أحمد خليل أرتيمتي – باحث في الشأن الروسي
تتظافر الفواعل الدولية لترسيم نظام عالمي جديد ذي مفهومية متعددة في ظل المستجدات والأحداث العالمية الراهنة، خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، إذ تسعى الدول التي نالت عقوبات غربية إلى تمتين علاقتها مع بعضها بعضاً في جبهة مناوئة ومجابهة لتلك العقوبات والعزلات الدولية، وبهذا المفهوم فقد سعت روسيا إلى ترسيخ علاقتها مع الدول الصاعدة وذات الاقتصادات الناشئة، وتوجيه علاقتها نحو شراكات في ميادين متعددة؛ لتعويض أسواقها وصادراتها نحو دول شرق آسيا ووسطها؛ بحثاً عن بدائل توفِّر أرضية مناسبة لإنعاش اقتصادها، إذ تعمل الإستراتيجية الروسية اليوم إلى استغلال مسيرتها التاريخية من التعاون والشراكة مع الهند؛ لتخفيف تأثيرات تلك العقوبات الأمريكية والغربية، فضلاً عن كسب دولة كبرى مثل الهند في معسكر الدول المناهضة للسياسة الأمريكية والغربية، مع وجود عديد من التحديات التي لا تسمح للهند بالانضمام لهكذا تحالفات، خصوصاً وهي لديها علاقات وتحالفات عسكرية واقتصادية وتجارية بمستوى رفيع مع الولايات المتحدة فالتنحي عن تلك الامتيازات ستكون لها عواقب لا ترحم النظام السياسي والاقتصادي في الهند، خصوصاً وهي كانت من أولى الدول التي أوجدت مفهوم عدم الانحياز التي تبنتها في ستينيات القرن الماضي؛ ساعية بذلك إلى تجنُّب الاصطفاف ضمن المعسكرات المتنافسة آنذاك، ومستندة لفكرة البرغماتية في السياسة الخارجية، إلا أنَّ الأحداث الأخيرة على الساحة الدولية دعت بالدولتين إلى اتخاذ عديد من المواقف، منها عدم توجيه الهند انتقادات على موقف روسيا في أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014، وتأييد روسيا عن سياسات الهند في إقليم كشمير، فضلاً عن امتناع الهند عن التصويت على مشروع قرار الأمم المتحدة؛ لإدانة الغزو الروسي على أوكرانيا في مجلس الأمن الدولي، وقد أشادت روسيا بهذا الموقف وأصدرت بياناً أشارت فيه إلى تعهُّدها بمواصلة الحوار الوثيق مع الهند؛ بشأن الأوضاع حول أوكرانيا، لكن تقارب روسيا مع الدول المجاورة للهند كالصين وباكستان كانت وما تزال حجر عثرة في نمطية العلاقة بين الدولتين، خصوصاً مع تركيز الولايات المتحدة الأمريكية لتوثيق تعاونها مع الهند في تحالفات عسكرية كانت في بواطنها مساعٍ لتحجيم الدور الصيني، وتخفيف قوة العلاقة ما بين روسيا والصين، والتأثير على إستراتيجية هاتين الدولتين في نطاق شرق القارة الآسيوية ووسطها، فالغاية الأمريكية هو تقزيم النفوذ الروسي، والخنوع للعقوبات، وإعلان انسحابها غير المشروط من أوكرانيا في ظل حرب الاستنزاف التي تمارسها واشنطن إزاء روسيا في أوكرانيا، فضلاً عن سعيها إلى إيصال رسائل غير مباشرة للدول التي تسعى إلى خلق نظام عالمي ذات تعدُّدية قطبية، ممَّا يمهِّد إلى إسقاط الهيمنة الأمريكية في العالم، وترى الولايات المتحدة الأمريكية أنَّ الهند أحد أهم العوامل التي قد تقف وتحد من النفوذ الصيني والروسي في شرق القارة الآسيوية. تمهِّد لنا كل هذه المعطيات والمواقف التساؤل حول أسباب تردُّد الموقف الهندي في الحرب الروسية الأوكرانية، وماهية فكر صناع القرار في الهند؟ وما المحدِّدات والعقبات في العلاقات الروسية الهندية؟
عقود من التعاون في القرن العشرين…
بعد (90) عاماً من الاستعمار البريطاني استقلت الهند في أواسط شهر آب 1947، وسعت إلى تبنِّي سياسة خارجية تتميز بالاستقلالية والحيادية في توجهاتها السياسية والإستراتيجية؛ لتتأخذ من البرغماتية منطلقاً لتعاملاتها مع الوحدات الدولية والقضايا العالمية، ففي تلك الحقبة التي طافت بالعالم من انشطار لمعسكرين (الشرقي والغربي) رفضت الهند سياسة الأحلاف بوصفها انتهاكاً لقرارها المُستقل، ونظرياً أرادت علاقات جيدة مع كلٍّ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لكن عملياً، كان لأول رئيس وزراء للهند (جواهر لال نهرو) فكرة مشرقة عن الاتحاد السوفيتي، وتفضيل لأفكار الاشتراكية الفابية (الاشتراكية البريطانية التي تهدف إلى تعزيز مبادئ الاشتراكية الديمقراطية عبر التدريج والإصلاح، وليس عن طريق الثورة)، وأدَّى هذا إلى توثيق العلاقات بين الهند والاتحاد السوفيتي، في حين انخرطت باكستان كشريك للولايات المُتحدة، وأُقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الهند والاتحاد السوفياتي في 13 نيسان 1947، وظلت هذه العلاقات الإستراتيجية المتعددة الأبعاد (العسكرية، والاقتصادية، والدبلوماسية) قوية بين البلدين، مع أنَّها كانت من أولى المبادرين في تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1955 إلى جانب مصر ويوغوسلافيا وإندونيسيا؛ لتجنُّب الانجرار إلى لعبة القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ضمن حقبة الحرب الباردة، إلا أنَّ تعزيز المساعدات السوفيتية في المجالات الاقتصادية والعسكرية نالت ثقة القادة الهنود، ولم يُنظر إلى مبيعات الأسلحة السوفيتية و(الروسية لاحقاً) على أنَّها وسيلة لموسكو للاحتفاظ بالسوق الهندية، لكن غالباً ما استُقبلت بترحاب، فالقرار الروسي (الفيتو) في مجلس الأمن بشأن كشمير، جعل نيودلهي تنظر إلى موسكو بوصفها حليفاً إستراتيجياً، ولقد أثبتت موسكو باستمرار أنَّها شريك موثوق به لنيودلهي في أوقات الحاجة، فمنذ منع الولايات المتحدة تصدير الأسلحة إلى شبه القارة الهندية في حرب كشمير عام (1965)، كان الاتحاد السوفيتي آنذاك هو المورِّد الأول للأسلحة إلى الهند. في حين دعمت الولايات المتحدة باكستان في حرب تحرير بنجلاديش عام (1971) عبر إرسال حاملة طائرات إلى خليج البنغال فازدادت العلاقات الهندية الأمريكية تدهوراً حتى عام 1991، بالمقابل دعمت موسكو الهند، خصوصاً حينما أجرت نيودلهي تجاربها النووية في أواخر التسعينيات، بل ساعدتها بالفعل في برنامجها النووي.
لقراءة المزيد اضغط هنا
.
رابط المصدر: