أسفرت الانتخابات العامة في المملكة البريطانية المتحدة عن تحقيق حزب العمال لفوز ساحق وتاريخي بأغلبية مقاعد البرلمان، مما مكنه من العودة للسلطة بعد 14 عامًا قضاها في صفوف المعارضة، منهيًا بذلك حقبة حكم حزب المحافظين التي شهدت منذ عام 2010 تولي خمسة قادة مختلفين من الحزب إدارة البلاد، منهم أربعة اضطروا للاستقالة، وتغير ثلاثة رؤساء وزراء منهم فقط خلال عام 2022، وهم بوريس جونسون 2019: 2022، وليز تراس سبتمبر 2022: 25 اكتوبر 2022، وريشي سوناك أكتوبر 2022: يوليو 2024.
وقد كلف ملك بريطانيا تشارلز الثالث، زعيم حزب العمال كير ستارمر برئاسة مجلس الوزراء، وتشكيل الحكومة الجديدة، بينما قدم رئيس الوزراء المنتهية ولايته ريشي سوناك استقالته للملك، عقب إلقاءه لخطاب مقتضب أعلن فيه تنحيه عن رئاسة حزب المحافظين، مما يدفع للتساؤل بشأن أبرز الأولويات والتحديات التي تواجه حكومة كير ستارمر خلال الفترة المقبلة؟.
مسار الانتخابات العامة البريطانية:
أعادت الانتخابات العامة البريطانية حزب العمال “يسار الوسط”، للسلطة، حيث خاض الانتخابات رافعًا شعار التغيير وإعادة بناء بريطانيا، محققًا فوزًا ساحقًا بـ 412 مقعد في البرلمان من إجمالي 650 مقعدًا في مجلس العموم البريطاني، منهيًا بذلك سيطرة حزب المحافظين “يمين الوسط” علي السلطة، إذ تشير النتائج شبه النهائية لحصول حزب المحافظين علي نحو 121 مقعد، وهي أسوأ نتيجة للحزب منذ تأسيسه عام 1834.
ومن اللافت في النتائج الأولية لهذه الانتخابات فقدان عدد كبير من كبار المحافظين لاسيما الوزراء في حكومة ريشي سوناك، ل
مقاعدهم في مجلس العموم، فيما حققت أحزاب الديمقراطيين الأحرار وإصلاح بريطانيا والخضر نتائج تعد الأفضل في تاريخهم، إذ؛ حصل حزب الديمقراطيين الأحرار علي نحو 71 مقعد بالبرلمان بزيادة 63 مقعد عن البرلمان السابق، فيما حصل حزب إصلاح بريطانيا “اليميني المتطرف” علي 13 مقعد في أول مشاركة انتخابيه له، وحصل الحزب الاسكتلندي الوطني علي 9 مقاعد، وحزب الخضر علي 4 مقاعد.
تشكيل حكومة كير ستارمر:
أعقب إعلان فوز حزب العمال بالانتخابات العامة التي أجريت يوم 4 يوليو الجاري، إلقاء زعيم حزب العمال كير ستارمر لخطاب النصر، والذي تعهد خلاله ببدء “عصر التجديد الوطني”، وأنه سيضع بريطانيا في الأولوية ثم مصلحة حزب العمال ثانيًا، وعقب تكليف الملك تشارلز الثالث لكير ستارمر برئاسة الحكومة وتشكيل الحكومة الجديدة، تعهد ستارمر بتوحيد المملكة المتحدة وإعادة بنائها، وإحداث كافة التغيرات التي تعهد بها حزبه خلال حملته الانتخابية، وأضاف أن الشعب صوت من أجل التغيير والتجديد الوطني وعودة حزب العمال إلي الحكم.
وسرعان ما كشف كير ستارمر عن تشكيل حكومته الجديدة، حيث تم تعيين أنجيلا راينر في منصب نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الدولة لشئون الإسكان والمجتمعات، وديفيد لامي وزيرًا للخارجية، فيما تولت رايتشل ريفز وزارة للخزانة “المالية”، وهي أول امرأة تتولي هذا المنصب في تاريخ بريطانيا.
كما أُسندت وزارة الدفاع لجون هيلي، وتولي إيفيت كوبر وزارة الداخلية، فيما حلت بريدجيت فيليبسون وزيرة للتعليم، وإد ميليباند وزيرًا للطاقة، وويس ستريتنج وزيرًا للصحة، وجوناثان رينولدز وزيرًا للأعمال والتجارة، وبيتر كايل وزيرًا للعلوم والابتكار والتكنولوجيا، ولويز هاى وزيرة للنقل، وليز كيندال وزيرة للعمل والمعاشات، وشابانة محمود وزيرًة للعدل.
ومن المنتظر أن يجتمع نواب مجلس العموم يوم 9 يوليو الجاري، حيث سيتم انتخاب رئيس مجلس العموم قبل أن يؤدي النواب اليمين الدستورية، وعقبها سيفتتح الملك تشارلز البرلمان رسميًا بخطاب سيلقيه يوم 17 يوليو الجاري، والذي سيرسم خلاله الخطوط العامة للمرحلة القادمة.
أولويات عمل حكومة حزب العمال، وأبرز التحديات التي تنتظرها:
تواجه حكومة حزب العمال تحديات كبيرة للوفاء بوعودها الانتخابية، وخلق عهد جديد في الحياة السياسية البريطانية، ومواجهة تحديات إرث الأزمات والمشاكل القديمة؛ التي تسببت في تصاعد الانتقادات للحكومات السابقة حيث تأتي محملة بإرث من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومن ابرزها: “تكلفة المعيشة وتعزيز النمو الاقتصادي وخفض معدلات التضخم، والموارد المالية للحكومة، والعبء الضريبي وملف الهجرة، والرعاية الصحية، وازمة اكتظاظ السجون، بجانب تحديات السياسة الخارجية”.
وتجدر الإشارة هنا لأن حزب المحافظين قد لاقي تصويتًا عقابًا من الناخبين نتيجة فشله في الوفاء بتعهداته خلال توليه السلطة علي مدار 14 عامًا، حيث اتسمت فترة حكمه بالركود الاقتصادي، ففي البداية أدت تداعيات الأزمة المالية العالمية لتضخم ديون بريطانيا، وفرض المحافظين لسياسة التقشف علي الموازنة لسنوات، ثم قادوا بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، هذا إلي جانب تداعيات أزمة تفشي فيروس كوفيد- 19، وارتفاع نسب التضخم بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب تدهور الخدمات العامة، وتصاعد الانتقادات لهم بسبب عدم سيطرتهم علي الهجرة، كما تنامت الانتقادات لهم بسبب تسرب مياه الصرف الصحي، وتدهور خدمات القطارات، وارتفاع معدلات الجريمة، وارتفاع تكلفة المعيشة، هذا بجانب تداعيات ما شهده الحزب من تنافس داخلي.
وفي سياق هذا المشهد حدد حزب العمال عدد من الأولويات لعمل حكومته من أبرزها:
- تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعمل علي تنمية الاقتصاد، من خلال قواعد صارمة ومحددة بشأن الضرائب والإنفاق، وتشمل عدم زيادة معدلات ضريبة الدخل والتأمين والقيمة المضافة، والرهن العقاري قدر الامكان
- تحسين الخدمات الصحية، وتقليص قوائم الانتظار، وزيادة البدالات عن العمل في عطلات نهاية الأسبوع والعمل المسائي.
- إنشاء قيادة جديدة لأمن الحدود بصلاحيات مماثلة لصلاحيات مكافحة الإرهاب بهدف وقف عصابات الاتجار بالبشر وتهريبهم عبر القوارب.
- إنشاء شركة طاقة نظيفة مملوكة للقطاع العام للاستثمار في الطاقة النظيفة، بهدف خفض فواتير الطاقة للأبد، وتعزيز أمن الطاقة.
- معالجة السلوكيات المعادية للمجتمع من خلال الدفع بـ 13 ألف ضابط شرطة إضافي وضباط دعم مجتمعي، وإنشاء شبكة جديدة من مراكز الشباب.
- توظيف 6500 معلم إضافي وتقديم نوادي إفطار مجانية في كل مدرسة ابتدائية.
وهي الأولويات التي تم التأكيد عليها خلال الاجتماع الأول لحكومة حزب العمال، الذي أنعقد بعد أقل من 36 ساعة من علي الفوز بالانتخابات.
أبرز التحديات والقضايا الهامة التي تنتظر حكومة حزب العمال الجديدة:
التحديات الاقتصادية:
تعد التحديات الاقتصادية من ابرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة، وأولوية عملها القصوى، في ظل معاناة الاقتصاد البريطاني من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، مرورًا باستمرار التأثيرات الممتدة لفترة جائحة فيروس كوفيد-19، وصولا لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الغذاء والطاقة التي صاحبتها، وأعباء التزام بريطانيا بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وما صاحب ذلك كله من ارتفاع لمعدلات التضخم والبطالة والفقر وارتفاع تكلفة المعيشة الناجمة عن التضخم، وارتفاع اسعار الفائدة في بنك إنجلترا إلي أعلي مستوي لها في 16 عامًا، وكذلك تباطؤ النمو الاقتصادي.
وذلك برغم محاولات حزب المحافظين مواجهة الركود الاقتصادي، والسيطرة علي التضخم الذي انخفض بنحو 2% العام الجاري، بعد أن بلغ زورته في أكتوبر 2022 عند 11.1%، وتسجيل الاقتصاد البريطاني لنمو في الناتج المحلي الاجمالي بلغ 0.2 % في يناير 2024 علي اساس شهري، بعد تراجع بنسبة 0.1% في ديسمبر 2023، فيما تراجع الناتج المحلي الاجمالي في يناير بنسبة 0.3% علي اساس سنوي، وانكمش بواقع 0.1% في الربع الاخير من عام 2023.
لذا في ظل هذا التباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي، تحتاج الحكومة الجديدة لسياسات اقتصادية عاجلة تركز علي تحفيز النمو الاقتصادي المستدام وخفض الدين العام وتوفير فرص العمل، وتحقيق التوازن بين إعطاء الأولوية للاستثمار وإعادة بناء موارد المالية العامة، وغيرها، وبين تحسين الخدمات وتخفيف أعباء الضرائب وخفض تكاليف فواتير الطاقة وتحسين الرعاية الصحية وبرامج الرعاية الاجتماعية وغيرها.
وخلال الحملة الانتخابية لحزب العمال تعهد ستارمر بتحفيز النمو الاقتصادي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال قواعد انفاق صارمة، وتعزيز الشراكة مع قطاع الأعمال، وتعزيز الصناعة، عبر انشاء مجلس الصناعة الاستراتيجي، بجانب تعزيز وجذب الاستثمار.
كما كشف حزب العمال عن عزمه إنشاء “صندوق الثروة الوطنية”، برأسمال قدره 7.3 مليار جنية استرليني خلال فترة البرلمان الجديد، بهدف تعزيز نمو حزب العمال ودعم الطاقة النظيفة وتصنيع الهيدروجين الأخضر، وتحديث الموانئ وبناء سلاسل توريد بجميع انحاء البلاد، وتشييد مصانع عملاقة جديدة، لاسيما في صناعة السيارات، وإعادة بناء صناعة الصلب، وغيرها.
كما تعهد بفتح ملف إلغاء القيود التجارية مع الاتحاد الاوروبي لمساعدة الشركات وخاصة الصغيرة منها، وتحسين الوضع التجاري مع الاتحاد الاوروبي، مما قد يستدعي معه إعادة فتح المفاوضات بين حكومة حزب العمال والاتحاد الاوروبي للتوصل لاتفاق أفضل لاسيما الاتفاق المنظم لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي الذي تم ابرامه في عهد بوريس جونسون، مما سيكون له أثر ايجابي علي النمو الاقتصادي، وفي هذا الشأن، يري مصرف “جولدمان ساكس” أن التقارب التجاري المحتمل بين بريطانيا والاتحاد الاوروبي قد يعوض بعض الآثار السلبية لقرار خروج بريطانيا من الاتحاد.
كما تعهد حزب العمال بالسعي للتوصل لاتفاق بيطري مع الاتحاد الاوروبي لتقليل عمليات التفتيش الحدودية علي المنتجات الحيوانية، والتي تمثل عائق أمام المستوردين والمزارعين البريطانيين، وهي تعهدات يمكن للحزب تنفيذها دون الحاجة لإعادة التفاوض حول اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.
السياسات الضريبية؛ يشكل تعديل السياسات الضريبة تحدي كبير للحكومة الجديدة لتحقيق التوازن بين خفض الضرائب، وإعادة بناء موارد المالية العامة للدولة، وخاصة أن المواطن البريطاني يعاني من ارتفاع الضرائب، حيث رفع المحافظون العبء الضريبي إلي أعلي مستوياته منذ 70 عامًا.
وقد تعهد حزب العمال بضمان بقاء الضرائب المفروضة علي العاملين منخفضة قدر الامكان، وكشف عن نيته لفرض ضريبة على شركات النفط والغاز الكبرى، التي قد تصل لنحو 1.2 مليار جنيه استرليني سنويًا، كما تعهد بعدم زيادة التأمين الوطني أو ضريبة الدخل أو ضريبة القيمة المضافة، هذا بجانب العمل علي تحقيق زيادات ضريبية بقيمة 8.6 مليون جنيه استرليني بحلول عامي 2028 و2029، من خلال إنهاء الاعفاءات الضريبية للمدارس الخاصة، والمستثمرين العقاريين في الخارج وغير المقيمين، بجانب العمل علي معالجة التهرب الضريبي.
أزمة الدين العام؛ تشكل أزمة ارتفاع الدين العام في بريطانيا واحدة من أبرز التحديات الاقتصادية أمام حكومة حزب العمال، إذ تشكل تهديدًا كبيرًا للنمو الاقتصادي والاستقرار المالي، لاسيما مع ارتفاع الدين العام البريطاني في شهر مايو الماضي إلي أعلي مستوياته كنسبة من الاقتصاد منذ عام 1961، حيث بلغ 2.742 تريليون جنيه إسترليني “3.47 تريليون دولار”، أي نحو 99.8% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، مقارنة بنسبة 96.1% العام الماضي، وذلك وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الوطني البريطاني.
وهو الأمر الذي يزيد من التحديات المالية أمام الحكومة الجديدة، ويتطلب منها سرعة اتخاذ اجراءات فعالة لمعالجة أزمة الدين العام، ووضع استراتيجيات لتخفيض مستويات الدين وضبط الانفاق الحكومي، وبما لا يؤثر بشكل سلبي علي النمو الاقتصادي والخدمات الاساسية للمواطنين، هذا بجانب العمل تعزيز النمو الاقتصادي، وتحقيق استقرار اقتصادي طويل المدي، والعمل علي جذب المزيد من الاستثمارات وتعزيز ثقة اسواق المال بشأن قدرة الحكومة علي إدارة الدين، والحد من ارتفاعه، وتنفيذ اصلاحات مالية جذرية، وتوفير فرص عمل وغيرها.
لذا تواجه الحكومة الجديدة تحدي يتعلق بقدرتها علي جذب الاستثمار الأجنبي، وخاصة الاستثمارات طويلة الأجل، وخفض الدين العام، وخلق فرص العمل وخفض معدلات البطالة، والعمل علي تكوين شراكات اقتصادية قوية تحل محل الاتفاقات السابقة قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وغيرها، بجانب الوفاء بتعهداتها الانتخابية المتعلقة بالتحكم في الميزانية والإنفاق الحكومي وانتعاش السوق، واتباع آليات اقتصادية محفزة للاقتصاد، بجانب الموازنة بين الوضع المالي وحل أزمة الدين العام، وبين الوضع الاجتماعي والصحي وتحقيق نوع من العدالة في فرض الضرائب.
العدالة الاجتماعية:
تواجه حكومة حزب العمال تحديات اجتماعية تتعلق بالتفاوت الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية، في ظل ارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض مستوي المعيشة وتدني مستوي المعاشات والاجور، وانعدام المساواة، وانتشار حالة لتشرد والنوم في العراء، ومعاناة نحو 25% من اطفال بريطانيا من العيش تحت خط الفقر في العام المالي 2022: 2023.
مما يتطلب من الحكومة الجديدة وضع سياسات اجتماعية تهدف لتحسين أوضاع الاسر ذات الدخل المنخفض، وتعزيز الخدمات العامة، والتعامل مع قضايا الاسكان وتوفير سكن ملائم بأسعار مقبولة للمواطنين، هذا بجانب النظر في مسألة زيادة اجور القطاع العام التي واجهة الركود لمدة 14 عامًا من حكم المحافظين، وهو ما يشكل تحدي كبير للحكومة الجديدة التي تواجه ضغوط تضخمية كبيرة وتباطؤ في النمو الاقتصادي، ومن جهة أخري تعلق عليها النقابات العمالية الكبرى الكثير من الآمال في هذا الشأن، وبشكل عامل تعهد حزب العمال بمراجعة الائتمان الشامل، ووضع استراتيجية للحد من فقر الأطفال، والنظر في نظام الاجور، وبناء 1.5 مليون منزل جديد، وتحقيق أكبر زيادة في الاسكان الاجتماعي منخفض التكلفة.
سياسة الهجرة والحد من تدفق المهاجرين:
تزايد تدفق المهاجرين العابرين لقناة المانش لبريطانيا خلال السنوات الماضية، وبرغم تعهد حزب المحافظين بإنهاء الهجرة غير الشرعية، دخل لبريطانيا خلال عام 2023 نحو 52 ألف مهاجر غير شرعي، كما فشلت “خطة رواندا” بعد إنفاق نحو 300 مليون جنيه إسترليني، مما أثار الانتقادات لحكومة المحافظين بفقد سيطرتها علي الحدود ووقف تدفقات الهجرة، فيما انتقد آخرون خطة رواندا لانتهاكها القانون الدولي.
وقد تعهد حزب العمال خلال حملته الانتخابية بإلغاء قانون “رواندا”، وبالفعل في الاجتماع الأول لحكومة حزب العمال أعلن ستارمر إلغاء خطة رواندا لترحيل المهاجرين، والبحث عن خيارات بديلة.
وتجدر الاشارة هنا، لتعهد حزب العمال بإنشاء قيادة جديدة لأمن الحدود، والسعي لإبرام اتفاقات أمنية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، كما تعهد بتسريع عمليات الترحيل لبلاد آمنة، واتخاذ تدابير للحد من الهجرة، مثل منع أصحاب العمل الذين ينتهكون قانون العمل من توظيف العمال في الخارج، وإجراء إصلاحات من شأنها تحسين مهارات العمال البريطانيين في القطاعات التي تستخدم فيها الهجرة لمعالجة نقص المهارات، وهو ما يتطلب من الحكومة الجديدة سرعة اتخاذ إجراءات عملية لمواجهة تدفقات الهجرة غير الشرعية تقوم على التعاون الدولي واحترام القانون الانساني الدولي.
الرعاية الصحية:
يشكل ملف الرعاية الصحية تحدي كبير أمام حكومة حزب العمال، حيث تعاني الخدمات الصحية من عجز في الميزانية بنحو 12 مليار جنية استرليني، مما أدي لتحديات أخري مثل ارتفاع تكاليف العلاج، والبنية التحتية، وتزايد أوقات انتظار تلقي العلاج، وكذلك اجور العاملين في القطاع الصحي، كما تعاني هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية التي تقدم الخدمات الصحية المجانية للجميع، من قوائم انتظار طويلة في مختلف المجالات الصحية.
وقد تعهد حزب العمال بخفض قوائم الانتظار بحيث لا ينتظر المرضي أكثر من 18 اسبوعًا للإحالة للحالات الصحية غير العاجلة، وإجراء نحو 40 ألف موعد إضافي كل أسبوع، ومضاعفة عدد أجهزة فحص السرطان، بجانب تدريب آلاف من الأطباء، فضلًا عن التعهد بخطة انقاذ لطب الانسان لتوفير 700 ألف موعد عاجل سنويًا، من بينهم 100 ألف للأطفال، إلا أن هذه التعهدات يشكل تنفيذها تحدي كبير للحكومة نظرًا للحاجة لتوفير اعتمادات مالية كبيرة للوفاء بها، في ظل ضآلة موارد المالية العامة لقضية تمثل أولوية قصوي لأي حكومة.
أزمة شركة تيمز ووتر “Thames Water“:
تعاني صناعة المياه في بريطانيا من أزمة متفاقمة بسبب تسريب مياه الصرف الصحي إلي الأنهار والمياه الساحلية، وسوء الخدمة وارتفاع الفواتير المتوقع أن ترتفع مرة أخري عام 2025، فضلًا عن تراكم الديون التي تحد من قدرة شركات المياه علي إصلاح هذه الأزمات، وتجدر الاشارة هنا، إلي أن شركات المياه في انجلترا تم خصخصتها عام 1989 بهدف تحديث شبكة الصرف الصحي، لكن ذلك لم يتحقق، بل تردت أوضاعها.
وتعد شركة تميز ووتر شركة المياه والصرف الصحي الرئيسية والأكبر في بريطانيا وتخدم نحو 15 مليون فرد، وتعاني هذه الشركة من أزمة كبيرة وسط توقعات بانهيارها في ظل المديونية الكبيرة التي بلغت نحو 14 مليار جنية استرليني “17.5 مليار دولار”، وضعف خدماتها، وتسرب مياه الصرف الصحي، وارتفاع تكلفة الصيانة، ومتطلبات التحديث التي قد تتطلب نحو 130 مليار دولار لتطوير البنية التحتية لها خلال السنوات الخمس المقبلة، ورفض المساهمين ضخ المزيد من الاستثمارات بالشركة، مما قد يسفر عن وقوع ازمات سياسية وبيئية وصحية وكذلك اقتصادية حال انهيارها.
لذا يعد هذا الملف من أبرز الملفات الملحة علي طاولة وزير الأعمال في حكومة حزب العمال، وتشكل تحدي كبير وملح للحكومة الجديدة، وقد كشف تقرير داخلي لحزب العمال تصنيفه لاحتمالية انهيار شركة “تميز ووتر”، كأحد أهم المخاطر التي سيواجهها الحزب فور توليه للسلطة بجانب مشاكل أخري منها، إفلاس المجالس المحلية، واكتظاظ السجون، ونقص التمويل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
وفي هذا الشأن تثار توقعات بشأن احتمالية لجوء حكومة ستارمر لتأميم الشركة، ونقل ملكيتها للدولة بشكل مؤقت، مما يعني شطب نحو 40% من قيمة الديون المستحقة علي الشركة، وهو ما يشكل تحدي كبير وتكلفة باهظة في ظل معاناة الاقتصاد البريطاني من ازمة ديون متفاقمة بالفعل، وتوجه الحزب لتنفيذ قواعد صارمة للإنفاق الحكومي.
أزمة اكتظاظ السجون:
تواجه الحكومة البريطانية أزمة ملحة تتعلق باكتظاظ السجون، والتي تخلق ظروفًا غير آمنة لكل من المحتجزين وموظفي السجون، فوفقًا لوزارة العدل البريطانية، يوشك نظام السجون بلوغ قدرته الاستيعابية القصوى وسيسجل رقمًا قياسيًا غير مسبوق قريبًا، ووفقًا لجمعية محافظي السجون (PGA) بلغت القدرة الاستيعابية لنظام السجون لنحو 99%، محذرة من التداعيات السلبية لهذا الأمر، وخاصة علي نظام العدالة الجنائية بأكمله الذي بات يقترب من الفشل.
لذا يشكل واقع السجون المكتظة وما يصاحبه من ارتفاع العنف بين النزلاء، وعدم خلق بيئة ملائمة لإعادة تأهيلهم، بجانب خلقه لظروف غير أمنه للعاملين به، تحدي ملح لحكومة حزب العمال، وقد تعهد حزب العمال بإصلاح نظام السجون، وبناء المزيد من السجون، إلا أن هذا الأمر سيستغرق سنوات، وحتي مع بناء هذه السجون فإن هذا الأمر يحتاج معه لتوفير الموارد المالية لإعادة تأهيل السجناء بشكل لائق وآمن، والمخصصات المالية لموظفي إدارة السجون، وغيرها.
هذا بجانب وضع خطة للإفراج عن السجناء غير الخطرين الذين يقتربون من إنهاء مدة عقوبتهم، ومطالبة القضاة بسرعة النظر في القضايا واصدر الأحكام، بجانب تقليل الاستخدام غير الضروري للاحتجاز لتخفيف الاكتظاظ الخطر بالسجون، لاسيما مع ارتفاع اعداد المحتجزين في السجون قبل المحاكمة بسبب تراكم القضايا في المحاكم، وإضراب المحامين العام الماضي، حيث سجل عدد المحتجزين رهن الحبس الاحتياطي في السجون البريطانية العام الماضي الأعلى عددًا منذ 50 عامًا، وظل المحتجزين أشهر قبل أن تثبت براءتهم.
أزمة فشل المجالس المحلية:
تعد السلطات المحلية من بين الجهات الأكثر تضررًا من برنامج حكومة المحافظين التقشفي، ونحو ثماني منها أعلن إفلاسه منذ عام 2018، ومنها مجالس بلدية ثوروك وبرمنغهام، حيث تواجه البلدات والمدن البريطانية خطر الإفلاس واحدة تلو الأخرى، في ظل تحول الأزمات المحلية لكارثة على مستوى الوطني، وتصاعد احتمالية مواجهة المجالس المحلية لصعوبات مالية حادة خلال الفترة المقبلة، فوفقاً لـ جمعية الحكم المحلي “Local Government Association ، تجد جميع المجالس نفسها أمام “هوة” بين الطلب المتزايد على الخدمات والإيرادات الحقيقية التي تشهد ركوداً أو تراجعاً ملحوظاً.
لذا تشكل مسألة تمويل المجالس المحلية تحدي أمام حكومة حزب العمال، كما أن فكرة تقديم الدعم المالي الإضافي الكبير من جانب الحكومة المركزية للمجالس المحلية تبدو غير مرجحة، في ظل تعهد الحزب بعدم زيادة ضريبة الدخل، والقيمة المضافة، والتأمين الوطني، ومع ذلك فقد استبعد حزب العمال زيادة ضريبة المجالس، إذ أشارت أنجيلا راينر إلى أن الحزب ليس لديه خطط للقيام بذلك “في الوقت الحالي”، كما يؤكد حزب “العمال” علي تحسين تقديم الخدمات من خلال اعتماد ممارسات توظيف أفضل، وتعزيز قدرة المجالس ودعمها، وإصلاح نظام التدقيق المحلي لضمان حصول دافعي الضرائب على قيمة أفضل مقابل المال.
التعليم ورعاية الطفل:
تعهد حزب العمال خلال العام الأول للحكومة بتعيين 6500 معلم إضافي وتعيين متخصصين في الصحة العقلية بكل مدرسة، وذلك بتمويل من فرض ضريبة القيمة المضافة على رسوم المدارس الخاصة، بجانب تقديم نوادي الإفطار المجانية في كل مدرسة ابتدائية، وإنشاء نحو 3000 دار حضانة إضافية في المدارس الابتدائية، فضلًا عن مراجعة نظام الإجازة للوالدين.
تعزيز الامن القومي وزيادة الانفاق الدفاعي:
كشف البرنامج الانتخابي لحزب العمال عن عزم حكومته لإجراء مراجعة استراتيجية للدفاع خلال عامها الأول، تهدف لتحديد مسار زيادة موازنة الدفاع بنسبة 2.5% من الناتج المحلي الاجمالي، بجانب تشكيل إدارة كاملة لشئون المحاربين القدامى، وتوفير التعليم المجاني للقوات والمحاربين القدامى، وزيادة الاجور الاساسية للقوات، مع التعهد بالحفاظ علي التزامات بريطانيا تجاه حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
السياسات البيئية:
في الوقت الذي يحاول خلاله العالم مكافحة التغيرات المناخية، تراجعت حكومة المحافظين السابقة عن التزاماتها البيئية، فيما تعهد حزب العمال بعكس هذه السياسة والوصول للطاقة النظيفة بحلول عام 2030، بالتعاون مع القطاع الخاص لمضاعفة طاقة الرياح البحرية أربع أضعاف، والطاقة الشمسية ثلاث أضعاف، وذلك من خلال إنشاء شركة طاقة جديدة مملوكة للقطاع العام، وهي شركة “Great British Energy”، وذلك بهدف خفض فواتير الطاقة للأبد وتعزيز أمن الطاقة، وتحقيق استقلال الطاقة وجعل بريطانيا قوة عظمي في مجال الطاقة النظيفة، هذا بجانب خلق نحو 650 ألف فرصة عمل جديدة، كما تعهد بعدم إصدار تراخيص جديدة للنفط والغاز في بحر الشمال، إلا أنه لم يتعهد بإلغاء التراخيص الحالية.
السياسة الخارجية:
تشكل الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك الحرب الاسرائيلية علي قطاع غزة أبزر الملفات التي تشغل الكثيرين بشأن كيفية تعاطي حكومة حزب العمال معها، لكن ليس من المتوقع أن ثمة تغير في توجهات سياسة ستارمر عن سابقه بشأن هاتين القضيتين، وعلي عكس السياسة الداخلية لا يتوقع أن يحدث ستارمر تغيرات جوهرية علي صعيد السياسة الخارجية البريطانية بشكل عام.
ففيما يتعلق بالحرب الاسرائيلية علي قطاع غزة، يتبني ستارمر موقف مطابق لسلفه المحافظ سوناك، حيث تعهد ستارمر بدعم موقف إسرائيل، مع الدعوة لأهمية العودة لمقترحات السلام وإقامة حل الدولتين، وقد أعلن ستارمر أنه يريد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأضاف أن مثل هذه الخطوة يجب أن تأتي في الوقت المناسب في عملية السلام، فيما أشار حزب العمال إلي التزامه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية كمساهمة في عملية السلام المتجددة التي تؤدي إلى حل الدولتين مع إسرائيل إلى جانب دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة.
وفيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، فقد تعهد ستارمر خلال حملته الانتخابية بمواصلة الدعم البريطاني المطلق “السياسي والدبلوماسي والعسكري والمالي” لأوكرانيا، في توجه مطابق لسياسة حكومة حزب المحافظين، كما أعاد تأكيد هذا الأمر خلال الاجتماع الأول لحكومته، وهنا قد تواجه حكومة حزب العمال تحديًا متزايدًا لإقناع الرأي العام بجدوي الدعم البريطاني لأوكرانيا في ظل معاناتهم المالية، وخاصة أن من المقرر أن تقدم بريطانيا مساعدات عسكرية بقيمة 3 مليار جنية استرليني هذا العام لأوكرانيا.
أما علي صعيد العلاقات البريطانية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وكذلك الصين، فقد أشار كير ستارمر إلي أنه سيتعامل مع الرئيس الأمريكي “أيا كان”، وأن العلاقات البريطانية الأمريكية “فوق الأفراد”، وخلال الاجتماع الأول للحكومة أكد ستارمر علي التزامه الكامل بتعهدات بريطانيا تجاه حلف الناتو، كما تم بحث مشاركته في قمة الناتو التي ستعقد في أمريكا خلال الفترة من 9: 11 يوليو الجاري.
وفي السياق نفسه، يهتم ستارمر بتعزيز علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي في شتي المجالات، إلا أنه يستبعد عودة بريطانيا للسوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، أو الاتحاد الجمركي، بينما يشير حزب العمال لإمكانية العمل علي إزالة عدد من الحواجز التجارية مع الاتحاد الأوروبي لمساعدة الشركات الصغيرة، وإبرام اتفاقية أمنية جديدة لتعزيز العلاقات مع الحلفاء الأوروبية الرئيسية وخاصة ألمانيا وفرنسا، كما كشف حزب العمال أنه سيطرح نهجًا استراتيجيًا طويل المدي لإدارة العلاقات مع الصين.
وإجمالًا، يعلق الشارع البريطاني الكثير من الآمال علي أداء حكومة حزب العمال الجديدة، وإصلاحها لمواطن الخلل في سياسات الحكومات السابقة لحزب المحافظين، لاسيما فيما يتعلق بالتغيير في السياسات الاقتصادية، وتحسين الاوضاع المعيشية والرعاية الصحية وتخفيف العبء الضريبي وتحسين الخدمات وقضايا الهجرة، وغيرها، لذا من المتوقع أن نشهد العديد من القرارات والتغيرات في المشهد البريطاني خلال الفترة القادمة في مختلف المجالات، لاسيما مع تقديم البرلمان الذي تسيطر عليه أغلبية حزب العمال، للدعم والمساندة لأجندة الحكومة، وكل ما تطرحه، مما يمكن هذه الحكومة من الحكم بأريحية.
إلا أن تحديات الإرث الثقيل من الأزمات والمشاكل القديمة لاسيما الاقتصادية، يشكل عائق كبير أمام حكومة حزب العمال للوفاء بوعودها الانتخابية الطموحة التي تحتاج لموارد مالية ضخمة لتنفيذها، وهو الأمر الذي إذ تمكنت هذه الحكومة من النجاح فيه، قد يضمن تعزيز شعبية حزب العمال بشكل غير مسبوق، وبقاؤه في السلطة لسنوات مقبلة.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81948/