بقلم د. محمد عبد الكريم أحمد
واجهت جنوب إفريقيا في يوليو 2021 ما وُصِفَتْ بأنها “أسوأ موجة عنف منذ نهاية النظام العنصري في العام 1994م”؛ ورغم سياقات التنافس على السلطة والنزاعات السياسية داخل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم وتحالفاته، ودخول الرئيس الحالي سيريل رامافوسا على خَطّ الأزمة، وتوجيه اتهامات مباشرة لسَلفه بالتورُّط في فسادٍ كلَّف البلاد خسائر تقارب 35 بليون دولار؛ فإنه ثمَّة أسباب اجتماعية واقتصادية جذرية قادت إلى هذه الموجة وتداعياتها الخطيرة، وتتضمَّن بالضرورة دلائل قوية على “فساد مؤسساتي” داخل نظام حُكم المؤتمر الوطني الإفريقي بكافَّة مكوّناته، بما فيها الحكومة الحالية، والرئيس الحالي رامافوسا الذي لا تزال تُثَار تساؤلات جدية وخطيرة على دوره السياسي في البلاد وتحوّلاته من زعيم طلابي ونقابي بارز داخل الحركة الطلابية ومؤتمر نقابات جنوب إفريقيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى كونه أحد أبرز أثرياء جنوب إفريقيا ومن أكثرهم نفوذًا سياسيًّا؛ مما أهَّلَه لأن يكون شخصًا بارزًا في قائمة توقعات رئاسة جنوب إفريقيا قبل وصوله للمنصب بسنوات.
ويُتوقع أن يواجه تحديات في الفترة المقبلة على خلفية تعرُّضه –ضمن مئات السياسيين ورجال الأعمال- لهجوم سيبراني “لمشروع بيجاسوس” Pegasus Project (الذي تنتجه شركة إسرائيلية وتبيعه لحكومات الدول) للتجسُّس على هاتفه المحمول، حسبما كشفت وسائل إعلام غربية منتصف يوليو الجاري.
صورة عامة:
انتهت موجة أحداث العنف الأخيرة في جنوب إفريقيا، فيما لا تزال السلطات تحصي تكلفتها وتبعات مقتل أكثر من 275 مواطنًا، وخسارة تُقدَّر ببلايين الدولارات مبدئيًّا، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبِنْيَة الأساسية في قطاع الصحة جرَّاء أحداث النهب؛ مما سيزيد من أعباء أزمة كوفيد-19 في بعض المناطق في جنوب إفريقيا وتبعات غَلْق الطرق السريعة وأحد خطوط السكك الحديدية طوال فترة الاضطرابات على خلفية سجن الرئيس السابق جاكوب زوما الذي حكم البلاد لمدة تسعة أعوام قبل استقالته على خلفية تحقيقات بفَقْد البلاد أكثر من 34 بليون دولار بسبب “الفساد” حسب تصريحات الرئيس الحالي سيريل رامافوسا، لا سيما الاتهامات المتعلقة باستحواذ أسرة جوبتا Gupta الثرية على مناصب سياسية مهمة في حكومة زوما مقابل “خدمات”([1]).
وفي قلب هذا التبسيط المفرط للأزمة فإنها تُعَدّ تجسيدًا جديدًا للصراع القويّ على السلطة داخل الحزب الحاكم منذ العام 1994م: المؤتمر الوطني الإفريقي. فقد أجبر الحزب رئيسه السابق “زوما” على ترك منصبه في العام 2018م بينما واصلت الكتلة المؤيدة لزوما صراعها على السلطة مع النقابي السابق رامافوسا؛ واعتبر أنصار الأخير أن القبض على زوما يُمثّل انتصارًا صريحًا لرامافوسا الذي سبق لزوما تعليق عضويته في الحزب.
ورغم وجاهة اتهام رامافوسا لأنصار زوما بإثارة العنف فإنَّ حجم الفوضى وكثافتها يعكس مشكلة أعمق تعكس سوء إدارة حكومات المؤتمر الوطني الإفريقي طوال نحو ثلاثة عقود من نهاية النظام العنصري للبلاد على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من قبيل عدم التحكم في وباء نقص المناعة المكتسبة في نهاية تسعينيات القرن الفائت، ما أدَّى إلى وفاة أكثر من 330 ألف مواطن جنوب إفريقي، والفشل الذريع لبرنامج عمل الحزب الحاكم المعروف باسم “التمكين الاقتصادي للسود” Black Economic Empowerment الذي لم يسفر إلا عن إثراء فاحش لنخبة سوداء محدودة للغاية، وتحجيم فرص الاستثمار في مناطق متفرقة من البلاد، واستمرار معدل البطالة في البلاد منذ العام 1994م عند متوسط 30% وارتفع إلى نسبة كارثية وسط الشباب تجاوزت 74%، وكذلك الانقطاع المتكرر في الكهرباء في دولة تُعَدّ من أبرز الدول الصناعية في إفريقيا([2]).
زوما ورامافوسا: رأسٌ برأس
وُلِدَ الرئيس السابق جاكوب زوما في العام 1942م، ولم يتلقَّ تعليمًا رسميًّا، عكس رامافوسا الذي عمل أستاذًا بعدد من الجامعات الأمريكية، والتحق بالجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي المعروف باسم “رمح الأمة” Umkhonto we Sizwe وحُكِمَ عليه في العام 1963م بالسجن لعشرة أعوام “بروبين أيلاند” Robin Island (وهو سجن شهير قضى فيه نيلسون مانديلا سنوات سجنه)؛ بتهمة التآمر لإسقاط الحكومة، وفرَّ من جنوب إفريقيا في العام 1975م، وعمل في صفوف المؤتمر في دول جوار جنوب إفريقيا، والتحق باللجنة التنفيذية للمؤتمر في العام 1977م. وعاد إلى البلاد في العام 1990م بعد رفع حظر الحكومة العنصرية على نشاط المؤتمر داخل جنوب إفريقيا، لتحدث المواجهة الأولى بين زوما ورامافوسا الذي أنشأ -بصفته الأمين العام للمؤتمر الوطني، بينما كان مانديلا ومبيكي وزوما خارج البلاد- لجنة العمل الوطنية بالمؤتمر الوطني الإفريقي ANC’s National Working Committee (NWC) التي أصدرت قرارًا بطرد زوما من منصبه كرئيس للاستخبارات وحل مبيكي رئيسًا لمفاوضات لمؤتمر الوطني الإفريقي مع الحكومة العنصرية([3]).
وتولى زوما منصب نائب الأمين العام للمؤتمر في العام التالي، ثم عضوًا باللجنة المركزية للشؤون الاقتصادية والسياحة بإقليم “كوازولو- ناتال” في العام 1994م. وانتُخِبَ في العام 1997م نائبًا للأمين العام للمؤتمر، اختاره الرئيس الأسبق ثابو مبيكي نائبًا له في يونيو 1999م.
ورغم شعبية زوما الكبيرة وتوقعات خلافته السلسة لمبيكي؛ فإن الأخير أقدم على فَصْله من منصبه في العام 2005م على خلفية اتهامات “بالتزوير والفساد” ضد أحد أوثق المقربين من زوما، وتقديمه رشاوى لشركة سلاح فرنسية لصالح زوما نفسه.
وواجه زوما في العام 2006م تهمة الاغتصاب، وهي التهمة التي بُرِّئَ منها لاحقًا. ونجح زوما في الفوز بانتخابات رئاسة حزب المؤتمر في ديسمبر 2007م أمام خصمه مبيكي، وبعد هذا الفوز واجه زوما مرة أخرى اتهامات التزوير والفساد وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب.
ورغم عدم تأهله قانونًا لتولّي رئاسة المرحلة الانتقالية بعد مبيكي؛ حيث أشار القضاء المعنيّ إلى تدخُّله وحلفائه سياسيًّا في توجيه الاتهامات ضد زوما، مما دفَع المؤتمر لمطالبته بالاستقالة من رئاسة البلاد؛ لأنه لم يكن عضوًا “بالجمعية الوطنية”؛ فإن زوما حقَّق انتصارًا بتقدم حليفه كجاليما موتلانتي Kgalema Motlanthe في التصويت لشغل المنصب([4])، ونجح زوما لاحقًا في تولّي رئاسة البلاد في مايو 2009م بعد صدور قرار من قاضي محكمة بيترماريتزبرج العليا بإبطال التُّهَم ضدّ زوما “على أُسُس إجرائية”([5]).
وبالتوازي مع التاريخ الحافل لزوما في الخلافات السياسية والقضائية وشبهات الفساد التي توفرت لها دلائل كثيرة في فترات متباينة؛ رصدت مجلة “فوربس” الأمريكية منذ العام 2015م حلول الرئيس الحالي رامافوسا، المولود في جوهانسبرج في العام 1952م لرجل شرطة متقاعد، والمعروف بنشاطه الحركي البارز في الحركة الطلابية والعمالية الإفريقية منذ مطلع السبعينيات حتى التحول الديمقراطي، ضمن قائمة أغنى خمسين رجلاً في القارة الإفريقية بصافي ثروة يبلغ 450 مليون دولار، ولفتت المجلة إلى تخليه عن رئاسة الاستثمار في مجموعة شاندوكا Shanduka Group منذ مايو 2015م وإكماله في العام التالي عملية بيع حصته البالغة 30% في المجموعة التي دُمِجَتْ مع مجموعة بيمباني Pembani لتكوين Pan African Industrial Holdings Group التي تبلغ قيمة أصولها 900 مليون دولار. كما امتلك رامافوسا حصصًا في هيئات تعدين -مع ملاحظة شغله لمنصب بارز في نقابات عمال التعدين قبل سنوات- ومؤسسات مالية وعلامات عالمية مثل كوكاكولا وماكدونالدز، وترقَّى من عمله في اتحاد عمال المناجم الجنوب أفارقة حتى انتُخِبَ أمينًا عامًّا للمؤتمر الوطني الإفريقي في العام 1991م، وكان المفاوض الرئيس مع “الحزب الوطني” العنصري خلال الانتقال إلى الديمقراطية، وتوجَّه للعمل في الاستثمارات والأعمال بعد استقالته من البرلمان في العام 1997م، وعمله “باستثمارات إفريقيا الجديدة”، وتدشين مجموعة شاندوكا بمساعدة زوجته “تشيبو موتسيبي” Tshepo Motsepe شقيقة رجل الأعمال البارز باتريس موتسيبي([6]).
يتضح من مقارنة سيرتي زوما ورامافوسا الذاتية أن العمل السياسي في جنوب إفريقيا -التي ثَبَّتَتْ موقعها كأحد أكبر اقتصادات القارة الإفريقية- اختلط على نحوٍ مُبَالَغ فيه بالأعمال والاستثمارات والمصالح مع شركات وأطراف أخرى منتفعة من التحول الديمقراطي؛ مما يضع الأزمة السياسية الحالية في سياقاتها المنطقية لنظام حكم مستمر منذ العام 1994م، وانتهج مقاربات “نيوليبرالية” في مجتمعٍ عانَى من تشوُّهات سياسية واجتماعية واقتصادية فريدة في التجربة الإنسانية الحديثة بشكل عام، ولم ينجح في حلّ أغلب مشكلات سكان البلاد لا سيما المكونات الشبابية التي تُعاني من بطالة تتجاوز 70% في رقم يُعَدُّ الأبرز عالميًّا ومُعَبِّرًا عن فَشَل نظام المؤتمر الوطني الإفريقي في تدشين تنمية وطنية عادلة وشاملة.
الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة: ضرورة إعادة تقييم لسياسات المؤتمر الوطني الإفريقي؟
يبدو واضحًا أن من أهداف الاحتجاجات، التي تركزت في واقع الأمر في معاقل زوما في إقليمي كوازولو-ناتال Kwa-Zulu Natal وجوتينج Gauteng، الضغط من أجل الإفراج عن الرئيس السابق زوما وزعزعة حكم رامافوسا، الذي ظل نائبًا للأول في سني حكمه حتى العام 2018م، ويحاول رامافوسا أن يظهر في الوضع الحالي على أنه في صف “حكم القانون” وأنه يعمل على استعادة المؤسسات التي اختفى دورها في عهد زوما.
لكن الأول لم يحقّق سوى تقدم محدود في استعادة مصداقية سلطات الضرائب، ومنصب النائب العام الذي وجّه اتهامات لعناصر بارزة في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالفساد؛ مما قاد إلى مواجهات واضحة مع الجهاز الأمني الذي ينتشر به موالون لنظام زوما السابق؛ وأشار افتقار حكومة رامافوسا لحكمة القيام بإجراءات في توقيت ملائم لمواجهة العنف وتفشّي ظاهرة وُقُوف بعض عناصر الشرطة في صفّ أنصار زوما إلى استمرار وجود “جيوب” في النظام الحالي موالية لزوما([7]).
وبشكلٍ عام فقد تعمَّق التفاوت الاقتصادي في جنوب إفريقيا بعد العنصرية على نحو غير متوقَّع بعد فوز المؤتمر الوطني الإفريقي بأغلبية كاسحة في العام 1994م، ووعده بخفض التفاوت على نحو كبير في دولة مثَّلت الحالة الأبرز عالميًّا في التفاوت الاقتصادي بين سُكّانها، بينما مهَّد دستور جنوب إفريقيا (مايو 1996م) لتبنّي الدولة لتعزيز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بشكل مؤسساتي. وقاد هذا التناقض بين الوعود السياسية والمآلات الواقعية إلى تفاقم أزمة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي.
وأكَّد نُقّاد للتجربة الاقتصادية للمؤتمر الوطني وحكوماته -حسبما تبلور في كتاب شهير صادر في العام 2020م بعنوان Shadow of Liberation– أنه لم يحدث أي تغير جوهري في هذه السياسات عن فترة الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وأن المؤتمر افتقر للخبرة الاقتصادية([8]).
وثارت منذ فترة مطالب حقيقية للمؤتمر الوطني الإفريقي بضرورة إصلاح سياساته الاقتصادية، وأن تتم عبر صياغة سياسات وتطبيقها عن طريق التفاوض والتشاور مع فئات اجتماعية تتجاوز البرلمان ومؤسسات الدولة الحالية؛ بحيث تشمل النقابات (الداعم السياسي الأبرز لنظام المؤتمر الوطني الإفريقي قبيل التحوُّل الديمقراطي وفي سنوات حكمه الأولى)، وأصحاب الأعمال وجماعات المصالح الأخرى خارج فئة رجال الأعمال الأفارقة الضيّقة المهيمنة على المجال السياسي والاقتصادي في جنوب إفريقيا بدعمٍ من سياسات المؤتمر الوطني الإفريقي نفسه([9])؛ مما يوضّح عُمْق الأزمة الاقتصادية الحالية وتداعياتها على أحداث العنف واحتمالات تمددها.
خلاصة:
أشارت عملية “الانتقال الديمقراطي” في جنوب إفريقيا مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى عمليات معقَّدة للغاية من المساومة على حقوق الأغلبية السوداء الاقتصادية والاجتماعية مقابل إتاحة هامش سياسي للنُّخَب الإفريقية التي تصدَّرت المشهد النضالي قبل 1994م، وناورت لاحقًا بمصالح الأغلبية من السكان الأفارقة، لا سيما العمال الأفارقة.
وتكشف الأزمة السياسية الحالية بتجاذباتها بين زعيمين بارزين في النِّضال الوطني والتحوُّل الديمقراطيّ، وأحدهما الرئيس الحالي الذي خاض نضالًا طلابيًّا وعماليًّا مُهِمًّا دَفَعَه إلى الصفوف الأمامية في قيادة البلاد سياسيًّا، عن تشوُّهات هيكلية في النظام السياسي الجنوب إفريقي، وحقيقة “خَصْخَصَة” مواقفه السياسية الداخلية (بل والخارجية لا سيما في عهدي مبيكي وزوما). ويقودنا وَضْع الأزمة الحالية في سياقاتها التقليدية للسياسة الجنوب إفريقية بعد العنصرية إلى فهم أكبر لديناميات هذه الأزمة، وربما التنبؤ بمخرجاتها مستقبلًا على نحو سليم.
[1] Joshua Meservey, Will South Africa’s ANC Get the Message? The Wall Street Journal, July 21, 2021 https://www.wsj.com/articles/jacob-zuma-cyril-ramaphosa-anc-corruption-looting-11626901502
[2] Ibid.
[3] Jacob Gedleyihlekisa Zuma, South African History Online https://www.sahistory.org.za/people/jacob-gedleyihlekisa-zuma
[4] Jacob Zuma, Britannica https://www.britannica.com/biography/Jacob-Zuma
[5] Jacob Gedleyihlekisa Zuma, South African History Online https://www.sahistory.org.za/people/jacob-gedleyihlekisa-zuma
[6] #42 Cyril Ramaphosa, Forbes https://www.forbes.com/profile/cyril-ramaphosa/?sh=43b6074d124f
[7] Editorial Board, Ramaphosa must act to defend South Africa, Financial Times, July 20, 2021 https://www.ft.com/content/ef2c2738-e48e-4ac8-9a33-63fdea656e17
[8] Edward Webster, Economic policy remains hotly contested in South Africa: this detailed history shows why, The Conversation, May 19, 2020 https://theconversation.com/economic-policy-remains-hotly-contested-in-south-africa-this-detailed-history-shows-why-138378
[9] Edward Webster, Economic policy remains hotly contested in South Africa: this detailed history shows why, Op. Cit.
.
:رابط المصدر