“يقظة تاريخية”: استراتيجية الناتو الجديدة لمكافحة الإرهاب

د.رشا غريب

 

مع استمرار أصوات مدافع الحرب الروسية على أوكرانيا، انطلقت القمة الاستثنائية لزعماء دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 24 مارس الماضي، حيث كان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، قد دعا في منتصف الشهر إلى عقد قمة استثنائية، وذكر في بيان له أن هذه القمة ستركز على “عواقب الغزو الروسي لأوكرانيا ودعمنا القوي لها، وتعزيز نظام ردع الناتو ودفاعاته في مواجهة واقع جديد من أجل أمننا”. على الجانب الآخر، تتزايد تحديات مكافحة الإرهاب مع التطور التكنولوجي ومـنـصـات الـتـواصـل الاجـتـمـاعي الشائعة المتاحة للجميع، مما يسمح بالانتشار السريــع لأفكار واستراتجيات لم تكن ممكنة خـلال الـعـقـود الـمـاضـيـة، كل ذلك يطرح العديد من التحديات أمام جهود الناتو لصياغة استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب في ضوء الأزمات الدولية الراهنة.

اكتسب حلف الناتو خبرة واسعة في مجال مكافحة الإرهاب منذ قيامه بتفعيل المادة (5) للدفاع الجماعي لأول مرة في تاريخه كرد فعل على هجمات 11 سبتمبر 2001، وتنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الناتو هو هجوم على جميع أعضائه. على الجانب الآخر، تفرض البيئة الأمنية المتطورة بشكل متزايد أهمية التصدي للتهديدات والتحديات من خلال استخدام الأدوات العسكرية وغير العسكرية بطريقة مدروسة ومتماسكة ومستدامة، لذا اعتمد الناتو مجموعة متنوعة من الأدوات غير العسكرية التي تدعم المهام الأساسية الثلاث للحلف كما جاءت في المفهوم الاستراتيجي وهي: “الدفاع الجماعي، وإدارة الأزمات، والتعاون الأمني”، كما تعمل كمنصة لتعزيز الاستخدام المتسق لهذه الأدوات من قبل الحلفاء، تحت سلطتهم وسيطرتهم، جنبًا إلى جنب مع الجهات الفاعلة الدولية الأخرى. ويستشهد “المفهوم الاستراتيجي للحلف” بالإرهاب كجزء من البيئة الأمنية، لكنّه يؤكد بشكل رئيسي على الحاجة إلى تعزيز التحليل والمشاورات وتدريب القوات المحلية، حيث قام “الناتو” بخطوات مهمة، بما في ذلك اعتماد عملية مكافحة الإرهاب لعام 2017 وتحديثها لاحقًا (خطة العمل CT).

وتنظر الأغلبية الساحقة من دول حلف شمال الأطلسي لروسيا على أنها التهديد الخارجي الأكبر للحلف، فمنذ عام 2014 يواجه الناتو تحديات متصاعدة فيما يتعلق بحماية وأمن الدول الأعضاء، وذلك تزامنًا مع التوترات بين روسيا والغرب وضم جزيرة القرم على الحدود الأوكرانية الروسية، لكنها زادت إلى حدٍ غير مسبوق بالتزامن مع بداية العملية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي مما يمثل تحديًا وتهديدًا مباشرًا لأمن أوروبا، ولعل ذلك يطرح تساؤلات عديدة حول قدرة “الناتو” على صياغة استراتيجيات تتوافق مع حجم التحديات المتفاقمة من جانب موسكو، هذا بالإضافة إلى التحدي الأكبر الذي يواجهه الناتو بشأن الانتشار النووي الأفقي للدول “غير النووية”، الأمر الذي يفرض على الحلف جهودًا أكبر لمواجهة التمدد النووي لدول مثل روسيا والصين خاصة في ضوء التهديدات التي تفرضها الحرب بشكل كبير.

وفي ضوء تلك التطورات، ظل حلف الناتو ماضيًا في جهوده لمواجهة التحديات التي يتزايد خطرها على دول الحلف، ففي مايو 2020 أصدر الناتو المنهج المرجعي لمكافحة الإرهاب CTRC””، وهي وثيقة تقدم نهجًا متعدد التخصصات يساعد المتدربين على تـطـويـر الـمـعـارف والــمــهــارات الـمـطـلـوبـة لـفـهـم الإرهـــاب ومكافحته من أجل توقع التهديدات المحتملة والـحـد منها بنجاح. وفي نوفمبر 2020، أكد التقرير النهائي الصادر عن المجموعة المشكلة من قبل الحلف بهدف استشراف المخاطر والتحدّيات للنظر في سبل تقوية الدور السياسي للحلف، على تحدّيين أساسيين؛ هما: عودة التنافس المنهجي وصعود الأخطار العالمية، بالإضافة إلى تزايد الضغوط السياسية على وحدة الحلف. وقد جاءت في مقدمة التهديدات والمخاطر التي رصدها التقرير روسيا والصين، التكنولوجيا الناشئة والمدمّرة، الإرهاب، خاصة وأن الأخير قد تسبب في مصرع مواطنين في دول الحلف أكثر من أيّ تهديد أمني آخر في التاريخ، كما أنه يشكّل أحد أكثر التهديدات المباشرة وغير المتوازية لدول الحلفاء ومواطنيها.

أيضًا عقدت قمة افتراضية في مقر الحلف ببروكسل، في 25 فبراير 2022، للبحث في سبل المواجهة لتلك الأزمة، كما عقد معهد واشنطن في 17 مارس الماضي منتدى سياسيًا افتراضيًا مع غابريال كاسكوني رئيس “قسم مكافحة الإرهاب” في “حلف شمال الأطلسي” لمناقشة الخطوات التي يتخذها الحلف على هذا الصعيد، وكيفية تطور هذه الجهود، والعوامل التي ستحدد معالمها في المستقبل. وقد أكد كاسكوني أن الناتو قد حدد المبادئ الأساسية لدوره في مكافحة الإرهاب، والتي تتمثل في أن مكافحة الإرهاب تعد مسئولية وطنية في الأساس؛ فالأمر متروك للحلفاء أولًا للتعامل مع التهديدات الإرهابية، هذا إلى جانب الطبيعة الشاملة للإرهاب التي يجب التعامل معها في إطار مهام “الناتو” الثلاث الرئيسية المحددة للحلف. وتتعلق المهمة الأخيرة بمساهمة الناتو في مكافحة المجتمع الدولي للإرهاب في الحالات التي يتمتع فيها بالخبرة والتعاون مع الشركاء الدوليين، ويرتكز عمل “الناتو” في ذلك على ثلاث دعائم كما حددها كاسكوني:

١. الحذر والانتباه: حيث يشكل تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الحلفاء الأسس التي تساعد في تحديد الاستجابة للإرهاب بشكل أفضل، هذا إلى جانب بذل جهود إضافية لدعم دور المرأة في مكافحة الإرهاب، وتعزيز الحذر والانتباه فيما يتعلق بالأمن الإنساني، كحماية الأطفال والمدنيين في الصراعات المسلحة وحماية الملكية الثقافية ومكافحة الاتجار بالبشر، وهي ظواهر قد تنتج من الإرهاب أو تتأثر به.

٢. تطوير القدرات: ويتمثل في مهمة الناتو بالدفاع الجماعي ضد الهجمات الإرهابية، حيث يركز “برنامج العمل للدفاع ضد الإرهاب” الذي أُنشئ عام 2004 على المعوقات التي تواجه الحلفاء على صعيد القدرات، وودعم البحوث التكنولوجية والهيمنة التقنية وقابلية التشغيل البيني والاختبارات والمناورات، بجانب التركيز على “الاستغلال الفني” الذي يتعلق بتسمية الأدلة الجنائية في ساحة المعركة، ومنها تسهيل تبادل المعلومات من أجل الملاحقة القانونية أو التحقيق وتحديد الهوية. أيضًا أُسست “مجموعة عمل تابعة لحلف شمال الأطلسي” لمواجهة منظومات الطائرات بدون طيار تعمل وفق برنامج عمل يركز على حماية القوة وتعزيز الأمن المحلي، وتنسيق جهود “الناتو”.

٣. المشاركة والانخراط: وتتمثل في التعاون مع الشركاء من الدول والمنظمات الدولية فيما يعرف بـحوارات مكافحة الإرهاب. ومساعدة كل دولة على إعداد برنامج بناء على تحديد احتياجات الشركاء وقدرات الحلف. ويقوم الحلف بتنظيم دورات تدريبية سواء داخل الدول فيما يعرف بـ”فرق التدريب المتنقلة” أو في “مؤسسات التدريب المتخصصة التابعة للحلف و”المراكز المتميزة”. وبالتالي فإن المشكلة ليست مجرد قضية إنخراط مباشر أو انتشار، بل تتعلق أكثر بكيفية تعزيز قدرات الدول الأكثر تضررًا بشكل مباشر من تلك الجماعات الإرهابية.

وتجدر أهمية تعزيز روابط الحلف مع المنظمات الإقليمية وأهمها “الاتحاد الأوروبي” في إطار نهج منسق خاصة في مجال الأمن البحري، بجانب تعزيز التعاون مع الشركاء في الجنوب، والمنظمات الإقليمية متمثلة في الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، وعن طريق استمرار التواصل مع المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، لإنشاء شبكة أمنية تعاونية في جميع أنحاء المنطقة، وأخيرًا أهمية تحديث سياسة الحلف تجاه روسيا لتشمل مكوّنًا متوسطيًا.

أيضًا أكد كاسكوني على أن “الناتو” يواجه تحديين أساسيين لتحديد دوره في مكافحة تمويل الإرهاب:

التحدي الأول: كيفية منع العناصر الإرهابية من تمويل نفسها عن طريق نهب الملكية الثقافية، حيث يجب مراعاة ذلك عند إعداد القوات العسكرية للانتشار وتنفيذ العمليات.

التحدي الثاني: تبادل المعلومات المالية المكتسبة في سياق أنشطة الاستغلال الفني أو أدلة ساحة المعركة.

وبالفعل بدأت اتصالات أولية مع الشركاء الدوليين المعنيين لمعرفة كيفية مواصلة العمل على تنفيذ تلك المبادرة، وأهمها “الإنتربول”، “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية”، و”مجموعة إيغمونت”.

لقد عزز الناتو قواته داخل أوروبا وشرقها بالتزامن مع تلك الأزمة، الأمر الذي وصفه الباحثون بأن الناتو يشهد “يقظة تاريخية لمواجهة الخطر المتفاقم”، بعد أن وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019 بأنه في “حالة موت دماغي”، حيث أفضت الأزمة الراهنة إلى إثبات جدية التماسك بين دول الحلف، واستعادة قواه الأمر الذي انعكس على موقف فرنسا التي لعبت دورًا محوريا في المسار الدبلوماسي، بعد حالة من التمرد الأزلية ضد الحلف الذي غادرته في العام 1966 ثم عادت إليه عام 2007 في عهد ساركوزي. أيضًا عززت ألمانيا من سياستها الدفاعية ودفعت بخطوات ثابته نحو مساعدة أوكرانيا، فيما يمكن وصفه بالتحولات التاريخية في السياسات الدفاعية والخارجية للدول، حيث اتخذ الحلف لأول مرة في 26 فبراير 2022، قرارًا بتفعيل قوة الرد السريع كإجراء دفاعي ردًا على الهجوم الروسي على أوكرانيا.

أيًا كان الأمر فإن المستقبل القريب سوف يشهد تغير في تحركات الناتو جراء التغير الذي يتشكل في فكر واستراتيجية الحلف، ولا شك أن تأمين حد أدنى من التخطيط الاستراتيجي، يُمَكن تلك الجهود أن تعزز بعضها البعض، ولا تلغي الواحدة الأخرى، حيث تُعدّ عمليات الانتشار العسكرية القليلة الضرورية للمحافظة على موقف فعال لمكافحة الإرهاب الطرف النقيض لـ”الحروب اللا متناهية” من حيث الحجم والتكلفة والمخاطر، ويجب السعي إليها لدعم التحالفات الدولية والحلفاء المحليين.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19464/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M