصطلح القطاع الخاص، إذ إن هذا المصطلح في الخليج فضفاض ويلفه الكثير من التضليل. وإذا ما تغاضينا عن الشركات العالمية المتواجدة في الخليج مثل DHL أو شركات الطيران العالمية إلخ٫ التي تمثل نسبة قليلة من السوق إجمالًا، فإن الشركات الربحية في المنطقة تنقسم عمومًا إلى نوعين: شركات مشاريع عامة تملك الدولة نسبة معتبرة منها وأدت دورًا رئيسًا في تأسيسها، وشركات خاصة عائلية تمتلكها عوائل وأفراد، ولنبدأ حديثنا بالثانية.

تنفرد شركات الخليج بأنها الوحيدة في العالم التي لا تدفع ضرائب دخل (عدا عمان مؤخرًا)، وعلى الرغم من تدني إنتاجيتها، تعد نسبة الربحية لهذه الشركات عالية جدًا نظرًا لسياسة الاحتكار وقلة التنافسية إجمالًا.

إجمالًا، تتركز الشركات العائلية في القطاعات التي تعتمد على الاستيراد المكثف للسلع، والاستعمال العالي لقوة عمل وافدة متدنية التعليم والحقوق والإنتاجية والرواتب. ونادرًا ما تصدر هذه الشركات أيًّا من منتجاتها، حيث يعتمد إنتاجها أساسًا على طلب السوق المحلي بشكل حصري، ويشكل العقار والإنشاء وتجارة التجزئة والجملة والخدمات المصاحبة أهم هذه القطاعات. وتعتمد هذه الشركات في نموها على النمو العددي في مدخلات الإنتاج (extensive growth)، على عكس النمو في الإنتاجية (intensive growth)، بل تشير الإحصائيات إلى أن الإنتاجية عمومًا ما انفكت تنخفض على مر الزمن. فبدلًا من أن تستثمر شركة في شراء المعدات والآلات التي تزيد من كفاءتها في الإنتاج، تفضل زيادة عدد مَن توظفهم ليقوموا بالمهمة، نظرًا لانخفاض رواتبهم وتدني حقوقهم نسبيًا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإنفاق على برامج التدريب والبحوث والتطوير شبه معدوم. وعمومًا فإن دورة الدخل لهذه الشركات مفصولة عن بقية المواطنين ومؤسسات الدولة، فهي لا توفر الضرائب لتكون مصدر دخل للدولة نظرًا لانعدام ضرائب الدخل عليها، ولا توفر تدريبًا أو وظائف للمواطنين لتكون مصدر دخل لهم، بل يعتمد مصدر دخل هذه الشركات على مشاريع الدولة واستهلاك المواطنين والشركات الأخرى، كما تنفرد شركات الخليج بأنها الوحيدة في العالم التي لا تدفع ضرائب دخل (عدا عمان مؤخرًا). وعلى الرغم من تدني إنتاجيتها، تعد نسبة الربحية لهذه الشركات عالية جدًا نظرًا لسياسة الاحتكار وقلة التنافسية إجمالًا. وهنا من الواجب التنويه بأن هذا لا ينطبق على الكل، إذ توجد بالتأكيد استثناءات (خصوصًا في بعض الشركات الصناعية العائلية في السعودية)، إلا أن ما ذكرناه هو السائد إجمالًا.

في المقابل، فإن الوضع على النقيض عند الحديث عن المشاريع العامة، إذ ترتكز في القطاعات الاستراتيجية الحيوية التي تتميز بنسب مخاطرة وتنافسية أعلى، وتتطلب موظفين ذوي تعليم وحقوق ورواتب أعلى كذلك، وعادة ما تكون نسبة المواطنين فيها أعلى بكثير. وتتميز هذه الشركات والقطاعات بأنها ذات إنتاجية أعلى واعتماد مكثف على رأس المال، وفي قطاعات أكثر تعقيدًا كالطيران والبنوك والبتروكيماويات والاتصالات والألمنيوم إلخ، بل تنافس على التصدير حيث يتعدى طموحها حدود السوق المحلي وتتجه نحو العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إنفاقها على تدريب المواطنين والبحوث والتطوير أعلى من قريناتها في القطاع الخاص العائلي، على الرغم من تدني هذا الإنفاق في الخليج إجمالًا. كما يعود مدخول شركات المشاريع العامة إلى المواطنين العاملين في شكل رواتب وإلى خزينة الدولة في شكل أرباح، فلا تنحصر الأرباح في أيادي قلة صغيرة من ملاك الشركات كما هو الحال في القطاع العائلي البحت. وإذا نظرنا إلى أشهر الشركات في دول مجلس التعاون وأكثرها تنافسية على مستوى العالم، سواءً كانت من شركات النفط (أرامكو) أو البتروكيماويات (سابك) أو الطيران (الإماراتية) أو الموانئ (DP world)، يتبين لنا أنها أساسًا شركات مشاريع عامة. وهذه الشركات هي التي يتطلع ويتوجه إليها أقدر الخريجين وأكثرهم طموحًا في دول مجلس التعاون، إذ تعد الوجهة الأكثر جاذبية للعمل من بين كل المنشآت الربحية. ومرة أخرى، من المهم تبيان أن العديد منها يواجه مشاكل متعددة لا يمكن التغاضي عنها، إلا أن ما ذُكِر ينطبق عليها نسبيًا إذا قورنت بالشركات العائلية.

لذلك فالقول إن القطاع الخاص العائلي في وضعه الحالي هو الحل والمنقذ لاقتصاد الخليج ضرب من الخيال ويؤدي إلى اتباع سياسات لها تداعيات خطيرة، بل إن هذا القطاع هو أكثر ما يحتاج إلى الإصلاح. هل يعني هذا أن علينا الاعتماد كليًا على المشاريع العامة وإهمال القطاع الخاص؟ بالطبع لا، فدور القطاع الخاص في نظام السوق الرأسمالي الحالي أساسي جدًا، لكن الواقع المتردي للقطاع الخاص العائلي في دول الخليج يعني أن الإصلاح في القطاع غير النفطي يجب أن يرتكز فيه، حتى يتحول من وضعه الحالي المتضعضع ليتوجه نحو إعطاء موظفيه حقوقًا ورواتب أعلى، وتوظيف وتدريب المواطنين، ودفع الضرائب للدولة، ورفع الإنتاجية والبحوث والتطوير، والتوجه نحو التصدير بدلًا من التركيز فقط على الاستيراد والاستهلاك والدعم ورخص العمالة كما هو الحال حاليًا. ففي الوضع الحالي، يعد القطاع الخاص عالة على الدولة وعلى المجتمع في كثير من الأحيان، ولذلك فإن من المهم أن يتركز أي إصلاح في هذا القطاع الخاص نفسه، بدلًا من التعذر بوضع اللوم على القطاع العام، والتبشير بأن بإمكان القطاع الخاص المتواضع نسبيًا أن يقوم بالأمور على أتم وجه وبكفاءة أفضل من القطاع العام.

وقد تبينت هامشية القطاع الخاص لإجمالي الاقتصاد خلال الأزمة الحالية، حيث توقف غالب القطاع عن العمل عدا قطاعي الغذاء والصيدلة، وهما قطاعان يخضعان لمستوى عالٍ من رقابة الدولة وتنظيمها. وحتى في القطاعات الحيوية التي من المفترض أن تنشط خلال هذه الأزمة، كما هو الحال مع قطاع الصحة والمستشفيات، وقف متفرجًا في المجمل بينما أمسك القطاع الحكومي بزمام الأمور. وباستثناء بعض التجار الذين أعلنوا عن بعض التبرعات أو وضع شركاتهم تحت تصرف الحكومة لو أرادت ذلك، كان دور القطاع الخاص العائلي هامشيًا في الغالب، وأضحى أكبر المتضررين من التباطؤ الاقتصادي، وبات معرضًا لتسريح الكثير من عمالته الوافدة، وما انفك يطالب الدولة بالمساعدة والتعويضات حتى لا ينهار.

وإن كانت أزمتا كورونا وسوق النفط قد بينت المشاكل والمخاطر التي يُبتلى بها القطاع الخاص في الخليج، فإنها أيضًا قد تكون جرس إنذار وفرصة بالإمكان استغلالها لتغيير ماهية هذا القطاع ودفعه نحو الإصلاح.

وإن كانت أزمتا كورونا وسوق النفط قد بينت المشاكل والمخاطر التي يُبتلى بها القطاع الخاص في الخليج، فإنها أيضًا قد تكون جرس إنذار، وفرصة بالإمكان استغلالها لتغيير ماهية هذا القطاع ودفعه نحو الإصلاح الذي بات ملحًا. فما هي أهم الاستنتاجات والتوصيات التي بالإمكان طرحها للمناقشة حول القطاع الخاص؟

أولًا، ثمة  قطاعات حيوية مرتبطة بأسس وبديهيات الدولة والإنسان، ويجب عدم توجيهها نحو الخصخصة وإخضاعها لمنطق التسليع بشكل كامل، بل إبقائها أساسًا قطاعات عامة نظرًا لأهميتها لاستمرار الدولة والإنسان، بما فيها الصحة والتعليم والطاقة والمياه، فلا يمكن ترك هذه القطاعات لأهواء ملاك رؤوس الأموال التي عادة ما تهمل التعاطي مع الحالات الأكثر حرجًا وصعوبة بسبب قلة الربحية، والتي تظهر آثارها الجانبية خصوصًا في فترة الأزمات، بل إنها قد تصل أحيانًا لمحاولة التكسب من الأزمات عبر تخزين البضائع ورفع الأسعار.

ثانيًا، بات من الضروري مراجعة الكثير من المشاريع العقارية والإنشائية الضخمة في دول الخليج التي كانت تحلم ببناء مدن مخصخصة ومغلقة للعامة. فإلى جانب كونها تبدو كضرب من ضروب الخيال والترف في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، فإنها ترهق ميزانية الدولة وتزيد من المصاريف والاستيراد والاستهلاك، مما يفاقم من أوجه الخلل الاقتصادي الأساسي في نمط النمو الذي ناقشناه مسبقًا من دون عائد واضح، ناهيك عن الضرر البيئي الفادح الناتج عنها.

ثالثًا: بات ملحًا أن يتحمل القطاع الخاص مسؤولياته في المساهمة في ميزانية الدولة، متساويًا في ذلك مع أي قطاع خاص آخر في العالم. ويعني هذا التحول بالدرجة الأولى أن يقبل بالضرائب على الدخل، خصوصًا على دخل ملاك الأراضي ورأس المال، كما هو الحال في أي دولة أخرى في العالم. ويأخذ هذا الأمر أهمية قصوى في الخليج إذا دققنا في الجهات التي تستلم الدخل غير النفطي، فنحو ثلثي الدخل غير النفطي يذهب إلى ملاك الأراضي ورؤوس الأموال، بينما تحصل قوة العمل على الثلث فقط. أما في الدول الصناعية الغربية، فالحال عكس ذلك تمامًا. ولذلك إذا أرادت دول الخليج إصلاح ميزانياتها ورفع إيراداتها، فلا مفر من زيادة الضرائب على أصحاب الأراضي ورؤوس الأموال، بما إنهم يستلمون حصة الأسد من الدخل في هذه الدول.

رابعًا، تتحقق أفضل طريقة لإصلاح القطاع الخاص ورفع الإنتاجية فيه وتوظيف المواطنين عبر رفع الحقوق للموظفين تدريجيًا بغض النظر عن جنسيتهم. وبذلك يصبح القطاع الخاص مكانًا جاذبًا للعمل حتى للمواطنين، بحيث تزيد تكلفة قوة العمل نسبيًا في مقابل رأس المال، لدرجة تحفز القطاع الخاص على التحول ذاتيًا إلى المكننة (automation) ورفع الإنتاجية. وبذلك نستبدل الوضع الحالي المتمثل في الاعتمادية المفرطة على النمو العددي عن طريق العمالة متدنية الحقوق والرواتب والتعليم. وقد تكون أهم بداية التأكدُ من تطبيق قوانين العمل في دول الخليج بحذافيرها، بدلًا من ترك الشركات لأهوائها كما هو الحال حاليًا، حيث تُترك لفعل ما تريد بموظفيها دون أي رقابة تُذكر من الدولة. وقد تكون أفضل قدوة لذلك المشاريع العامة نفسها، كشركات النفط والبتروكيماويات والبنوك، وأفضلية هذه المشاريع النسبية من ناحية الرواتب والحقوق والإنتاجية. وهذا هو خير مثال على إمكانية رفع كفاءة الموظفين وإنتاجيتهم وحقوقهم في القطاع الخاص العائلي في الخليج، ما زال هذا القطاع -في ظل وضعه الحالي- يمارس علاقات إنتاجية-عمالية متدنية وغير متكافئة مع الحال في المجتمعات الصناعية الكبرى في القرن الواحد والعشرين، وتذكرنا هذه العلاقات باستغلال الغواصين أيام اللؤلؤ العسيرة،.

هل يعني هذا أن على الدولة أن تملي على القطاع الخاص ما يجب القيام به وتطبيقه بشكل كامل؟ في حالة الحقوق الأساسية والقوانين التي يجب توفيرها للعامل، فإن رقابة الدولة مهمة بالتأكيد خصوصًا عند التأكد من تطبيق قوانين العمل كتوفير مقومات الصحة والسلامة في بيئة العمل، ودفع الرواتب بانتظام، وتوفير الإجازات المرضية إلخ، وتُطبَّق هذه القوانين بالكاد في القطاع الخاص العائلي حاليًا. وإذا نظرنا إلى الإنتاجية والتوظيف، فإن أحسن طريقة للدفع بالتحول تُنفَّذ عبر إيجاد الحوافز التي تجعل القطاع الخاص يتحرك تلقائيًا نحو المكننة وتوظيف المواطنين، وثمة أكثر من آلية يمكن تطبيقها في هذا الجانب. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُفرَض رسوم على أي عامل وافد توظفه الشركة بدرجة ترفع التكلفة على صاحب العمل لتوازيها مع توظيف المواطنين، كما هو مطبق في سنغافورة وكما بُدِئ بالعمل به في السعودية (والبحرين لمدة قصيرة إلى أن خُفِّض لدرجة أبطلت فاعليته)، وأن تُناط الكفالة وأعداد العمالة الوافدة في الاقتصاد إلى الدولة بدلًا من ترك الأمر للقطاع الخاص كما يسري حاليًا. وبذلك تُرفَع تكلفة قوة العمل وحقوقه وتُرفع الحوافز حتى يتجه القطاع الخاص نحو المكننة وتوظيف المواطنين من تلقاء نفسه، مع ترك تحديد طبيعة التوظيف والتكنولوجيا المستعملة في الإنتاج للقطاع الخاص، كما هو جارٍ في دول أخرى في العالم.

بل من المهم أن يصل الاقتصاد لمرحلة تدفع القطاع الخاص نحو التصدير، وقد يكون ذلك عن طريق إعطاء حوافز من ناحية تخفيض الضرائب والرسوم والقيود على العمالة الوافدة فيما يخص الإنتاج الموجه نحو التصدير، إذ إن القدرة على تصدير منتجات غير نفطية ذات تكنولوجيا عالية ستكون المعيار الرئيس الذي يحدد استدامة الرفاه الاقتصادي في دول الخليج والمرتبط حاليًا بالأساس على الإنتاجية العالية في القطاع النفطي على الرغم من صعوبة ذلك في الوضع الحالي. وإن كان لنا أن نتبع الشركات الاستشارية وأن نختار معيارًا قياسيًا واحدًا (KPI) لقياس استدامة اقتصاديات الخليج من ناحية الإنتاج (على الرغم من خطورة الاعتماد عليها فقط)، فسيكون المقياس عجز/فائض الميزان التجاري من غير النفط ومشتقاته (ومن المفضل من غير المواد الأولية) التي تنتجها اقتصاديات الخليج. وهذا يشمل بالأخص الصادرات من التصنيع (manufactured goods) والخدمات ذات التكنولوجيا العالية (كالبرمجيات)، وهي المعيار الرئيس لقدرة الاقتصاد على التنافس وعلى الاستيراد من بقية العالم. إذ يعتمد  بقية الاقتصاد المحلي على هذه القيمة المضافة في الصادرات ليمول استيراده واستهلاكه كما هو حال الاعتمادية على النفط اليوم واللؤلؤ في العصر الماضي.

ما الذي قد تعنيه هذه التحولات على القطاعات المختلفة في الاقتصاد؟ ليس من المستبعد أن تتقلص بعض القطاعات وتنحسر بشكل ذاتي تدريجيًا، خصوصًا قطاعات الإنشاء والخدمات الاستهلاكية (كالمجمعات والمطاعم) والاستيراد (كمثال السيارات). وبرأيي فإن هذا النوع من التقلص أمر حميد ومرغوب، لأن نسبة الاستهلاك العالية الحالية في اقتصاديات دول مجلس التعاون، سواءً كانت من ناحية الطاقة أو المياه أو السكن أو السيارات، تجعل الناتج المحلي يبدو وكأنه عالٍ، ولكنها أشبه بالشخص المصاب بالتخمة الذي ما انفك وزنه يزداد، وهذا النوع من الزيادة في الاستهلاك والاستيراد لا يصب في مصلحة الاقتصاد. وفي مقابل تقلص هذه القطاعات، فمن المؤمل أن تأخذ قطاعات أخرى في التوسع، مثل قطاعات التصنيع والتصدير وتلك التي تعتمد على الإنتاجية والتكنولوجيا العالية. وعلى الرغم من أن هذا التحول صعب ومحفوف بالمخاطر، فإنه أصبح ضروريًا إن كانت دول الخليج جادة في الإصلاح.

وعلى الرغم من أن من المفترض أن يتحمل القطاع الخاص جزءًا كبيرًا من ثقل هذا الإصلاح، فإنه قطعًا ليس الطرف الاجتماعي الوحيد المعني بالتغيير. ومن المؤكد أن أي تغير في القطاع الخاص سينعكس بدوره على العمالة المهاجرة، بما إنها الأغلبية الساحقة من قوة العمل في القطاع الخاص بدول مجلس التعاون. وستكون العمالة المهاجرة محور تركيزنا في المقال القادم.

 

رابط المصدر:

https://thmanyah.com/4464/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M