د. محمد مسلم الحسيني
ماهي اسباب عجز الحكومات المتعاقبة بعد التغيير في حل مشكلة السكن؟
وماهي الرؤية الاستراتيجية والقانونية لحل ازمة السكن؟
أزمة السكن في العراق هي أزمة قديمة حديثة لكنها تفاقمت وتضاعفت مؤخراً بشكل ملفت للنظر حتى أصبحت واحدة من أهم أزمات العراقيين المعيشية. دواعي هذه الازمة كثيرة ومتعددة ولا تقتصر على عامل واحد وهذا ما يجعل أساليب علاجها متعددة أيضا حيث لا يوجد حل سحري واحد يمحي باقي الدواعي والآثار.
إيجازا يمكن التنظير في اهم أسباب هذه الأزمة بالنقاط التالية كي يتم بحث معالجتها لأن الأمور تعالج بأسبابها:
اولا/ التضخم السكاني:
ازداد عدد سكان العراق وتضاعف خلال العقود الستة الأخيرة على نحو مطرد وبصيغة المتوالية العددية الهندسية مبتدئا بسبعة ملايين نسمة وعابرا لأكثر من اربعين مليون نسمة. هذا التزايد السكاني الملحوظ لم يقترن به تزايدا بزخم موازي في البنية التحتية والسكنية المطلوبة التي تواكب الحاجة والغرض. أسباب هذا التخلف كثيرة ومعقدة كتعقيد الحالة السياسية وارهاصاتها التي مرت بالعراق منذ بداية تلك الفترة حتى يومنا هذا.
ثانيا/ التغيرات الحاصلة في طبيعة المجتمع:
تتغير طباع الشعوب بتغير الزمن ومستجدات المدنية، حيث كانت الأسر العراقية تجتمع في بيت واحد ويتزاوج الأبناء في بيوت الآباء وتكتفي العائلة بغرفة واحدة تلمها في كثير من الأحيان. تبدلت الصورة اليوم حيث تصبو العائلة الواحدة لوحدة سكنية خاصة بها لا يشاركها فيها أحد. كانت الدور السكنية بسيطة غير مكلفة بينما اليوم تبنى المساكن بمواصفات جديدة تواكب حركات الحضارة والمدنية في العالم وتكون مكلفة نسبياً.
كما أن نزوح السكان بشكل ملحوظ من القرى والأرياف إلى مراكز المدن لعب دورا هاما بازدحامها وتوسعها أيضا. في حين لعب ارتفاع حالات الانفصال والطلاق بين الأزواج في زمننا الحالي دورا في رفع الحاجة إلى وحدات سكنية مستقلة ومنفصلة. كل هذه المتغيرات زادت من شدة الحاجة ومن متطلباتها.
ثالثاً / اختلال التوازن بين العرض والطلب العقاري:
نتيجة للتضخم السكاني المقرون بتغير حالة المجتمع وسوء التعامل المركزي مع متطلبات الحالة واحتياجاتها، بدأت أزمات السكن في العراق تلوح براياتها في الافق. ازداد الطلب على الوحدات السكنية بمعدل 50 إلى 100 ألف وحدة سكنية سنوياً وبتوالي السنين تراكمت الحاجة للوحدات السكنية حتى وصلت إلى الملايين من هذه الوحدات، حيث لم تعالج هذه الحاجات السكنية كما ينبغي منذ يوم بروزها. عدم التوافق بين العرض والطلب واختلال الموازنة فيه أدى إلى إرتفاع في أسعار العقارات بشكل لافت للنظر حتى فاقت اسعار العقارات في بعض الأماكن في العراق أسعار العقارات في المدن والعواصم الأوربية!.
رابعاً/ غياب التخطيط وفساد الإدارة:
كما غاب التخطيط وفسد التعامل في شؤون البلاد العامة الاخرى فقد غاب التخطيط السكني في العراق وفسدت إدارته أيضا! توقفت وتعطلت الكثير من المشاريع السكنية المقررة وانتشرت مشاريع البناء الوهمية في البلاد وبرزت ظاهرة تبييض الاموال وضعفت سلطة الدولة وتفاقمت بيروقراطية الإجراءات وابتزت الأحزاب المستثمرين في قطاع العقارات منذ بداية زمن التغيير في العراق وحتى هذه الساعة.
غاب التخطيط الحكومي الجدي والناجز عن هذا القطاع الهام والأساسي في حياة العراقيين مما أدى هذا إلى تفاقم أزمة السكن والى بروز التجاوزات والأبنية العشوائية من جهة وتشويه الأحياء السكنية وفقدان جمالها ورونقها بسبب تقسيم الأراضي إلى وحدات سكنية صغيرة وضيقة وزوال مساحات خضراء مطلوبة في التخطيط السكني للأحياء والمدن من جهة أخرى.
هذه الاخطاء والتغيرات زادت من تسليط الضغوط على البنية التحتية المتعبة أصلا وفاقمت المشكلات المناطة بها وصعبت طرق معالجتها.
خامساً/ خلل في الإستثمار العقاري:
لم تتصرف الحكومات المتعاقبة بما ينبغي في حقل الاستثمار العقاري فهي لم تستثمر بنفسها كما يجب في هذا النطاق ضمن مطالب الحاجة ولم تشجع أو تراقب أو تخطط لاستثمارات القطاع الخاص في هذا المجال. في كثير من دول العالم تقوم الحكومة ببناء وحدات سكنية في معظم احياء المدن مخصصة لذوي الدخل المحدود مقابل بدل إيجار شهري بسيط ومحدود وهذا ما يسمى هناك بـ”الاسكان الإجتماعي” حيث يقلل هذا الاجراء من شدة أزمة السكن ويخفف من بؤس الفقراء. فليس من الضروري أن يمتلك جميع الناس عقاراتهم كي تملأ حاجة السكن، هذا الإجراء غير موجود في العراق رغم اهميته والحاجة الماسة له ودوره في التكاتف الإجتماعي من أجل تأمين استقرار الأسر محدودة الدخل.
إسداء القروض العقارية للمواطنين قد لا ينقذ من المأزق في ظل غياب الأراضي المخصصة للسكن او شحتها وارتفاع أسعارها، لذلك لابد للدولة أن تخطط في توسيع رقعة السكن من خلال خلق مدن سكنية جديدة وإنشاء مجمعات سكنية فيها وتسهل منح اجازات الإستثمار العقاري وتوفر أراضي سكنية جديدة تسد حاجات المواطنين الملحة.
الإستثمار العقاري لدى الدولة بنفسها من جهة وتشجيع القطاع الخاص في ذلك من جهة اخرى سوف يسرع من وتيرة الأعمار ويختصر الزمن المطلوب لذلك. كما على الدولة مسؤولية مراقبة المستثمر العقاري ومنعه من المغالاة في جعل الفارق كبيرا بين سعر كلفة البناء وثمن البيع حفاظا على مستوى الأسعار ومنعا للاستغلال والمضاربة. دون شك إقامة “مبادرة صندوق الإسكان” بمنح قروض تسهيلية خالية من الفوائد لذوي الدخل المحدود سوف تسهل ايضا من صعوبات شراء العقارات لكن يجب أن توفر الأرضية الملائمة لذلك وان تكون هذه القروض طويلة الأجل بما يخص التسديد ولا تربك المقترض في قيمها.
سادساً/ عدم الاهتمام في البناء العمودي:
رغم الأزمة السكنية الحادة التي تمر بها البلاد وشحة الأراضي السكنية المتوفرة ورغم التوسع السكني الأفقي الهائل لم نلحظ اهتماما كبيراً موازياً في البناء العمودي وهو حل جذري كبير لأزمة السكن في كل أنحاء العالم. البناء العمودي خصوصا في مراكز المدن هو ضرورة ملحة لتخطي الحاجة السكنية فيها. في أغلب دول العالم يعتبر البناء العمودي سبيل متبع وناجز لحل أزمة السكن في المدن الكبيرة الرئيسية.
لا نرى حتى يومنا هذا حركة معمارية جارية وكما ينبغي في العراق بهذا الاتجاه رغم الحاجة الماسة لها. مهما كانت أسباب وتعليلات الحكومة لهذا الأمر فهذا لا يعفيها عن التغاضي بأمر سيكون اضطراريا تقوم الحكومة بإنجازه طوعاً أو كرها في قابل الأيام والسنين.
* مداخلة مقدمة في الجلسة الحوارية التي عقدها مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (السكن في العراق بين الحق الدستوري وفوضى الحلول)
.
رابط المصدر: