أزمة الدولة الوطنية ومأزق الديمقراطية في تجارب ما بعد الحراك: الدول المغاربية أنموذجا

ملخص :

شكل الفضاء المغاربي بؤرة الاهتمام الدولي والإقليمي مع بداية العشرية الثانية من هذا القرن، وذلك لاحتضانه الشرارة الأولى لحراك من نوع استثنائي، كانت لتداعياته نتائج عميقة على المنطقة، وإن بدرجات متفاوتة، ساهمت في تأسيس معادلات جديدة في صراع القوة والنفوذ على السلطة. ويمكن أن نزعم أن أكبر متأثر بهذا الحراك كان مفهوم الدولة، كما عرفته المنطقة عقودا من الزمن، نظرا إلى الاهتزاز الكبير الذي تعرض له، وكشف بصفة ملموسة مجموع الاختلالات التي رافقت إرساء الدولة الوطنية في هذه البلدان، كما مكن من رصد الطلب المجتمعي على أنموذج الدولة الوطنية ومفارقاته.

أفرزت الحقبة الاستعمارية تقسيما للمنطقة وفق حدود مختلقة شكلت بذورا لخلافات بين دولها. كما أن حقبة الحرب الباردة جعلت منها ساحة حرب بالوكالة بين نظامين وأيديولوجيتين مختلفتين، حاولت كل منهما دعم أنظمة سياسية موالية لها.

لم يكن سقوط جدار برلين ليمر من دون أن يترك أثره العميق في المنطقة، ليتضافر مع الأثر الذي خلفه تفكك النظام الإقليمي العربي بسبب أزمة الخليج الثانية. وعلى الرغم من التحولات التي عرفها المحيط الإقليمي والدولي، فإن أنظمة الحكم في البلدان المغاربية نجحت في الاستمرار في ظل نوع من الشرعيات المصطنعة، كانت سببا في خلق أجواء من الاحتقان مع ارتفاع مؤشرات فساد النخب الحاكمة، وتعاظم المشكلات الاجتماعية التي زاد من تفاقمها اندلاع الأزمة المالية العالمية، لتفضي إلى نزول غير متوقع للشباب، خصوصا إلى الشارع واحتلاله، لرفع مطالب اختلف سقفها من بلد إلى آخر، وأدت الثورة الإعلامية وتكنولوجيا التواصل الحديثة الدور الأكبر في إذكاء جذوته.

لا تقتصر الاختلالات التي رافقت إرساء الدولة الوطنية على أرقى ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في مجال الحكم على البلدان المغاربية وحدها، بل تكاد تكون القاسم المشترك بين الدول العربية كلها. وإن نحن قصرنا دراستنا هذه على البلاد المغاربية، فذلك لاعتبارين: أولا، كون أحد هذه البلدان هو بداية الحراك الذي تنوعت درجات تأثر هذه البلدان به، واختلفت تداعياته من بلد إلى آخر. وثانيا، تميز البلدان المغاربية من مثيلاتها المشرقية بنوع من الوحدة الدينية والمذهبية التي تحد من التجاذب بين الأديان المختلفة وأنواع المذاهب والطوائف.

مع ذلك، فبصعود نجم تنظيمات الإسلام السياسي كنتيجة من النتائج اللافتة في حراك،2011 على اعتبار أن هذه القوى لم تكن فاعلة في الحراك ولا داعمة له في معظم البلدان، تولدت حالة استقطاب حادة في المجتمع بين مشروع نظام للحكم يقوم على نوع من الفهم والتأويل للإسلام، وآخر يقوم على مطلب الدولة المدنية لقوى سياسية ومجتمعية أخرى، ليدخل كل بلد في دوامة توافقات داخلية لم تكن بمعزل عن تأثيرات خارجية، تباينت نتائجها من حالة إلى أخرى، وإن ظل المشترك بينها هو السعي إلى الديمقراطية، لكن مع تباين صارخ لتمثل كل منها لدولة ما بعد الحراك، المحققة لهذه التطلعات.

من هذا المنطلق، شكلت الديمقراطية صلب المطالب التي عبر عنها؛ لتفضي إلى أصناف عدة من النتائج في المنطقة المغاربية: صنف رتب تغييرا في النظام السياسي، وطبيعة الدولة، وهو ما تعبر عنه التجربتان التونسية والليبية، وصنف أدار ظهره له وتقوقع دونه، كما في حالة الجزائر، فيما لم يبلغ صنف آخر درجة تغيير النظام السياسي، لكنه خلخل التجربة القائمة، كما كانت الحال في الأساس في التجربة المغاربية، وصنف أخير تناثرت رياح الحراك على حدوده وانطفأت، وتمثله التجربة الموريتانية.

إن تباين تجارب ما بعد الحراك في المنطقة المغاربية بين الاحتواء (الحالة المغاربية) والتقوقع (الحالة الجزائرية) والتكييف (الحالة التونسية) والانفجار (الحالة الليبية) واللامبالاة (الحالة الموريتانية،) يتصل على نحو وثيق بنوع العرض السياسي المتوافر في كل بلد، وطبيعة العقد الاجتماعي القائم، والأسس التي قام عليها والحيثيات التي أحاطت به. وإذا أضفنا إلى ذلك الدور الذي أصبح لتنظيمات الإسلام السياسي في المشهد السياسي لكل بلد، تطفو على السطح أسئلة ندعي أنها لازمت بناء الدولة في المنطقة المغاربية منذ الاستقلال، واختلفت حدتها من قطر إلى آخر، لكنها في محصلة الأمر شكلت مصدر قلق وتوتر في مسار بناء الدولة الوطنية، ومعرق ًلا للانتقال نحو الديمقراطية، بفعل «تأثير ثقل التراث في الهياكل السياسية والتطور الوطني المعاصر»[1] في البلدان المغاربية. ونلخص هذه الأسئلة في ثلاثة محاور: سؤال العلاقة القلقة للدين بالدولة، وما يرتبه من تساؤل حول مدى انسجام الديمقراطية كأحد شروط الدولة المدنية، ومطلب الدولة بمرجعية إسلامية، ثم سؤال دور الجيش في الحياة السياسية، وأخيرا سؤال القدرة على التكيف مع المعطيات الدولية المتموجة في ظل التحولات التي عرفها النظام الدولي طوال العقود الأخيرة.

[1]– محمد عبد الباقي، الهرماسي. المجتمع والدولة في المغرب العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، محور المجتمع والدولة، ط 3، مـركـز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص 19.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M