يُمكن تصنيف الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة الآن ضمن نمط الحروب الهجينة التي يُرتكن فيها إلى مزيج من أنماط الحرب المختلفة، بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات غير النظامية والسلوك الإجرامي والأعمال الإرهابية كالعنف العشوائي والإكراه والفوضى الإجرامية، في نفس الوقت وداخل ساحة المعركة الواحدة بغرض تحقيق أهداف سياسية؛ إذ انطوى الغزو الروسي لأوكرانيا على المكونات الأربعة للمفهوم التي تشمل التدخل وتكديس القوات والردع القسري والتخريب السياسي.
ويشير التدخل إلى استخدام القوات العسكرية التقليدية، أما تكديس القوات فيعني استخدام وحدات معينة من قوات العمليات الخاصة لشن حرب غير تقليدية، ويوضح انتشار قوات “سبيتسناز” في أوكرانيا هذا النمط، فيما يتجسد الردع القسري في وضع قوات الردع النووي في حالة استعداد وقبلها إجراء تدريبات عسكرية واسعة النطاق، وأخيرًا يتعلق التخريب السياسي بعمليات المعلومات وهي الموضوع الذي تركز عليه هذه الورقة.
حرب المعلومات في الفكر العسكري الروسي
تقليديًا، لجأت روسيا ووكالاتها الحكومية، ومن قبلها الاتحاد السوفيتي إلى وسائل التواصل الاجتماعي واستراتيجيات المعلومات المضللة لتعزيز نفوذها إلى حد كبير من خلال إضعاف خصومها، وكان هذا مكونًا أساسيًا في معركة النفوذ الممتدة مع الغرب، مطورة في ذلك أدوات معلوماتية جديدة ومبتكرة من خلال الجمع بين استخدامها التقليدي لوسائل الإعلام الحكومية والدعاية العلنية والسرية مع أنظمة الاتصالات الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد أدى التطور المستمر لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى توسيع أدوات ممارسة النفوذ الروسي وتطوير الفكر العسكري الروسي ليشمل مفاهيم مثل الحرب غير الخطية.
ورغم مركزية اللجوء للوسائل العسكرية التقليدية والردع النووي في الفكر العسكري الروسي إلا أن التعريف الروسي للحرب توسع ليشمل حرب المعلومات والدعاية والهجمات الإلكترونية كجزء رئيس لتحقيق الأهداف السياسية المتمثلة في إخضاع الدول المعادية وزعزعة استقرار المجتمعات. ومع أن العمليات المعلوماتية ومفهوم العمليات النفسية له جذور منذ الاتحاد السوفيتي، لكن الحرب الروسية الجورجية عام 2008، وأحداث ما يُسمى بالربيع العربي، وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، دفعت المفكرين وصناع القرار الاستراتيجيين الروس إلى مناقشة دور العمليات المعلوماتية في الصراعات.
وعلى رأس هؤلاء الجنرال فاليري جيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروسي، الذي قدر في أحد خطاباته عام 2013 دور الوسائل غير العسكرية على الوسائل العسكرية بنسبة 4: 1. وفي مقال له بعنوان “قيمة العلم في التنبؤ: التحديات الجديدة تتطلب إعادة التفكير في أشكال وأساليب الحرب”، أكد أن دور الوسائل غير العسكرية في تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية نما، وفي كثير من الحالات تجاوزت قوة السلاح في فعاليتها.
ويرى جيراسيموف أن مساحة المعلومات تفتح إمكانيات واسعة غير متكافئة لتقليل القدرة القتالية للعدو، ضاربًا المثل بشمال أفريقيا حيث استُخدمت التقنيات للتأثير على هياكل الدولة والسكان بمساعدة شبكات المعلومات. ويُفهم من هذا أن جيراسيموف ينظر لعمليات المعلومات بوصفها عاملًا مضاعفًا للقوة، والنظر للجمهور المستهدف بالحملات الإعلامية وحرب المعلومات بأنه مركز الثقل، وتعزيز الرواية الرسمية القائلة بأن الغرب يشن باستمرار عمليات إعلامية ضد روسيا، وتُشكل تلك الرؤية جوهر ما يُعرف بـ “عقيدة جيراسيموف”.
علاوة على ذلك، يؤكد المفكران العسكريان الروسيان “سيرجي تشيكينوف” و”سيرجي بوجدانوف”، في مقال لهما بعنوان “طبيعة ومحتوى حرب الجيل الجديد”، أن الخيارات غير العسكرية أصبحت متفوقة بشكل كبير على قوة الأسلحة فيما يسميانه بـ “حروب الجيل الجديد”، مجادلين بأن حرب الجيل الجديد ستهيمن عليها حرب المعلومات والحرب النفسية التي ستسعى إلى تحقيق التفوق في القوات والسيطرة على الأسلحة وتثبيط أفراد القوات المسلحة للخصم والسكان أخلاقيًا ونفسيًا. وكلما تطورت تكنولوجيا المعلومات كلما كانت المعلومات والحرب النفسية أساسًا كبيرًا للنصر. واعتبرا أن أي هدف للحروب المستقبلية لن يتحقق ما لم يكتسب أحد المحاربين تفوقًا إعلاميًا على الآخر، حيث يعتمد إطار الحرب الهجينة الذي قدمه المفكران على عملية إعلامية ناجحة في بداية الصراع من أجل تشكيل ظروف مواتية.
كذلك، يرى الضابط السابق في وكالة الاستخبارات الروسية KGB، إيغور بانارين، أن العمليات المعلوماتية ضرورية للحملات الجيوسياسية الاستراتيجية، ويعتقد أن سقوط الاتحاد السوفيتي والثورات الملونة مدفوعة بعمليات معلوماتية شنها الغرب، ومن هذا المنطلق، صنف ضم شبه جزيرة القرم بأنها “عملية إعلامية دفاعية”، ويسرد بانارين ثمانية مكونات مختلفة لعمليات المعلومات؛ هي الرقابة الاجتماعية، والمناورة الاجتماعية، والمعلومات المضللة، وتلفيق المعلومات، والتلاعب بالمعلومات، والضغط والابتزاز، والمعلومات المرغوبة.
فيما دعا الأكاديمي ومؤسس اتحاد الشباب الأوراسي، ألكسندر دوجين، الكرملين لإنشاء “الشبكة الأوروبية الآسيوية” بغرض شن حملات معلوماتية مضادة للغرب، وهو ما عبر عنه بمفهوم “التحكم الانعكاسي” كأحد أوجه ما يُعرف في الفكر الاستراتيجي الروسي بـ “ماسكيروفكا” (هو مفهوم رئيس في الفكر الاستراتيجي الروسي يشير إلى فن الخداع والإخفاء في كل من العمليات العسكرية وغير العسكرية)، وهنا يقصد به استخدام المعلومات المضللة للتأثير على الخصم لاتخاذ قرارات تتفق ورغبات الدولة القائمة بالفعل.
التوظيف المعلوماتي والدعائي في الحرب الأوكرانية
رافقت الحرب المعلوماتية والدعائية كافة مشاهد الأزمة الأوكرانية منذ لحظاتها الأولى ربما عام 2014، وكانت حاضرة في قلب مجرياتها كافة انتهاءً بمرحلة التصعيد العسكري الدائرة حاليًا؛ إذ تزامنت عمليات إعداد وتجهيز المسرح العسكري للحرب مع انطلاق حملة دعائية مكثفة شكلت المعلومات قوامها الرئيس سواء كانت حقيقة أم ملفقة، وتضافرت فيها آلات الدعاية التقليدية ووسائل الاتصالات الحديثة كفيسبوك وتيك توك وتويتر وتليجرام، إلى جانب مصادر الاستخبارات المفتوحة.
وربما يرجع ذلك إلى اعتبار روسيا أوكرانيا الخط الأمامي لمجابهة حرب المعلومات الغربية ضدها، حيث يرى الكرملين أن احتجاجات يوروميدان عام 2013 التي أطاحت بالرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش، هي جزء من حملة دعائية إعلامية غربية تقوم على ترويج بعض القيم كالديمقراطية للإطاحة بالأنظمة المستهدفة من خلال خلق ثورات ملونة تتجاوز أهدافها نتائجها المحلية المباشرة إلى الإضرار بمصالح روسيا الاستراتيجية، وهو ما عبر عنه الجنرال فاليري جيراسيموف عام 2014 في قوله إن الثورات الملونة أصبحت الوسيلة الرئيسة لتحقيق الطموحات السياسية للدول الغربية. ولعل ذلك يُفسر تصريح وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو في يناير الماضي –تعليقًا على الأزمة الأوكرانية – “إن هناك حرب إعلامية على جميع الجبهات ولا يحق لنا أن نخسرها”.
وكشف تقرير لوزارة الأمن الداخلي الأمريكية أنه في الفترة من سبتمبر 2021 إلى يناير 2022، نشرت وسائل الإعلام الحكومية الروسية والمواقع الوكيلة على الإنترنت عددًا أكبر من الروايات المعادية لأوكرانيا والولايات المتحدة مقارنة بأي فترة سابقة، وتجاوزت المقالات التي تركز على أوكرانيا من قبل وسائل الإعلام الروسية الـ 800 مقال في يناير 2022، ويُمكن استعراض أهداف وآليات الحرب المعلوماتية والدعائية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية الأخيرة كالتالي:
• تعظيم الخطر وشرعنة الحرب: صاغ خطاب المسؤولين السياسيين وصناع القرار الاستراتيجي على اختلاف مستوياتهم الرواية الروسية للحرب التي عمدت إلى تضخيم حجم التهديد المُحدق بالدولة، فلم يخلُ خطاب أحدهم من الإشارة إلى الخطر الوشيك المرتبط بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، رغم إدراكهم لاستحالة إتمام خطوة كتلك في الوقت الراهن، ولتدعيم سردية الاعتداء على المصالح الأمنية الروسية تم استدعاء مشاهد وحقب تاريخية تحمل مدلولات سياسية معينة كوصف القادة الأوكرانيين بالنازيين الجدد.
وركزت السرديات الرسمية الروسية على مفردات تُقدم النظام الأوكراني بوصفه متورطًا في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق سكان إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم على سبيل التورط بإبادة جماعية بحقهم، ومحو هويتهم الثقافية، وإثارة الفوضى والنعرات الطائفية بين الشعبين الروسي والأوكراني اللذين ينتميان لنفس القيم والعادات والتقاليد، وقمع مكونات المجتمع الأوكراني، وفرض حصار اقتصادي عليهم وتدمير المدارس، وسد القناة التي تزود القرم بالمياه العذبة، وسط تجاهل المجتمع الغربي الراعي لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما يُضفي طابعًا أخلاقيًا وشرعيًا على التحركات الروسية بوصفها تأتي لإنقاذ السكان الذين يتعرضون للعنف الذي ترعاه الدولة.
وكذا، أطلقت المنصات الإعلامية الروسية حملات لبناء سرديات مناهضة لأوكرانيا تتهمها بتنفيذ تفجيرات وتحذر من أزمة إنسانية وشيكة في دونباس وانتهاكات لحقوق الإنسان، وهي أحد التكتيكات التي يُطلق عليها “حملات العلم الكاذب” (خلق أحداث وهمية للترويج لروايات كاذبة ويتم فيها توظيف مقاطع فيديو قديمة وإعادة تجميعها بما يخدم أغراضها المستحدثة)، تهدف لإظهار أوكرانيا بالمعتدية لإيجاد مبررات للقيام برد عسكري دفاعي، وخلق سياقات متفهمة للمصالح الروسية، والتأثير على عمليات صنع القرار في الدول المنخرطة بالأزمة.
وخلال تلك المرحلة لوحظ تكرار استخدام مصطلح “عدوان أوكرانيا” لوصف التحركات الأوكرانية المزعومة. وفي هذا السياق، بثت وكالة أنباء تاس الحكومية فيديو يزعم محاولة قيام مخربين أوكرانيين ناطقين بالبولندية يحاولون تفخير خزان الكلور في منطقة دونيتسك، وقد تبين أن الفيديو تم إنشاؤه قبل 10 أيام من بثه، وأن أصوات الانفجارات تعود لمقطع فيديو يسمى M72A5 LAW وAIPLAS وهو صوت لتدريبات بالذخيرة الحية نفذته قوات الدفاع الفنلندية قبل أكثر من 10 سنوات.
وكذا، نشرت وكالة الأنباء الفيدرالية الروسية مقالًا في 23 يناير زعمت فيه أن الولايات المتحدة بدأت في نقل دباباتها الثقيلة وعرباتها المدرعة الخفيفة إلى الحدود مع أوكرانيا لاستخدامها في مهاجمة روسيا. علاوة على ذلك، انتشر مقطع فيديو آخر يزعم شن القوات الأوكرانية لهجوم على منطقة روستوف الروسية المتاخمة لأوكرانيا وقد تبين زيفه أيضًا حيث تظهر المركبات المستخدمة فيما يسمى بالتوغل من طراز BTR-70Ms وهو نوع من ناقلات الجند المدرعة التي لا تستخدمها القوات الأوكرانية.
كذلك، نشرت إحدى المجموعات الانفصالية في لوهانسك مقطع فيديو على قناتها على تليجرام زعمت أنه يظهر رجلًا في قرية بريشيب تم بتر ساقه بعد قصف القوات الأوكرانية، وبالتدقيق يتضح أنه يمتلك طرفًا صناعيًا ومن ثم تم بتر ساقة بالفعل. إضافة إلى ذلك، امتلأت منصة تليجرام بدعاية تروج لتخطيط أوكرانيا وحلف الناتو لعملية سرية تسمى “سحق السيف”، كانت نُشرت للمرة الأولى على حساب ليان ليشينكو، القائد العسكري لجهورية لوهانسك الشعبية ثم نشرتها وسائل الإعلام الحكومية الروسية.
• إلحاق الهزيمة المعنوية بالأوكرانيين: بالتوازي مع انطلاق العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا فجر يوم 24 فبراير الجاري، شنت بعض المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي عملية معلوماتية هدفت إلى تعظيم النجاحات العسكرية الميدانية للقوات الروسية وإضعاف معنويات الجيش والشعب الأوكراني، وقد اشتملت على عدة مسارات؛ الأول تعلق بقصر التغطية الإعلامية على تداول المعلومات الواردة من المصادر الروسية الرسمية والتي تثور شكوك بشأن عدم دقتها في نقل الخسائر التي تعرضت لها القوات والمعدات الروسية المشاركة في الغزو، فعلى سبيل المثال، كرر مقال نُشر في وكالة ريا نوفوستي تصريحات وزارة الدفاع الروسية بأن أي معلومات عن فقدان طائرات هليكوبتر أو عربات مصفحة روسية هي أكاذيب كاملة، بما يتناقض مع التقارير الدولية والأوكرانية ومقاطع الفيديو المنتشرة التي تُظهر وقوع خسائر في صفوف القوات الروسية.
أما الثاني فيخص الترويج لمعلومات مضللة على سبيل عرض لقطات من لعبة فيديو ARMA 3 قديمة على أنها صراع جوي فوق أوكرانيا، وتداول فيديو لتفجيرات تيانجين في الصين عام 2015 التي قُتل فيها حوالي 173 شخصًا عندما انفجرت حاوية تحتوي على مواد كيميائية في أحد الموانئ، بوصفه غارات جوية روسية على محطات الطاقة الأوكرانية. كذلك، جرى تداول مقطع يُظهر بعض الرجال الذين يرتدون زيًا عسكريًا ويتحدثون الروسية وهم يهبطون بالمظلات فوق الأراضي الزراعية على أنهم جنود روسيون يشاركون في الغزو بينما تبين أنه مقطع صوره عضو في القوات المسلحة الروسية عام 2015 وقام بإعادة نشره يوم 24 فبراير.
فيما يقود المسار الثالث وسائل التواصل الاجتماعي التي حرصت على تغذية الشكوك الموجودة داخل المجتمع الأوكراني بأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدعم أوكرانيا في النزاع وما إذا كان يُمكن الوثوق بالغرب. أما المسار الرابع فشمل إرسال تهديدات إلى السكان الأوكرانيين ورسائل نصية إلى الجنود الأوكرانيين لتشجيعهم على إلقاء السلاح والاستسلام، فضلًا عن نشر معلومات تُفيد باستسلام واسع النطاق للقوات الأوكرانية لحث الجنود على الاستسلام.
ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن الحملة الدعائية الروسية المكثفة قوبلت بأخرى أوكرانية مضادة هدفت لإظهار تماسك الجبهة الداخلية واستبسالها في القتال ضد المحتل الروسي ونجاحها في إلحاق الهزائم بالقوات الروسية، لعل أشهر مظاهرها ذلك المقطع المصور الذي ظهر فيه الرئيس الأوكراني إلى جانب زمرة من المسؤولين في أحد شوارع كييف مؤكدًا فيه استمرارهم للدفاع عن استقلال بلادهم.
ومع ذلك، اشتملت الحملة الأوكرانية على معلومات مضللة روجتها مصادر رسمية وحسابات لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العاديين على السواء، ومن الأمثلة على ذلك نشر حساب موثق لوزارة الدفاع الأوكرانية تغريدة تضمن لقطات لمعركة جوية عنيفة تدمر فيها مقاتلة “ميج-29” تابعة للقوات الجوية أخرى من طراز “سو-35” روسية، وقد تبين أنها لقطات لألعاب الفيديو من لعبة Digital Combat Simulator World. كذلك، نشر حساب غير رسمي يدعم القوات المسلحة الأوكرانية على فيسبوك وتويتر مقطع فيديو يُظهر تدمير أفراد ومعدات روسية في أوكرانيا، بينما اتضح لاحقًا أنها لقطات من الصراع السوري عام 2020. كذلك، انتشر مقطع مصور لمواجهة مزعومة بين القوات الأوكرانية وجنود روس في قاعدة جوية وتبين أنها تعود إلى عام 2014 أثناء ضم شبه جزيرة القرم وتدور داخل قاعدة بيلبيك الجوية بالقرب من سيفاستوبول.
• تكذيب الرواية الغربية بشأن الغزو “الوشيك”: لم يقتصر تسليح المعلومات على الجانب الروسي لكنه برز أيضًا كأحد الآليات الغربية لإدارة الأزمة؛ إذ وظفت الأطراف الأوروبية والأمريكية جملة من الأدوات الدعائية لحشد المواقف الدولية المُعادية لروسيا، بما في ذلك تضمين مفردة “الغزو الروسي الوشيك” في الخطابات الرسمية للمسؤولين الغربيين وبالأخص الأمريكيين خلال الأيام السابقة على إطلاق العملية العسكرية في 24 فبراير، وحث بعض الدول كالولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا واليابان ولاتفيا والنرويج وهولندا وإسرائيل لمواطنيهم على مغادرة الأراضي الأوكرانية لتجنب الغزو الروسي المرتقب.
ذلك فضلًا عن اعتماد صور الأقمار الصناعية الصادرة عن شركة “ماكسر” الأمريكية التي تظهر تطور عمليات الانتشار للقوات العسكرية الروسية كمصدر موثوق للتحليلات الإعلامية. علاوة على استعجال وسائل الإعلام إعلان خبر الغزو قبل وقوعه بنحو 19 يومًا؛ إذ بثت وكالة بلومبرج خبرًا على موقعها الإلكتروني يوم 5 فبراير بعنوان “روسيا تغزو أوكرانيا”، تناقلته عنها بعض وسائل الإعلام الأخرى، قبل الاعتذار عن خطأ النشر.
إلا أن السمة المميزة للحرب المعلوماتية الغربية بشأن الأزمة الأوكرانية كانت استخدام استراتيجية “مكبر الصوت” إذ اختارت الحكومات الغربية الرد على الأنشطة الدعائية الروسية بإصدار تقارير استخباراتية يُفترض سريتها بشأن الاستعدادات العسكرية الروسية للغزو والتوقيتات التقديرية له، ومن ذلك إعلان الحكومة البريطانية بالتعاون مع واشنطن، في 23 يناير، تفاصيل مؤامرة روسية مزعومة لتثبيت نظام موال لموسكو في كييف، بل ذهبا إلى حد تسمية عضو سابق في البرلمان الأوكراني مؤيد لروسيا باعتباره “دمية بوتين المفضلة”.
وفي 3 فبراير، أصدرت إدارة بايدن معلومات حول مخطط روسي لتصوير هجوم وهمي على الأراضي الروسية أو على المتحدثين بالروسية في شرق أوكرانيا لتصنيع مبرر للغزو. وبشكل عام، أصدرت الولايات المتحدة تفاصيل كثيرة حول تحركات القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، جنبًا إلى جنب مع تقييمات تشير إلى احتمال حدوث غزو روسي. حتى أنها تبادلت معلومات حول الخلافات المبلغ عنها داخل صفوف الجيش الروسي بشأن هجوم محتمل على أوكرانيا.
وقد أعطى تأخر موعد العملية العسكرية (24 فبراير) عن التقديرات الأمريكية (16 فبراير) المساحة للتراشق الكلامي بين مسؤولي البلدين؛ فبينما روج المسؤولون الغربيون لنجاح حملتهم الإعلامية في عرقلة أو على الأقل تأخير المخططات الروسية، اتهم المسؤولون الحكوميون الروس ووسائل إعلامهم الغرب بالانخراط في خطاب محموم وأكاذيب غير إنسانية واستفزاز صارخ، متهمين الولايات المتحدة بالهستيريا والعبث ومحاولات صب الزيت على النار وإشعال الذعر.
فعلى سبيل المثال، اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن تعزيز القوات جزء من التدريبات العسكرية لا يختلف عن تلك التي تجريها الولايات المتحدة بشكل روتيني في دول أوروبا الشرقية، ساخرًا من اهتمام واشنطن بمناورات روسية داخلية بينما تحركات القوات الأمريكية في أوروبا لا تهمهم. فيما ادعت وسائل الإعلام الحكومية، بما في ذلك روسيا اليوم وسبوتنيك، أن موسكو ليس لديها نية لغزو أوكرانيا وأن الغرب لفق قصة الغزو كذريعة لحشدها العسكري. أما المفارقة هنا فتعلقت بانزعاج الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من إلحاح حلفائه الغربيين على اقتراب المواجهة لما يحمله من تبعات سلبية على الاقتصاد الممزق بالفعل ونشر الذعر وإحباط الروح المعنوية للأوكرانيين.
• إظهار ارتباك وضعف الموقف الغربي والأوكراني: ركز الخطاب الإعلامي الروسي السابق على انطلاق العملية العسكرية على تصوير الموقف الأمريكي باعتباره وسيلة لصرف الانتباه عن المشكلات الداخلية عبر خلق إحساسًا زائفًا بالتهديد من موسكو، وامتلأت الشاشات بالتقارير اليومية المطولة التي تُبرز الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة، وارتفاع معدل التضخم، وتصاعد الجريمة وحوادث السرقة من المتاجر، واحتجاجات اللقاحات، والمعارك الثقافية بشأن حقوق المثليين، وغيرها من مواطن الضعف والقصور الأمريكي.
وبالمثل، اتسمت التغطيات لأوكرانيا بتصدر موضوع ضعف البلاد وانخفاض شعبية رئيسها فولوديمير زيلينسكي، وتصويره بالتابع للغرب الذي يحاول إغوائه لإثارة مواجهة عسكرية، بينما يجد نفسه حائرًا بين رغبته في حفظ ماء وجهه بواسطة حرب خاطفة وبين خوفه من خسارتها. وفي المقابل، تقدم هذه التقارير روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين، على أنهما هادئان وعقلانيان، مدللين على ذلك بالرحيل المنظم لقوات حفظ السلام الروسية من كازاخستان والانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان.
ختامًا، لم يعد امتلاك القدرات العسكرية التقليدية كافيًا لحسم نتائج الحرب داخل ساحات المعارك، وإنما بات التحكم في رواية الحرب عنصرًا أساسيًا لإضفاء الطابع الشرعي والأخلاقي عليها، وخلق رأي عام دولي ومحلي متفهم لمصالح الطرف المعني، ومن هنا، يُمكن فهم محورية الحملات المعلوماتية والدعائية التي أطلقها الأطراف المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الأزمة الأوكرانية الأخيرة كأحد المسارات الضرورية والأقل كلفة لحسم المعركة.
.
رابط المصدر: