كشفت تصريحات مرشحة الرئاسة الأمريكية المقبلة عن الحزب الديمقراطي كامالا هاريس (ذات الأصول الإفريقية) في النصف الثاني من أغسطس الجاري عن انطلاقها عقيديًّا من كونها بروتستانتية مخلصة (خلافًا لترامب)، وما حظيت به من دعم حركة مؤثرة في السباق الانتخابي الجاري تحت شعار “بروتستانتيون من أجل هاريس” (جمعت هذه الحركة حتى نهاية أغسطس الجاري تعهدات أكثر من 200 ألف ناخب لتأييد هاريس، ودشَّنت حملة إعلامية مناهضة لمنافسها الرئيس السابق دونالد ترامب، من ضمنها بثّ إعلانات تصفه “بالنبي الكاذب”)، عن عمق تأثير البُعد الديني- الأيديولوجي في الانتخابات الأمريكية، وما يترتب عليها من سياسات خارجية تمسّ صميم التحولات المختلفة في قارة إفريقيا، وتوقعات بعودة الاهتمام الأمريكي بها لمستويات قياسية حال وصول هاريس، مقابل تخوُّف “إفريقي” مفهوم من وصول منافسها ترامب؛ بسبب ما عُرف عنه من إهانة واحتقار للنُّخب والقيادات الإفريقية دون استثناء.
ومن نافلة القول: إن هذا البُعد متأصل في تكوين النخبة الإفرأمريكية ومواقفها تجاه القارة الإفريقية، بل وقاد في مرحلة من أهم مراحل هذا التكوين في عشرينيات القرن الماضي إلى ظهور حركة صهيونية سوداء تماهت مع أفكار المشروع الصهيوني في فلسطين وارتباطاته الواضحة بالمقاربة الأمريكية الاستعمارية تجاه هذا المشروع وتحولاته حتى بعد قيام “الدولة اليهودية” على أنقاض أجزاء من فلسطين في العام 1948م، وربما تجلَّت آثاره في الموقف الحالي من الإبادة الصهيونية في غزة والمستمرة منذ نحو عام كامل.
يهود هارلم السود: هوية مستعارة؟
كتَب هوارد بروتز Howard Brotz مُؤلَّفًا مثيرًا للجدل في العام 1964م بعنوان “يهود هارلم السود: القومية الزنجية ومأزق القيادة الزنجية”([1])؛ تناول الكتاب بالأساس جماعة دينية نسب أفرادها من الزنوج/ السود أنفسهم إلى “اليهود” فيما لم ينكروا انتماءهم الإثني أو العرقي لجماعة الزنوج (في مدينة نيويورك)، وكرَّسوا فكرة أنهم نتاج كلٍّ من العالم اليهودي والعالم الزنجي معًا.
وقدَّم البحث مقاربة تمزج بين التاريخي والديني دون وضع خطوط واضحة، بمعنى استناده للديني الموروث في صياغة الأفكار والتفسيرات التاريخية كأساس لواقع راهن حسب رؤية بروتز. واتضح ذلك في القسم الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان “عالم حراس التعاليم”، كان من أبرز محاوره تناول أنثروبولوجيا “اليهود السود”، وفكرة بيت إسرائيل كوعاء جامع لليهود من قديم الأزل.
أما القسم الثالث فقد جاء بعنوان اليهود السود وإخوتهم Fairer Brethren، وقام على فكرة رئيسة، وهي الإسهاب في طرح أسس اعتقاد الزنوج اليهود بأن جذورهم تعود إلى شعب (بني) إسرائيل، وعَبر تبنّي ممارسات ومعتقدات مَن عُرفوا بالعبرانيين الإثيوبيين في نيويورك وما حولها، وما وجده هؤلاء (على قلة أعدادهم في واقع الأمر) من ترحيب مِن قِبَل منظمات يهودية في مدينتي نيويورك وشيكاغو على وجه الخصوص.
وبدأ القسم الرابع في تناول الغرض الأساسي من طرح الكتاب وهو ارتباط “اليهود السود” بفكرة القيادة الزنجية من زاوية التنوع والانشقاق داخل هذه القيادة؛ وطرح ذلك في سرد حركة الاحتجاج ضد عدم المساواة القانونية (ضد السود)، ثم جهود “اليهود السود” لدعم الجماعة الزنجية في الولايات المتحدة بالتركيز على بوكر ت. واشنطن Booker T. Washington ثم ماركوس غارفي باعتبار الأخير الفاعل الأبرز في صعود القومية السياسية السوداء في فترة ما بين الحربين العالميتين، وعلاقة هذا الصعود بكلٍّ من الحركة الشيوعية الأمريكية والمسلمين السود (الذين تبنّى المؤلف نحوهم موقفًا عنصريًّا واضحًا على خلفية تباينهم الديني والثقافي مع اليهود في نواحي مختلفة، منها الاندماج أو عدم الاندماج في المجتمع الأمريكي). واختتم الكتاب، الذي يقع إجمالًا في نحو 150 صفحة، بقسم خامس عن القومية الزنجية وحل المشكلة الزنجية.
ثقافة السود وصهيون الأسود!
دراسة مهمة قدّمتها إيفون تشيرو Yvonne Chireau في مُؤلَّف جماعي أصدرته جامعة أوكسفورد (2000م) بعنوان “صهيون الأسود: اقترابات أفروأمريكية دينية مع اليهودية”([2])، وشاركت في تحريره تشيرو؛ وتبرز الاقترابات الدينية للأفرو-أمريكيين نحو اليهودية في الفترة 1790-1930م، مع ملاحظة أولية وهي أن الأفروأمريكيين القادمين إلى الولايات المتحدة (في هجرة قسرية ضمن نظام العمل الإجباري والاستعبادي) لم يكن يجمع بينهم إرث روحي واحد أو متجانس فيما تمتع اليهود القادمون في الفترة الزمنية نفسها تقريبًا للولايات المتحدة بتجانس روحي كامل.
ومن هنا، فإن المسيحية كانت من أهم عوامل ترابط الأفارقة القادمين للعالم الجديد، أو ما وصفه إ. فرانكلين فريزر E. F. Frazier في كتابه “الكنيسة الزنجية في أميركا”([3]) بأن المسيحية وفَّرت “أساسًا (جديدًا) للتماسك الاجتماعي” للأفارقة الذي تم استرقاقهم (لا سيما خلال فترة الإحياء البروتستانتي في أمريكا في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر).
ولاحظت تشيرو أنه ثمة أمرين متكررين بخصوص تنوع الاقترابات الدينية بين الأفروأمريكيين واليهودية وهما -حسب خلاصتها التي تلتقي مع الكثير من الأدبيات الإفريقية المعنية وتفسيراتها منذ القرن السادس عشر على أقل تقدير- أوجه الشبه في تجارب السود واليهود بما في ذلك التاريخ المشترك بينهما من الشتات، والرق، والاضطهاد والتحرر، أما الأمر الثاني فيتعلق بالتصور الذاتي self-delineation للسود على أنهم يهود إما بحكم الإرث الثقافي المزدوج أو عبر مناسبة الصفات اليهودية المميزة (للأفروأمريكيين)، والتي تبرز أهمية اليهودية كمصدر مهم للهوية الأمريكية السوداء. وقد يسَّر العامل الأول (تشابه التجربة التاريخية بين السود واليهود) من عملية استيعاب اليهودية داخل الاعتقاد الديني للسود بما في ذلك تبنّي لغة النصوص العبرية ورموزها، والأشكال المميزة للطقوس داخل الممارسات الإفريقية اليهودية، وهي الظواهر التي تجلَّت بقوة في الممارسة اليهودية الإفريقية في هارلم في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ويمكن تلمسها في نشاط الحاخام الإفريقي الأبرز في تاريخ “هارلم”، وهو وينتورث آرثر ماثيو Wentworth Arthur Matthew (1892-1973م) المعروف بأنه مؤسس أبرشية حراس تعاليم الرب الحي Commandment Keepers of the Living God للعبرانيين السود في هارلم بنيويورك (1919م)، وبتأثير من أفكار الأفريقانية والقومية السوداء التي أرساها الجامايكي البارز ماركوس غارفي([4]).
الحاخام ماثيو وحراس تعاليم الرب الحي: تحديات الوعي الطبقي؟
قدَّم هوارد م. بروتز دراسة مهمة عن “اليهود” الزنوج في الولايات المتحدة (1952م)([5]) خصَّص فيها جانبًا عن الحاخام ماثيو ودوره في تطوير الصهيونية السوداء. وقد قدم ماثيو إلى مدينة نيويورك في العام 1913م من جزر الهند الغربية (حيث وُلِدَ) خلال بدء موجة هجرة واسعة النطاق للزنوج المفلسين من جنوب الولايات المتحدة ومن جزر الهند الغربية إلى الشمال. وكانت هذه الهجرة والتوسع العمراني الكبير الذي أحدثته إلى جانب نمط العلاقات العرقية في الشمال المختلف نسبيًّا عن نظيره في الجنوب قد أحدث تأثيرًا في “وعي الزنوج”، وجعلهم أكثر انتقادًا لوضعهم الاجتماعي. وبالتزامن مع هذه التحولات العمرانية والاجتماعية المهمة كانت هناك أصوات “زنجية” ترتفع تدريجيًّا للدفاع عن حقوق السود، وكان في مقدمتها ماركوس غارفي وآرثر ماثيو اللَّذين أكدا على تميز السود وتفرُّدهم عبر رموز معينة (مثل: تمجيد اللون الأسود ورموز السواد، ودفاع غارفي المستميت عن فكرة “الصهيونية السوداء” في أوساط الطبقات السوداء الدنيا (فيما واجهت الفكرة اعتراضات لافتة وسط النخب السوداء التي بدأت تُرسّخ أوضاعها في المجتمع الأمريكي).
ولاقت فكرة الصهيونية السوداء قبولًا لدى آرثر ماثيو، وعزَّز هذا القبول تجربته خلال بدء وجوده في نيويورك؛ حيث كان يعمل بالقرب من أحد المعابد اليهودية في حي هارلم؛ حيث كان مكتظًّا وقتها بالسكان السود (خلال العقد الثاني من القرن العشرين)، وتأثر بأنشطة اليهود المختلفة.
وإلى جانب قناعته بأفكار غارفي -ولا سيما الصهيونية السوداء، والتي تشجّع على تعزيز العودة الإفريقية للوطن الأم “إفريقيا” على غرار عودة اليهود لفلسطين- فإنه تأثر كثيرًا بأرنولد فورد، وهو من أصول إفريقية جاء من جزر الهند الغربية، والذي أكَّد على فكرة أن “من يدعون بالزنوج هم في الحقيقة أبناء بيت إسرائيل”، وحاول دون كلل إقناع أنصار غارفي باتخاذ اليهودية دينًا لهم. وكان ممن اقتنعوا بفكرته آرثر ماثيو الذي بات مقتنعًا تمام الاقتناع بأنه من أصول عبرية، ونظم الأبرشية الشهيرة بداية من ثمانية أفراد فقط. ولتعزيز هذا التوجُّه بدأ ماثيو في تلقي دروس في العبرية على يد أحد المهاجرين اليهود والذي عرَّفه بنفسه على أنه يهودي أسود.
وتعلَّم ماثيو تفاصيل عن الطقوس اليهودية الأرثوذوكسية للمرة الأولى، بما فيها أسماء المؤسسات الدينية اليهودية، كما تعلَّم قدرًا من مفردات اللغة اليديشية. وأطلق ماثيو على نفسه لقب حاخام، ثم قام بشراء مواد للطقوس اليهودية، واستأجر بضعة غُرَف في شارع 135؛ حيث أقام معبدًا و”كلية حاخامية”. واجتذب المعبد في البداية عددًا من السود ولا سيما النساء متوسطات الأعمار.
وتبدو من تجربة ماثيو منذ بدايتها أنها ارتبطت بشكل غير مباشر بوعي طبقي واضح، وحاولت توظيف الميثولوجيا ومظاهرها كمظلة أكثر قبولًا لتحولات الوعي الطبقي وسط السود، ولو عن طريق اختراع هوية إثنية-دينية استنادًا لأقوال مرسلة، ومصادفات واضحة، في خضم اضطراب عمراني وطبقي كبيرين في الولايات المتحدة في الربع الأول من القرن الماضي.
خلاصة:
تبدو ملامح الصهيونية السوداء (كعملية تاريخية نمت في أحضان تحولات اجتماعية حادة في الولايات المتحدة مطلع القرن الماضي) ذات قدر بالغ من الاصطناع والتوفيق غير السليم لشواهد دينية وتاريخية متفرقة، وإن كانت الأدبيات المتعلقة بها تحاول طرح سرديات مغايرة، تَطرح بدَوْرها حاجة مُلحَّة لقراءات متعدّدة المستويات، وجهود متخصصة في نقد هذه السرديات بشكل سليم.
وتبدو السياسة الأمريكية اليوم تجاه الإبادة الجارية في غزة بفلسطين (والتفهُّم المُطلَق لمواصلة قوات الاحتلال الصهيونية قتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين بدم بارد)، متَّسقة بشكل كبير مع مبادئ الولايات المتحدة التاريخية تجاه المنطقة، ومن بينها أفكار قطاعات من النُّخبة السوداء وما تقوده من فئات متوسطة أو دنيا. وهي مسألة مهمة في ضوء احتمالات فوز كامالا هاريس بقيادة الإدارة الأمريكية في الفترة (2025-2029م)، وما قد يُمثّله من تجسيد (او اختبار) لرؤية نخبوية سوداء (ولو بمستويات منخفضة أو ثانوية) تجاه فلسطين وما تبقَّى من قضيتها.
المصدر : https://qiraatafrican.com/22483/