داليا يسري
عندما ألقى الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، كلمته المصورة في افتتاح المنتدى التاسع لأقاليم بيلاروسيا وروسيا، 2 يوليو، وأورد من ضمن خطبته تصريحه الذي قال فيه، “دفعتنا الضغوط السياسية والعقوبات غير المسبوقة مما يُسمى بالغرب الجماعي إلى تسريع عمليات التوحيد”. بزرت تساؤلات كثيرة تدرس ماهية المقصود من وراء كلمة “الوحدة” بين الدولتين. لا سيما وأن مينسك تلعب بالفعل دور الحليف الوثيق والرجل المخلص لموسكو في غضون هذه الحرب المشتعلة التي قسمت العالم ما بين فِرق، بعضها ضد الحرب، وبعضها يتمسك بموقف الحياد، بينما تظل بيلاروسيا، هي الدولة التي تتمسك بتحالفها الحقيقي مع موسكو رغم الظروف والعقوبات. وعند هذه النقطة، يطرح سؤال نفسه، ما هو نوع التكامل الذي برز الحديث عنه مؤخرًا بين البلدين.
أبرز تصريحات المنتدى
أدلى “بوتين” خطابًا؛ تناول من خلاله الحديث عن فكرة دولة الاتحاد والعلاقات الوطيدة مع بيلاروسيا في أكثر من موضع. كان من أبرزها؛ “إن روسيا وبيلاروسيا لا تحافظان فقط على التقاليد المجيدة للصداقة القوية والمساعدات المتبادلة، بل تعملان عليها أيضًا”. مؤكدًا أنهم تمكنوا بالفعل من تحقيق مستوى مثالي حقًا من الشراكة الاستراتيجية والتحالف، وأن دولة الاتحاد تعد مثالًا حقيقيًا على التكامل المتبادل والمتساوي في المنفعة. وأضاف “بوتين”، إن روسيا وبيلاروسيا تواصلان بناء تعاون مستمر في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والثقافية والإنسانية. علاوة على ذلك، يتم ذلك على أساس مبادئ الاحترام المتبادل ودعم ومراعاة مصالح كل طرف”.
نوه، “بوتين” إلى أنه في نوفمبر الماضي، أعطى مجلس الدولة الأعلى لدولة الاتحاد على التوجيهات الرئيسة لتنفيذ أحكام معاهدة الاتحاد للفترة بين 2021- 2023، بما يشتمل على 28 برنامجًا مصممًا لإعطاء دفعة إضافية جادة لتنمية التكامل الاقتصادي بين روسيا وبيلاروسيا. بحيث يتم بالفعل صياغة برامج نقابية جديدة لفترة الثلاث سنوات القادمة، اعتبارًا من عام 2023. وأشار “بوتين”، إلى أن هدف كل هذه القرارات هو خلق ظروف اقتصادية متساوية في بُلداننا، وتشكيل أساس موثوق به لعمل سوق مالي واحد وسوق للطاقة وفضاء مستقل للنقل وسياسة اقتصادية كلية وتكنولوجية وصناعية وزراعية ورقمية مشتركة.
وبدوره، صرح الرئيس البيلاروسي، “ألكسندر لوكاشينكو”، قائلاً “لقد دفعتنا العقوبات الجنونية والغير قانونية من الغرب إلى تسريع وتيرة القرارات في مجال النقل والخدمات اللوجستية، وإدخال أنظمة الدفع الخاصة بنا والتسوية بالعملات الوطنية”. كما أوضح “لوكاشينكو”، أن برنامج التكامل الاقتصادي يهدف إلى خلق بيئة نوعية جديدة لتداول السلع والخدمات بين البلدين، فضلاً عن تطوير أسواق الصناعة الموحدة. وقال “لوكاشينكو”، “إن تعزيز العلاقات بين دول الاتحاد السوفيتي السابق شرط مهم لاستمرار وجودها”.
مفهوم دولة الاتحاد وأبعادها السياسية
عقب المنتدى، تردد في الأصداء الإعلامية لفظ “الاندماج” بين البلدين. ونقلتها الصحافة إما عن مسؤولون بيلاروس أو مسؤولون روس؛ مثل التصريح الذي أدلى به وزير الأمن البيلاروسي، “ألكسندر فولفوفيتش”، عقب الجلسة الافتتاحية للمنتدى، قائلاً: “إن دولة الاتحاد في بيلاروسيا وروسيا لا تهدد أحدًا ولكنها قادرة على الدفاع عن نفسها”. وتابع، مُشددًا أن “الوضع السياسي اليوم معقد للغاية. الغرب الجماعي يقوم تحت قيادة المنسق الرئيس وهو الولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة تحقيق أهدافه. إنهم، على وجه الخصوص، يريدون خنق جميع دول الاتحاد السوفيتي السابق وخلق توترات حول حدود دولة الاتحاد بوسائل مختلفة”. بشكل يثير الاهتمام حول تفحص معنى كلمة “الاندماج” أو “الوحدة” بين البلدين، لتفحص احتمالات إعلان بيلاروسيا انضمامها إلى روسيا بشكل أو بآخر، في ظل الأحداث المحتدمة الجارية على الساحة الأوراسية.
لذلك، من الجدير بالذكر، أولاً وقبل أي شيء: إن المُخرج الرئيس للمنتدى هو الاتفاق على توقيع نحو 66 اتفاقية تعاون مختلفة بين البلدين. ووفقًا لتصريحات أدلى بها، نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي، “يوري فوروبيوف”، للصحفيين عقب اجتماع للجنة البرلمانية الدولية، بتاريخ 30 يونيو، أن اللجنة ستعمل أيضًا خلال العام المقبل على تكريس الرقابة على تنفيذ الاتفاقيات. ومن الضروري الانتباه أيضًا إلى أن هذا المخرج يتسق مع تصريحات كُلاً من “بوتين” و”لوكاشينكو” في السياق نفسه. إذ إن أحدًا منهم لم يتحدث علانية عن مشروع اندماج سياسي معلن تحت علم دولة واحدة، والحديث بالكامل يدور عن اندماج اقتصادي فقط.
وبالعودة للماضي غير البعيد، يُذكر أن هذا النوع من التعاون والاندماج والوحدة بين البلدين ليس جديدًا. ففي أوائل سبتمبر 2019، وقّع رئيسا وزراء البلدين وثيقة لبرنامج للتكامل الاقتصادي المتبادل، وهو ما اعتبرته بعض وسائل الإعلام بمثابة مشروع يهدف لتوحيد البلدين من خلال نظام فيدرالي، وذلك على الرغم من تصريحات رئاسة الوزراء الروسية وقتها، التي أشارت إلى أن هذه الوثيقة لا تمثل أكثر من مجرد برنامجًا يهدف إلى التقارب الاقتصادي بين البلدين، حيث أكدوا وقتها أنه من السابق لأوانه إعطاء تقديرات لمواقف مستقبلية متوقعة. كما أنه بحلول نوفمبر 2019، تم رسم خريطة طريق لعملية التكامل بين البلدين في مختلف المجالات، بما يشمل إجراء تشريعات موحدة بين البلدين، بدءًا من عام 2020، وإطلاق أسواق النفط والغاز والصناعات الزراعية المشتركة، بالإضافة إلى مشروعات النقل، بدءًا من عام 2021.
وكل هذا ليس جديدًا أو غريبًا على نمط العلاقات المعتاد بين البلدين، اللذين لطالما جمع بينهما منذ لحظة انفصالهما في عام 1991، عدد ليس قليلًا من معاهدات التعاون المختلفة، من ضمنها بروتوكولات تعاون في المجالات العسكرية التقنية، وبروتوكولات تعاون فيما يتعلق بدخول المواطنين الأجانب والأشخاص في 2008، وبروتوكول تعاون بشأن الاعتراف المتبادل بشهادات التعليم والشهادات الأكاديمية في عام 2012، واتفاقية بين حكومة البلدين لبناء محطة نووية روسية في بيلاروسيا في عام 2011. كما وقع الطرفان في ديسمبر 1991 معاهدة أخرى نصت على أن يتبنى الطرفان سياسات خارجية وأمنية ودفاعية واحدة، وأن تكون لهما ميزانية مشتركة، بالإضافة إلى سياسة مالية ائتمانية وضريبية موحدة، وتعريفة جمركية موحدة، ومنظومتان للطاقة واتصالات ومواصلات واحدة.
وإلى جانب كل ذلك، لا يُخفى على عين مُتابع أن بيلاروسيا صارت هي الحليف الأوحد لروسيا في حربها على أوكرانيا، وأنها تُقدم في هذا السياق، بالفعل مساعدات تجعلها جزءًا لا يتجزأ من الحرب. فمن ناحية، نظمت وزارة الدفاع البيلاروسية مناورات عسكرية أثارت قلق الأوروبيين منذ الشهر الماضي.
من ناحية أخرى، أكدت مصادر صحفية أوكرانية، 6 يوليو، نقلاً عن مصادر استخباراتية أنه يوجد هناك وحدات عسكرية تنتمي للجيش البيلاروسي تعمل بنشاط على الجبهة في أوكرانيا. علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال التصريحات التي صدرت عن الرئيس البيلاروسي، “لوكاشينكو”، نفسه والتي تبرهن بشكل لا لبس فيه على انخراط بيلاروسيا في الحرب الجارية في أوكرانيا بشكل مباشر. من ضمنها؛ على سبيل المثال لا الحصر، ذلك الذي أدلى به خلال مقابلة أجراها مع وكالة أسوشيتد برس، 5 مايو، “كيف يمكننا المشاركة في الحرب؟ يجب أن تفهم: نحن حلفاء، أقرب الحلفاء للاتحاد الروسي. لدينا أقرب تحالف عسكري سياسي. لم نخف هذا عن أحد. لدينا في الواقع جيش واحد“.
يقود هذا إلى استنتاج واضح لا غبار عليه، بأن هناك حالة اندماج غير مشهرة موجودة بالفعل على كافة المستويات بين روسيا وبيلاروسيا. وعند هذه النقطة، يطرح السؤال نفسه، لماذا يتحتم على بيلاروسيا وروسيا، الآن أو في المستقبل القريب، إشهار هذه الحالة؟!
الأرجح، أنه لا يوجد في الحقيقة أي حاجة مُلحة للخروج بقرار اندماج كيان بيلاروسيا رسميًا في الكيان الروسي. لأسباب عدة؛ أولها أن ذلك سيتسبب في خروج غضب شعبي بيلاروسي ضد الحكومة. ثانيها وأهمها: يتمثل في سمات شخصية الرئيس البيلاروسي نفسه، والتي تتنافى مع إمكانية قبوله التخلي عن اللقب الشكلي الممنوح له بصفته رئيس جمهورية، حتى لو كان هذا التخلي سيكون لصالح، درعه “بوتين”.
ونستعيد هنا، تصريحات سابقة لـ “لوكاشينكو”، في السياق نفسه، لكن بتاريخ ديسمبر 2018، أي قبل اندلاع احتجاجات 2020 الشهيرة في بيلاروسيا وما بذلته روسيا من دور هائل للإبقاء على الأمور قيد السيطرة لصالح بقاء لوكاشينكو في منصبه. عندما أوضح “لوكاشينكو” خلال لقاء له مع صحفيين روس حقيقة ما يتم تداوله حول مكاسب بلاده من علاقتها مع روسيا، حيث أكد أن سيادة الدولة أمر مقدس، وأنه لن يسمح أبدًا بالمساس بها. وأضاف: “أشعر دائمًا بالتهديد من خطر فقدان السيادة. ومن جانب آخر، أنا الرئيس والسؤال هنا: ما هو دور الرئيس لأجل العمل على الحفاظ على سيادة البلد؟”. وأكد “لوكاشينكو”: “إذا أرادوا تقسيمنا إلى مناطق ودفعونا إلى الانضمام إلى روسيا، فإن هذا الأمر لن يحدث أبدًا. وإذا فكرت القيادة الروسية في تنفيذ هذا الأمر، فأنا أعتقد أن أمرًا كهذا سوف يتم على حساب روسيا”. كما أوضح “لوكاشينكو” أن أمرًا كهذا ليس من الممكن حدوثه، لأن الشعب سوف يتهمه بأنه باع البلاد مقابل الحصول على النفط، وأنه بغض النظر عن مدى قوة روسيا، فهي في الوقت الحاضر غير قادرة على فرض إرادتها على شخص ما، مؤكدًا: “إننا لسنا بحاجة إليها”.
ونخلص من هذا المنطلق أنه من المستبعد في ظل المعطيات الراهنة قيام اندماج من النوع المُتخيل بين الدولتين، لأسباب بسيطة؛ أولها: إن روسيا ليست بحاجة للضم العلني لشيء يقع بالفعل تحت تصرفها الكامل، وثانيها: يتمثل في “لوكاشينكو” الذي لا يكترث لأي شيء بقدر اكتراثه باستمرار احتفاظه بلقب رئيس الجمهورية، حتى لو فقد الحرية في التصرف، حتى لو فقد معظم صلاحياته واستقلاليته كرئيس، حتى لو ترتب على ذلك تعريض الأمن القومي البيلاروسي للخطر، سيظل غير مهتم بأي شيء عدا كونه حامل للقب رئيس جمهورية. لذلك، سيظل هذا الاندماج –في شكله الحالي كاقتصادي وسياسي وعسكري- هو شيء هام للغاية بالنسبة للدولتين من الناحية الرمزية، ومن الناحية العملية، لمواجهة التحالفات الغربية القائمة بالفعل ضد روسيا.
.
رابط المصدر: