شكلت الاتجاهات المصرية في تنويع الشراكات والبعد عن مفهوم مركزية العلاقات مكونًا أساسيًا ميز تحركاتها على صعيد سياساتها الخارجية، بحيث تعتبر العلاقات المصرية مع دول أمريكا اللاتينية ذات منافع متبادلة للأطراف مجتمعة. وفي هذا السياق، تشكل العلاقات المصرية – البرازيلية واحدة من أكثر العلاقات تميزًا بين مصر ودول القارة اللاتينية، لا سيما بعدما التقىالرئيس عبد الفتاح السيسي مع نظيره البرازيلي في ثاني زيارة رسمية له لأفريقيا منذ توليه المنصب، وتنظر برازيليا لعلاقاتها مع القاهرة بوصفها أحد الإجراءات الاستراتيجية للدبلوماسية البرازيلية.
التوجهات السياسة الخارجية المصرية تجاه قارة أمريكا الجنوبية:
خلال العقد الأخير، استقرت حالة من الحرص لدى صانع القرار المصري على تنويع العلاقات مع مختلف القوى الإقليمية والعالمية بحيث لا تقع مصر فريسة لأي ضغط يؤثر على قرارها السياسي من خلال الاستفادة من الأطراف الإقليمية والدولية التي يمكن لمصر أن تحقق استفادة منها عن طريق تعميق الشراكات والاستفادة من التجارب الناجحة في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
وكان من الطبيعي أن يكون المحرك الاقتصادي واحدًا من المحركات الأساسية التي حركت دفة السياسة الخارجية لمصر، خصوصًا مع الدول التي تتشابه وتتقارب مع التجربة المصرية ومنها دول أمريكا اللاتينية التي تشكل رغم البعد الجغرافي عن مصر عاملًا مهمًا يمكن أن يسهم في تنشيط الاقتصاد على الجانبين.
ويضاف إلى ذلك حالة التشابه في المواقف السياسية مع القضايا والملفات الإقليمية والدولية، وهو ما جعل مصر شريكًا مع دول القارة في عدد من التكتلات منها مجموعة دول عدم الانحياز ومجموعة “الميركسور” التي تضم (مصر والبرازيل والأرجنتين وأوروجواى وباراجواى) .
وكان من الطبيعي أن تمثل البرازيل رقمًا مهمًا في الدول التي وضعتها مصر على أجندتها في تطوير وتنمية العلاقات لأنها من الدول الصاعدة والتي استطاعت تحقيق طفرات انطلقت من سياساتها التنموية داخليًا وسياساتها السلمية خارجيًا والتي تعتمد بشكل كبير على رؤيتها للحوار كأداة لحل النزاعات.
وعلاوة على ما تقدم، فإن البرازيل تمتلك تأثيرًا ضخمًا على محيطها الإقليمي بما تمتلكه من عضويات في تكتلات أمريكا اللاتينية، وكذلك بعضويتها في مجموعة العشرين وتجمع “البريكس”. وعلى ذلك تنظر مصر إلى البرازيل بوصفها بوابة عبور لأمريكا اللاتينية، وترى البرازيل أن مصر بوابة عبورها للفرص الاقتصادية الواعدة في القارة الأفريقية باعتبار البرازيل سابع اقتصاد في العالم.
مجالات وآفاق التعاون بين مصر والبرازيل:
أولًا الحماية الاجتماعية: تمتلك مصر والبرازيل تجربتين رائدتين في مجال الحماية الاجتماعية ورعاية الدولة للفئات الأولى بالرعاية من خلال المشروع الأضخم لمصر في الشرق الأوسط “حياة كريمة “وكذلك برنامج “تكافل وكرامة”، في الوقت الذي تمكنت فيه البرازيل من انتشال قطاعات كبيرة من المجتمع من براثن الفقر المدقع بعدد من الاستراتيجيات. مما يعني أن الدولتين قد تمتلكان مجالات للتعاون في هذا الإطار بما يعزز التجربة الإنسانية في كل منهما.
على جانب آخر، تمكنت كل من مصر والبرازيل من تحقيق قدر من التقدم في تحقيق التطلعات الاجتماعية للفئات المهمشة من خلال التخطيط الاستراتيجي والميزانيات التشاركية لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال والفلاحين والمرأة.
ثانيًا التعاون الاقتصادي: حيث تستهدف الإدارة المصرية الحالية تلبية الاحتياجات الاقتصادية من خلال جذب الاستثمارات الخارجية وتدعيم مجالات التعاون الفني مع الدول التي تمتلك تجارب مهمة واقتصادات صاعدة في ظل ظروف مشابهة لمصر، مع الوضع بالاعتبار أن التعاون في مجال التبادل التجاري لا يزال يميل لصالح البرازيل وهو ما يشير إلى أهمية تفعيل دور اللجان الوزارية المشتركة؛ للاستفادة من الفرص الاقتصادية في البلدين، وتسهيل حركة رجال الأعمال.
وقد أعلنت الحكومة البرازيلية أنه من المتوقع أيضًا أن تناقش مصر والبرازيل إنشاء خط جوي جديد بين القاهرة وساو باولو احتفالًا بمئوية العلاقات، وهو ما يضيف الكثير لأبعاد العلاقات حتى على المستويات السياحية والثقافية بما يصب في مضاعفة أعداد السائحين خاصة مع ثبات معدلاتها التي ترجع إلى تباطؤ حركة السياحة العالمية بعد تفشي كوفيد 19، وإزالة المعوقات أمام حركة التجارة والاستثمار، بالإضافة إلى بحث التعاون من خلال الموانئ والنقل البحري.
ومن ناحية أخرى، فقد نجحت مصر في توقيع اتفاق التجارة الحرة مع كتلة “الميركوسور” وهي الكتلة التجارية لقارة أمريكا الجنوبية والتي تضم البرازيل والأرجنتين وأوروجواي وباراجواي. ومنذ انضمام مصر، للتكتل نجحت في رفع حجم التبادل التجاري مع الدول الأربع إلى 115%. ولكن هذا لا يعني أن طموحات القاهرة وبرازيليا تتوقف عند إمكانيات التصدير والاستيراد وإنما تستهدف التوسع لمجالات أخرى منها الاستثمارات المتبادلة والمشاريع المشتركة، وتبادل الخبرات والتعاون في مجالات أوسع مثل تكنولوجيا المعلومات والأدوية وغيرها الكثير، بما يتناسب مع قدرات البلدين في مناطق التجارة الحرة والمناطق الصناعية، مع توفر القدرات المصرية لإقامة مناطق لوجستية للشركات البرازيلية في مصر؛ لتسهيل دخولها للأسواق الأفريقية والمنطقة العربية، خاصة أن مصر تمتلك قدرات وموقعًا جغرافيًا يجعلها قريبة من أفريقيا وآسيا وأوروبا، وتربطها اتفاقيات تجارية مع معظم دول القارة السمراء، في الوقت الذي تمتلك فيه البرازيل قدرات في مجال تصنيع قطع غيار السيارات والمنسوجات، وهو ما يؤهل مصر أن تكون نقطة انطلاق لهذه المنتجات لأفريقيا.
ويضاف إلى ذلك الميزة النسبية لمصر في تصنيع الرخام والأدوات الطبية ذات الاستخدام الواحد وتصدير تلك المنتجات إلى دول مثل تشيلي وكولومبيا وكوستاريكا من خلال المشاركة في معارض البرازيل المتخصصة.
ثالثًا عضوية البريكس: شكل انضمام مصر لهذا التكتل التجاري علامة فارقة في العلاقات بين البلدين خاصة أنه من المتوقع على المدى الطويل أن ينجم عن عضوية القاهرة في التكتل فك ارتباطها شيئًا فشيء بالدولار لصالح عملات أخرى أو عملة موحدة خاصة بالبريكس، وتهدف مصر إلى زيادة استثماراتها، وتعزيز التدفقات الأجنبية، وتعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول الأعضاء في مجموعة البريكس.
فقد وصل التبادل التجاري لمصر مع أعضاء البريكس في عامي 2022 و2023، بما في ذلك الأعضاء المؤسسين والجدد، إلى 46.673 مليار دولار، وهو ما يمثل أكثر من ثلث إجمالي التجارة الخارجية للدولة
رابعًا التعاون في الملفات الإقليمية: حيث تتشارك مصر والبرازيل وجهات النظر بشأن قضايا حيوية في المحيطين الإقليمي والدولي وعلى رأسها القضية الفلسطينية والحرب المستمرة في قطاع غزة؛ فالرئيس البرازيلي مؤيد واضح ومباشر لحقوق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته كما انتقد علنًا عدوان إسرائيل، وكذلك قدم الدعم في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
وامنت برازيليا الجهود المصرية لإيصال المساعدات إلى غزة، وكذلك تمكُّن مصر من إجلاء عائلات برازيلية كانت داخل القطاع وهو ما يؤكد أن مصر لاعب إقليمي مهم.
تلاقي وجهات النظر في الملفات الدولية: فمنذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية تبنت مصر موقفًا عادلًا دعا للتأكيد على حقوق وسيادة كل الدول، في الوقت الذي أكد فيه على أهمية مراعاة المخاوف الأمنية لموسكو وهو موقف وسطي يتماهى معه الموقف البرازيلي الذي هدف في فترة من فترات الحرب إلى التوسط بين روسيا وأوكرانيا وهي جهود الوساطة التي وصفت بالمهمة في ذلك التوقيت.
وقد أكد الرئيس البرازيلي أن الغرب هو من يؤجج الحرب بإمداده أوكرانيا بالسلاح. وفي نفس الوقت، لم تتبع البرازيل الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، ورفضت تزويد أوكرانيا بالذخيرة أو الأسلحة.
مكافحة عدم المساواة: وذلك على عدد من المستويات منها: القضايا المتعلقة بالجوع، وتضرر الدول النامية من التغيرات المناخية، وكذلك إصلاح أو إعادة تأهيل المؤسسات الدولية لتقوم بدور فعال في حفظ الأمن والسلم الدوليين، لأن مصر والبرازيل تعدان ممثلتين للدول النامية في قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية وتطمحان لإدخال إصلاحات هيكلية بمساهمة دول أخرى في طريقة عمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مما يؤدي إلى زيادة تمثيل بلدان الجنوب العالمي.
وعلى مستوى التغيرات والعدالة المناخية، تعد البرازيل واحدة من أكثر الدول النامية المتضررة من التغير المناخي والتي تستدعي تدخلات عاجلة عن طريق الصناديق المنبثقة عن مؤتمرات المناخ الدولية والتي تعد مصر شريكًا أساسيًا فيها. والخطير في مسألة التغيرات المناخية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية أنها تهدد مسألة الأمن الغذائي على مستوى عالمي، وتؤثر سلبًا على تراجع الأنشطة والرقعة الزراعية مما يتلف محاصيل كالبن ويزيد التقلبات في أسعار القهوة وتزيد من مخاطر التصحر التي تؤثر بدورها على الثورة الحيوانية وتؤدي إلى تراجعها بشكل كبير.
العلاقات في مجال الطاقة المتجددة: تملتك مصر والبرازيل قدرات واعدة في مجال الطاقة المتجددة. فيما تختص مصر بميزات جمة في هذا الإطار؛ نظرًا لتوافر طاقة الشمس والرياح لديها، فضلًا عن نمو قطاع البنية التحتية بشكل كبير خلال العقد الأخير. وعلى الناحية الأخرى، تتجه البرازيل إلى تقليل اعتمادها على الفحم كمصدر للطاقة للتقليل من انبعاثات الكربون من خلال توقيعها على اتفاق رسمي خلال قمة المناخ الماضية في دبي وحمل اسم “التعهد العالمي بأهداف الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة” وبذلك فهي تتحول لرقم مهم أيضًا في مجال الطاقة المتجددة إذ تأتي أكثر من 80% من كهرباء البلاد من مصادر متجددة على رأسها الطاقة الكهرومائية، بالتوازي مع توسعٍ سريع في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
مجال الأمن الغذائي: تتمتع البرازيل بقدرات ضخمة في إنتاج الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى وكذلك في الثروة الحيوانية، مما يجعلها رقمًا مهمًا للغاية في معادلة الأمن الغذائي على مستوى القارة اللاتينية وكذلك على المستوى الدولي بشكل يمكن أن يعوض الصادرات الروسية وربما أيضًا الصينية في بعض الأحيان وإن كان لفترات مؤقتة.
ويعد مجال الحبوب بشكل خاص مسألة حيوية بالنسبة لمصر؛ كونها تعتمد على استيراد احتياجاتها بشكل كبير وهي المسألة التي تفاقمت نتيجة التعقيدات المتشابكة لتوريد الحبوب من روسيا وأوكرانيا نتيجة الحرب المستمرة، وأزمة سلاسل التوريد العالمية. وتعد البرازيل واحدة من أكبر منتجي القمح في قارة أمريكا الجنوبية، وهي مرشحة لتغطية احتياجاتها محليًا خلال السنوات الخمس القادمة، خاصة أنها في طريقها لزيادة الإنتاج بطريقة أكثر استدامة مع الزراعة الرقمية واستخدام الطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار عن بعد والإنترنت والذكاء الاصطناعي والتطور البيولوجي.
وحتى على صعيد الثروة الحيوانية تعد مصر أحد الشركاء التجاريين الرئيسين للبرازيل في أفريقيا، وقالت الحكومة البرازيلية في بيانها إنه من المتوقع أن توافق مصر قريبا على استيراد لحوم البقر الجديدة من البرازيل. حيث تعد مصر مستوردًا رئيسًا للحوم البقر من البرازيل، أكبر مصدر ومنتج للحوم البقر والدجاج الحلال في العالم. وخلال عام 2023، اعتمدت مصر على البرازيل في نحو 60 بالمئة من وارداتها من لحوم الأبقار، فتحت القاهرة سوقها في نفس العام أمام العديد من المنتجات البرازيلية في عام 2023، بما في ذلك الأسماك والدواجن والقطن والجيلاتين والكولاجين.
وفي إطار التبادل، تتمتع مصر بقدرات متميزة في مجالات إنتاج الأسمدة وتشكل البرازيل سوقًا واعدًا للأسمدة المنتجة محليًا، وعلى مستوى ملف المياه من المتوقع أن يكون هناك تعاون بين البلدين في مجال تحلية المياه حيث تستفيد برازيليا من خبرات القاهرة في هذا المجال وهي التي تمتلك خبرات رائدة خاصة بالنظر لأن البرازيل دولة تبلغ مساحتها حوالي 8.5 ملايين كم2، وتقع على شريط ساحلي بطول 8000 متر.
وختامًا، يمكن القول أن العلاقات مصر مع البرازيل تشكل فرصة واعدة لجذب الاستثمارات ليس فقط للقاهرة ولكن للقارة الأفريقية بشكل عام؛ باعتبار مصر عضوًا في التكتلات والتجمعات الاقتصادية في القارة الأفريقية وعلى رأسها الكوميسا. وتعول مصر على كونها سوقًا كبيرة تضم نحو 110 ملايين نسمة ما يضمن مستويات طلب مرتفعة على السلع وتنشيط حركة الصادرات من دول أمريكا اللاتينية وإليها.