بسنت جمال
شهد العالم في الأشهر الأخيرة توترًا متصاعدًا بين روسيا وأوكرانيا بسبب حشد الأولى آلاف العسكريين على مقربة من الحدود الأوكرانية، مما أدى إلى اندلاع أزمة دولية وخلق مخاوف بشأن غزو روسي محتمل للأراضي الأوكرانية. ولا تعتبر مصر بمعزل عن هذه التوترات، فعلى الرغم من تباعد الحدود الجغرافية إلا أنها قد تتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالخلافات القائمة نظرًا لكونها أكبر مستورد للقمح في العالم، وكونها مستوردًا صافيًا للنفط، وتمتلك فائضًا من الغاز الطبيعي الذي يلعب دورًا محوريًا في الأزمة الحالية. وفي هذا الإطار، يتناول التحليل تداعيات التوترات القائمة على الاقتصاد المصري.
تأثيرات اضطراب إمدادات الطاقة
ألقت الأزمة الجيوسياسية بين موسكو وكييف بظلالها على أسعار الطاقة المُرتفعة بالفعل بسبب المخاوف المتزايدة بشأن احتمالية أن يؤدي الغزو المحتمل لأوكرانيا إلى عقوبات من الولايات المتحدة وأوروبا وتعطيل إمدادات الطاقة من ثاني أكبر منتج في العالم، وقد جاء ذلك بالتوازي مع حالة عدم التوازن التي يشهدها الاقتصاد العالمي بين جانبي الطلب والعرض بفعل تخفيف الإجراءات الاحترازية ضد جائحة كورونا، وعودة الحياة إلى طبيعتها مقارنة مع محدودية الإمدادات واضطراب سلاسل التوريد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخام الأمريكي وخام برنت كما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل 1- سعر الخام الأمريكي وخام برنت أسبوعيًا (دولار للبرميل)
يتبين من الشكل السابق ارتفاع سعر الخام الأمريكي خلال الأسبوع المنتهي في الحادي عشر من فبراير الجاري عند 90.61 دولارًا للبرميل، وهو ما يمثل ارتفاعًا على أساس أسبوعي قدره 1.12%، فيما قفز سعر خام برنت بحوالي 3.9% إلى 96.43 دولارًا للبرميل، ويمثل السعران أعلى مستويات النفط المسجلة أسبوعيًا خلال الفترة المذكورة أعلاه. وقد يفرز هذا الارتفاع النتائج الآتية على الاقتصاد المصري:
• اتساع عجز الميزان التجاري النفطي: تعتمد مصر على الخارج في تأمين احتياجاتها من النفط بسبب اتساع الفجوة بين العرض والطلب المحلي، وذلك على الرغم من الاكتشافات البترولية المتتالية، ولذا فهي تعد مستوردًا صافيًا للنفط، ويُبين الشكل الآتي الفارق بين إنتاج واستهلاك النفط خلال عقدٍ زمني:
الشكل 2- فجوة إنتاج واستهلاك النفط (ألف برميل يوميًا)
يتبين من الشكل السابق وجود فجوة مستمرة في استهلاك النفط بلغت في عام 2020 نحو 43 ألف برميل يوميًا، مقارنة مع حوالي 24 ألف برميل يوميًا خلال عام 2010، بنسبة ارتفاع تبلغ 79.1% خلال عشرة أعوام، وذلك بسبب انخفاض حجم الاستهلاك بوتيرة أقل من تراجع حجم الإنتاج. وبناء على ذلك، يعاني الميزان النفطي المصري من حالة عجز يُمكن عرضها تاليًا:
الشكل 3- الصادرات والواردات البترولية (مليار دولار)
يُظهر الشكل (3) أن قيمة الواردات البترولية تتجاوز الصادرات البترولية بفارق بلغ حوالي 6.7 ملايين دولار بانتهاء العام المالي 2020/2021، وذلك مقارنة مع فائض الميزان البترولي البالغ قيمته نحو 2.87 مليار دولار خلال العام المالي 2010/2011.
وانطلاقًا من وجود فجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي من النفط ومن اعتماد الدولة المصرية على الواردات النفطية، فمن الممكن أن يتسع عجز الميزان التجاري النفطي خلال الفترة المقبلة متأثرًا بارتفاع أسعار النفط بما قد يؤدي يؤثر على الاحتياطي النقدي المصري، ويضغط على قيمة الجنيه مقابل الدولار.
• الضغط على الموازنة: خصصت الدولة المصرية دعمًا للمواد البترولية بقيمة 18.41 مليار جنيه بموازنة العام المالي 2021-2022 مقابل 28.1 مليار جنيه للعام السابق، وقد حددت الموازنة أن دعم البترول تم احتسابه على أساس متوسط سعر للبرميل يبلغ 62 دولارًا. ومن شأن كل زيادة بقيمة دولار واحد في سعر برميل النفط عن السعر المحدد بالموازنة أن تؤدي إلى تغير في حجم الدعم المخصص لذلك البند بحوالي 3-4 مليارات جنيه.
وبناء على ذلك، إذا ارتفعت أسعار خام برنت إلى حوالي 100 دولار للبرميل كما تُشير التوقعات العالمية، فإن ذلك سيضيف أعباء جديدة على الموازنة تتراوح قيمتها بين 114 مليار جنيه إلى 152 مليار جنيه (فارق السعر بين 100 دولار للبرميل المتوقعة، و62 دولارًا للبرميل المُحددة بالموازنة يُساوي 38 دولارًا للبرميل، بعد ضربها في 3-4 مليارات جنيه، يصبح الناتج 114-152 مليار جنيه). ونتيجة لذلك، من المُمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى الضغط على مستويات الإنفاق على هذا البند، وبالتالي ارتفاع العجز النقدي للموازنة ككل.
• ارتفاع عائدات قناة السويس: سجلت قناة السويس أداءً مميزًا خلال العام الماضي، حيث حققت أعلى إيراد سنوي في تاريخها، وأكبر حمولات صافية. وارتفعت رسوم المرور من قناة السويس خلال الربع الرابع من العام المالي 2020-2021 لتسجل 1.56 مليار دولار مقارنة مع 1.45 مليار دولار خلال الربع السابق، ومقابل 1.34 مليار دولار تم تسجيلها خلال الربع الرابع من العام المالي 2019-2020. وهو ما يتبين من الشكل أدناه:
الشكل 4- رسوم المرور من قناة السويس (مليار دولار)
وترجع قوة نشاط قناة السويس خلال العام الماضي جزئيًا إلى ارتفاع أسعار النفط التي تُساهم في تعزيز الميزة التنافسية للقناة، ودفع السفن إلى الابتعاد عن الطرق الأطول مسافة والأكثر تكلفة واستهلاكًا للوقود مثل “رأس الرجاء الصالح”. وعليه، فإن المزيد من ارتفاع أسعار النفط سيصبّ بشكل غير مباشر في زيادة إيرادات قناة السويس، وتعويض الفقد في الاحتياطي النقدي الذي قد يتأثر بزيادة فاتورة استيراد الوقود كما ذكرنا سلفًا.
• تعزيز موقع مصر كمركز إقليمي للطاقة: تُعتبر تلك النتيجة من التداعيات الإيجابية للأزمة المشتعلة حاليًا، حيث برزت مصر كشريك استراتيجي للقارة الأوروبية يُمكن الاعتماد عليه، لا سيما في ظل بدء القاهرة مفاوضات مع الدول الأوروبية لبيع الفائض عن الاحتياطي الاستراتيجي من الكهرباء، الذي يُقدر بنحو 25% من إجمالي الإنتاج المصري. وفي هذا الصدد، وقعت الدولة اتفاقيتين متتابعتين في أكتوبر الماضي للربط الكهربائي؛ الأولى مع اليونان، والثانية مع قبرص، كجزء من مشروع “يورو أفريكا” الذي يربط بين شبكات الكهرباء في مصر والدولتين الأوربيتين، وتبلغ استثماراته 4 مليارات دولار، لتنطلق منه كهرباء بقدرة 2000 ميجاوات لأوروبا، ويمكن زيادتها إلى 3000 ميجاوات، كما تبين الخريطة الآتية:
ارتدادات أزمة الغذاء
تُعد كل من روسيا وأوكرانيا ورومانيا من أكبر الدول المُصدرة للحبوب وخاصة القمح لجميع دول العالم، ومن بينها مصر عبر موانئ البحر الأسود التي قد تعاني من اضطرابات وانقطاع في سلاسل التوريد نتيجة لأية أعمال عسكرية أو عقوبات اقتصادية، مما سيضر الاقتصاد المحلي من خلال تراجع إمدادات السلع الغذائية أو ارتفاع أسعارها، بما يزعزع الأمن الغذائي داخليًا، ويُمكن حصر التأثيرات السلبية لأزمة الغذاء العالمية على الاقتصاد المصري في النقاط الآتية:
• رفع فاتورة استيراد الغذاء: تعتمد مصر على الواردات الروسية والأوكرانية على وجه التحديد في تأمين احتياجاتها الغذائية، ولا سيما القمح بضغطٍ من الفجوة المتسعة بين الطلب والإنتاج المحلي، حيث تبلغ نسبة واردات المواد الغذائية من إجمالي الواردات السلعية نحو 20.7%، وفقًا لتقديرات البنك الدولي. ولهذا، قد يؤدي ارتفاع أسعار الغذاء إلى اتساع عجز الميزان التجاري غير البترولي البالغ 42.1 مليار دولار خلال العام المالي الماضي، ومن شأن زيادة فاتورة الاستيراد أن تثقل كاهل الاحتياطي النقدي المصري.
• ضياع مستهدف خفض عجز الموازنة العامة: حدد مشروع موازنة العام المالي 2021/2022 سعر القمح المخطط استيراده بقيمة تبلغ 255 دولار للطن، مقارنة مع 193.8 دولارًا للطن خلال العام المالي السابق 2020/2021، بزيادة بلغت 61.2 دولارًا، كما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل 5- تقديرات أسعار القمح العالمية بالموازنة العامة
ومن المتوقع أن تترجم الزيادة في سعر القمح الفعلي مقارنة بسعره التقديري بمشروع الموازنة إلى زيادة العجز المالي خلال العام الجاري، وصعوبة تحقيق هدف خفض العجز الكلي إلى 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي خلال تلك الفترة، حيث تستهدف الدولة شراء نحو 8.61 ملايين طن من القمح، منها 5.11 ملايين طن عن طريق الاستيراد.
• ارتفاع معدلات التضخم: يمثل بند الأغذية والمشروبات نحو 35.87% من مؤشر أسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية. ولذا، من المرجح أن يؤثر ارتفاع أسعار السلع الغذائية عالميًا على مستوى الأسعار محليًا انطلاقًا من مبدأ “التضخم المستورد” الذي ينشأ بسبب اعتماد الدولة على السلع والخدمات المستوردة من الخارج. ويوضح الشكل الآتي تطور مؤشر الأغذية والمشروبات خلال العام المنصرم:
الشكل 6- مؤشر الطعام والشراب شهريًا خلال 2021
ويتبين من الشكل السابق ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمشروبات بنحو 11.15% خلال اثني عشر شهرًا من 97.7 نقطة في يناير مسجلة 108.6 نقطة بحلول شهر ديسمبر.
وأخيرًا، حاولت الحكومة المصرية التغلب على أزمة ارتفاع الأسعار العالمية التي لاحت في الأفق قبل نشوب التوترات الجيوسياسية الحالية عبر تنويع مصادر توفير المنتج من خلال فتح مناشئ جديدة، وتشجيع المزارعين على زيادة المساحات والتوريد عبر الإعلان عن سعر البيع قبل الزراعة، كما أجرت محادثات مع بنك “سيتي جروب” للتوصل إلى اتفاق بشأن التحوط من زيادات أسعار القمح العالمية، كما ساهمت المشروعات الزراعية القومية كالدلتا الجديدة، ومشروع الصوامع في امتلاك مصر مخزونًا من القمح يكفي لمدة خمس أشهر مقبلة.
وتلخيصًا لما سبق، تشترك أزمتا الطاقة والغذاء الناتجتان عن أحداث سياسية بالأساس في التأثير على الاقتصاد المصري عبر قناتين؛ زيادة عجز الميزان التجاري وعجز الموازنة العامة للدولة، في حين تنفرد المشكلة الأولى بنتيجتين إيجابيتين، هما: تعظيم خطة مصر كمركز إقليمي للطاقة، وتعزيز موقع قناة السويس.
.
رابط المصدر: