عقب انتهاء زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي المثيرة للجدل إلى تايوان في 3 أغسطس، أجرى الجيش الصيني للمرة الأولى مناورات عسكرية شهدت إطلاق صواريخ فوق تايبيه، ونشر أسراب من الطائرات بدون طيار فوق جزر صغرة تابعة لتايوان، وعبرت سفن حربية صينية خط المنتصف في مضيق تايوان، وطوقت قوات صينية الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، والتي تدَّعي الصين أنها جزء منها. وقال الجيش التايواني إن المناورات الصينية ترقى إلى مستوى فرض “حصار” على الجزيرة.
تناقش هذه الورقة الإجراءات العسكرية الصينية وأهداف الصين من ورائها، وتبعات ذلك على علاقات بيجين مع واشنطن، فضلاً عن التحديات التي قد تواجهها الصين جراء هذا التصعيد.
أهداف التصعيد الصيني غير المسبوق رداً على زيارة بيلوسي
أجرت قوات جيش التحرير الشعبي الصيني مناورات عبر مضيق تايوان وحول الجزر الفرعية وجزيرة تايوان الرئيسة شاركت فيها مقاتلات وسفن حربية وحاملات طائرات ووحدات الصواريخ الباليستية. وشكل إجراء مثل هذه المناورات تحدياً مزمناً للصين التي كانت متمسكة بالتحفظ إزاء القيام بها تجنباً لردود الفعل الدولية المتوقع أن تنتج عنها. لكن زيارة بيلوسي قدمت للحزب الشيوعي ذريعة مناسبة لاختبار، على نحو دقيق ومحسوب، قدرات الجيش على تنفيذ خططه إزاء تايوان، بما يشمل عدة خطوات كما يلي:
- عبور المقاتلات الصينية والسفن الحربية منطقة الدفاع الجوي التايواني. وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها القوات الجوية بذلك، لكن المناورات الحالية شملت أعداداً كبيرة وتضمنت عبور خط المنتصف لأول مرة، وهو خط لا تعترف به الصين لكن حافظت على احترامه لعقود. تحمل هذه العملية رسائل صينية بأن منطقة الدفاع الجوي التايوانية قد انتهت – من وجهة نظر عسكرية صينية – وأن عبور خط المنتصف سيصبح أمراً عادياً، في إشارة ضمنية لاعتبار المضيق مياه إقليمية صينية وليست مخصصة لعمليات “حرية الملاحة” الدولية.
- أطلقت القوات الصينية صواريخ باليستية من طراز “دونفانغ” عبرت فوق تايوان لأول مرة وسقطت قرب سواحل الجزيرة الشرقية. ويحمل هذا الإجراء تحذيراً من خلال إظهار مدى الصواريخ الباليستية موجهاً للدول التي قد تتدخل لدعم تايوان في حالة الصراع.
- أجريت المناورات في ست مناطق محيطة بجزيرة تايوان في شكل “حبل مشنقة”، وركزت بالأساس على الجبهات الشمالية والشرقية والجنوبية، في محاولة لفرض حصار على الموانئ التايوانية الرئيسة وخطوط الملاحة المؤدية لها. وإلى جانب تحذير الأطراف الخارجية في الشرق، عكست المناورات قدرات الجيش الصيني على تهديد المياه الإقليمية اليابانية (حيث سقطت خمس صواريخ باليستية بالقرب من جزيرة أوكيناوا)، وغلق قناة باشي في الجنوب، الممر الشمالي الوحيد لدخول بحر الصين الجنوبي.
- بعد انتهاء المناورات في 10 أغسطس، أعلنت قيادة المسرح الشرقي أن جيش التحرير الشعبي “أجرى بنجاح عدة مهام” حول تايوان، وأنه سيستمر في “تنظيم دوريات منتظمة” باتجاه مضيق تايوان، في إشارة إلى استمرار الضغط على الجزيرة وتحويل التحركات العسكرية الصينية في المضيق إلى أمر اعتيادي.
وحملت المناورات العسكرية الصينية مجموعة أهداف سياسية واستراتيجية، بعضها متصل مباشرة بزيارة نانسي بيلوسي لتايبيه والبعض الآخر طويل المدى، على النحو الآتي:
أولاً، يتضح من طبيعة التشكيلات والإجراءات العسكرية غير المسبوقة حول الجزيرة أنها تدريبات على القيام بعمل عسكري مباشر ضد تايوان، وليست مجرد خطوات عسكرية تصعيدية بهدف إرسال رسائل ردع للولايات المتحدة وحلفائها ضد أي تحركات داعمة لاستقلال تايوان.
ثانياً، عكست العقيدة العملياتية خلال المناورات أن الصين، في حالة التصعيد العسكري، لن تهدف إلى تدمير تايوان، وإنما ستلجأ إلى فرض حصار على الجزيرة يُجبر حكومة تايبيه على التفاوض على شروط التوحيد مع الصين. ويظهر أن أهم عناصر نجاح أي حصار محتمل قدرة القوات الصينية على منع القوى الخارجية (على رأسها الولايات المتحدة واليابان) من التدخل للدفاع عن تايوان.
ثالثاً، تأمل الإجراءات الصينية (التي يتوقع ألا تكون الأخيرة، وأن تترك تداعيات دائمة في المنطقة) في توظيف زيارة بيلوسي لتغيير الأمر الواقع القائم والمعترف به من قبل الأمم المتحدة وواشنطن وحلفائها ويتسق مع تفسيرها للقانون الدولي.
رابعاً، إظهار القوة بالتزامن مع اقتراب انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي المتوقع في نوفمبر المقبل والذي سيشهد سعي الرئيس الصيني شي جينبنغ لمد رئاسته لفترة ثالثة، وهو تطور لم يحدث من قبل.
خامساً، فرضت الصين عقوبات اقتصادية على تايوان أبرزها منع استيراد المنتجات الزراعية. وتستهدف هذه العقوبات جنوب تايوان، القاعدة التاريخية لحزب الكومينتاغ الحاكم، وتسعى بيجين من خلالها لتشجيع الناخبين على التخلي عن الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم بقيادة تشاي انغ وان.
سادساً، ردع الحزب الديمقراطي التقدمي عن اتخاذ خطوات مفاجئة باتجاه إعلان الاستقلال بشكل أحادي استغلالاً لحملة الدعم الغربي غير المسبوقة.
قد تكون زياة بيلوسي لتايوان جاءت لدعم انفتاح الجزيرة على العالم والتخفيف من العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها من الصين، لكن هذه المكاسب، المتصلة بالأساس بدوافع قيمية وأيديولوجية أمريكية، قد لا تضاهي خسائر واشنطن طويلة المدى في المسألة التايوانية
انعكاسات تصعيد الصين على العلاقات مع الولايات المتحدة
بعد الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بيجين ولقائه الزعيم ماو تسيتونغ عام 1971، نقلت الأمم المتحدة مقعد جمهورية الصين (تايوان) إلى جمهورية الصين الشعبية. بعد ذلك، اتفقت واشنطن وبيجين على البيانات المشتركة الثلاثة التي تتضمن أهم بنودها أن هناك صين واحدة، وأن تايوان جزء من الصين، واعتراف الجانبين بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية للصين (ما يعرف بسياسة “الصين الواحدة”)، وأن حدودها الإقليمية شأن صيني داخلي، وأن تتمتع واشنطن وتايبيه بعلاقات ثقافية واقتصادية غير رسمية. وقد اعتبر الجانبان البيانات المشتركة الثلاثة الأساس للعلاقات الدبلوماسية التي تأسست عام 1979.
لكن كان تمرير الكونغرس (ضد رغبة الرئيس جيمي كارتر) لقانون العلاقات مع تايوان عام 1979 (ولاحقاً التطمينات الستة الأمريكية لتايوان) نقطة تحول في مدى ثقة قادة الحزب الشيوعي الصيني في مصداقية الولايات المتحدة والتزامها بالبيانات المشتركة الثلاثة.
منذ ذلك الوقت، ظلت مسألة تايوان المعضلة الأساسية في العلاقات الثنائية بين بيجين وواشنطن. وشكلت أزمة زيارة رئيس مجلس النواب نيوت غينغريش عام 1997 قمة جبل الأزمة التي تخللها إطلاق الصين صواريخ باليستية عبر المضيق لردع حكومة الرئيس لي تنغ هوي عن إعلان استقلال تايوان قبل التراجع عقب إرسال واشنطن حاملتي طائرات للمنطقة.
لكن رد بيجين، التي تملك قوة عسكرية واقتصادية تقترب من معادلة الولايات المتحدة اليوم، على زيارة بيلوسي، يعكس نمطاً منظماً في التفكير الصيني للتعامل مع مثل هذه الأزمات منذ صعود شي إلى قيادة الحزب في عام 2012. فقد جعل شي مسألة التوحيد شرطاً أساسياً لاستكمال “تجديد” الأمة الصينية الواحدة (التي تتشكل من الشعب الصيني على ضفتي مضيق تايوان) والوصول إلى مرحلة المجتمع الاشتراكي المزدهر ذي الخصائص الصينية، دون استبعاد القوة كوسيلة لتحقيق ذلك. وقد أصدرت بيجين في 10 أغسطس ورقة بيضاء جديدة حول المسألة التايوانية، مُكمِّلة للورقتين السابقتين الصادرتين عامي 1993 و2000، تكرر فيها الهدف النهائي لتوحيد الجزيرة مع الصين “بالأساليب السلمية” وفقاً لنظام “دولة واحدة ونظامين”، لكنها أكدت مرة أخرى استعدادها للجوء للقوة.
وظهرت أبعاد النمط الفكري الصيني القائم على استراتيجية “تقطيع السلامي“، أي تغيير الأمر الواقع من خلال تكرار ممارسات غير مألوفة وتطبيعها سعياً لكسب أرض جديدة وانتزاع تنازلات دائمة، في عدة أزمات سابقة أهمها أزمة جزر سينكاكو (أو دياويو كما تعرف في الصين) مع اليابان عام 2012، والتوسع في بناء الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي خلال الفترة بين 2015 و2018، والاشتباكات الحدودية مع الهند عام 2020.
ولا تنبع النزعة التصعيدية الصينية من منطلقات متعلقة بالتعقيدات التاريخية والمستقبلية للروابط مع تايوان فقط، لكنها تكمن أيضاً في مضامين تراجع العلاقات الصينية مع الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين، والتي تشمل:
أولاً، التحركات واتجاه إرسال الإشارات من قبل القيادة الصينية يعكس تراجع ثقة بيجين في التزام واشنطن بسياسة “الصين الواحدة”، و”الغموض الاستراتيجي” التي تخلق ردعاً استراتيجياً مزدوجاً، بحيث تضمن عدم إقدام الصين على غزو تايوان، وفي نفس الوقت امتناع تايوان عن إعلان الاستقلال بشكل أحادي. ويؤمن خبراء صينيون بأن إدارة بايدن تتجه لاستبدال “الغموض الاستراتيجي” بسياسة “الوضوح الاستراتيجي” التي، وفقاً لتقديراتهم، تصرح بنوايا الولايات للدفاع عن تايوان، كما تعكس تصريحات بايدن، ومن ثم تشجع قادة تايوان على تبني خطوات باتجاه الاستقلال. أي أن المعضلات المنتجة للتحديات الجوهرية في العلاقات الثنائية بين الجانبين ذات طابع مزمن وليست مستحدثة من تبعات الزيارة وتهدف إلى خلق ظروف سياسية وميدانية جديدة تُجبر الولايات المتحدة على العودة للالتزام بسياسة “الصين الواحدة”.
ثانياً، ثمة عوامل أخرى أصبحت نشطة انطلاقاً من دوافع الزيارة، أهمها غياب الثقة المتمثل، ضمن تفكير بعض المسؤولين الصينيين، في اعتقاد تبني بايدن للزيارة، كنتيجة للخلط الصيني بين الجناحين التنفيذي (الإدارة الأمريكية) والتشريعي (الكونغرس)، وعدم أخذ المبررات الأمريكية حول مبدأ الفصل بين السلطات واختلاف أجندة بايدن عن بيلوسي على محمل الجد، بالنظر إلى انتمائهما لنفس الحزب وهو الحزب الديمقراطي.
لكن بالنسبة للرئيس شي، فإن الزيارة انعكاس لعجز المصداقية الهيكلي الذي تعاني منه الولايات المتحدة على المسرح العالمي. فالصراع المبطن بين فرعي الحكم التنفيذي والتشريعي الأمريكي تأكيد على نظرية “صعود الشرق وتراجع الغرب” التي شكلت أحد أسس رؤية شي للعلاقات الدولية. فضلاً عن ذلك، أظهرت الديناميات الداخلية السابقة على الزيارة (للصين ولحلفاء واشنطن على حد سواء) صعوبة الوثوق في استمرارية التزامات واشنطن طويلة الأمد واتجاه الدولة الاستراتيجي. وقد يخلق انتصار الجمهوريين المتشددين في انتخابات التجديد النصفي أخطاء جديدة مماثلة تمنح الصين فرصة لاستغلالها في تغيير دعائم الوضع الراهن في مضيق تايوان دون تحمل خسائر تذكر.
ثالثاً، يتجسد المكسب الإضافي بالنسبة للصين في تغيير الوضع الراهن حول تايوان في خطط شي لإعادة تنظيم العلاقات مع الولايات المتحدة في اتجاه يسمح لبيجين بالدفع نحو إعادة هيكلة النظام العالمي. وترى الصين أن مبدأ “الصين الواحدة” هو جزء لا يتجزأ من النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً للسفير الصيني في واشنطن تشين غانغ. وإذا كانت الولايات المتحدة تحترم “النظام القائم على القواعد” فعليها إعادة الالتزام بهذا المبدأ. وأصدر وزراء خارجية مجموعة السبع وممثلو دول الاتحاد الأوروبي بياناً، في 3 أغسطس، يوحي بأن زيارة بيلوسي لتايوان لا تخل بسياسة “الصين الواحدة” إذ لا تعد هذه السياسة محل اختصاص في هذه الأزمة، وهي لغة غير مسبوقة في العلاقات الصينية – الغربية.
وعكَس قطع الصين للاجتماعات العسكرية والمناخية مع الولايات المتحدة رغبة في إنهاء الجدل حول تايوان من خلال إلحاق هزيمة دبلوماسية بالولايات المتحدة تجبرها على تقديم تنازلات لتجنب عودة العلاقات للمربع الأول.
لكن في المقابل، أظهر الجانبان ضبطاً للنفس وتبادلا رسائل ضمنية غير تصعيدية تمثلت، من الجانب الأمريكي، في تبني طائرة بيلوسي لمسار رحلة أطول لتجنب استفزاز الصين، وامتناع بايدن عن الاتصال ببيلوسي حتى لا يترك انطباعاً بمباركة الزيارة أو التنسيق بين الجانبين بخصوصها. على الجانب الصيني، بدأت المناورات بعد انتهاء زيارة بيلوسي، وليس أثنائها، وتجنبت القوات الصينية وقوع أي احتكاكات مع القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة. لكن هناك تحديات أكبر أمام القيادة الصينية بدأت تبرز جراء سياسة التصعيد سيتطرق إليها القسم الآتي.
كشفت المناورات العسكرية الصينية عقب زيارة نانسي بيلوسي لتايبيه عن بعض ملامح خطط الصين العسكرية في حالة النزاع مع تايوان، لكن الأهم أنها أظهرت استعداد الصين لاستغلال الانقسامات الداخلية وثغرات النظام السياسي في الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب جديدة وزيادة الضغط على تايوان
تحديات التصعيد أمام القيادة الصينية
كان لافتاً أن الحملة الصينية ضد تايوان أُوكِلت قيادتها للجنة العسكرية في الحزب الشيوعي، وليس قسم البروباغاندا. ويتسق ذلك مع تحوُّل العقيدة الصينية إزاء تايوان من مرحلة “المعارك الخطابية” (وودو) إلى “المعارك القتالية” (واندو). وتنقسم التحديات التي يخلقها التصعيد الصيني جراء زيارة بيلوسي لتايوان إلى تحديات داخلية واستراتيجية وسياسية وإقليمية.
أولاً، التحديات الداخلية؛ خلقت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايبيه موقفاً صعباً لقيادة الحزب الشيوعي التي سعت لسنوات لتحويل قضية تايوان إلى قاعدة البنية القومية لرؤية الرئيس شي في السياسة الخارجية. وأظهرت هذه الأزمة مخاطر تلبية توقعات الشارع بتوظيف قوة الصين لمنع الزيارة بالأساليب الدبلوماسية، أو إسقاط، أو على الأقل اعتراض، طائرة بيلوسي قبل الهبوط في تايوان. وأنتجت هذه المشاعر الجارفة حرصاً رسمياً على ضرورة الوصول لمعادلة توازن تظهر قوة الدولة، لكن في الوقت نفسه تتجنب المخاطرة بتفاقم الأزمة وخروجها عن السيطرة. وتتصل هذه التعقيدات بتوقيت الزيارة المتزامنة مع اقتراب انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وسعي شي لتأمين فترة حكم ثالثة، وهو ما يضع ضغوطاً عليه بشكل شخصي لتجنب إظهار أي ضعف.
ثانياً، من الناحية الاستراتيجية؛ يحمل تمركز التشكيلات العسكرية المشاركة في المناورات ومواقعها مخاطرة حدوث أخطاء غير مقصودة، نظراً لاقتراب خطوط التماس مع القوات التايوانية (التي رفعت درجة الاستعداد) والقوات الأمريكية في المنطقة التي كانت على أهبة الاستعداد أيضاً. ويبقى هذا الخطر قائماً، خصوصاً بعد قرار الصين وقف الاتصالات العسكرية مع واشنطن. إلى جانب الكشف، لأول مرة، عن خطط الصين العسكرية الحقيقية التي من المرجح أن تطبق لإخضاع تايوان من خلال فرض حصار شامل في وقت الحرب.
ثالثاً، التحديات السياسية؛ تمثلت في المستوى غير المسبوق من التصعيد. فرغم توقع بعض الإجراءات التي تبنتها الصين في واشنطن، فاجأت سياسة “اليد الثقيلة” حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتوحي ردود الأفعال الأولية في أوروبا بتقارب غير مسبوق في وجهات النظر الأوروبية مع الولايات المتحدة، فضلاً عن احتمال تقارب هاتين القوتين بشكل أكبر مع تايوان.
رابعاً، على الصعيد الإقليمي؛ ساهمت درجة التصعيد الصينية في تلاشي أي نزعة بين القوى الرئيسة في الإندو-باسيفيك وفي مجموعة آسيان للتعويل على بيجين بوصفها قوة ضامنة للاستقرار الإقليمي. وأثار السلوك الصيني قلقاً بين الدول المنخرطة في نزاعات حدودية مع الصين في بحري الصين الجنوبي والشرقي، على رأسها اليابان والفلبين وفيتنام وإندونيسيا. فضلاً عن ذلك، عزز التصعيد من اعتقاد حلفاء واشنطن بضرورة التلاحم مع إدارة بايدن، إذ قد ينعكس ظهورها في حالة ضعف على موقع هذه الدول في مواجهة الصين ومصالحها الإقليمية.
خامساً، في تايوان؛ تسهم الإجراءات التصعيدية الصينية غير المسبوقة في تعزيز شعبية الحزب الديمقراطي التقدمي والرئيسة تشاي انغ وان، وزيادة تلاحم الناخبين حول أجندتهما الاستقلالية قبيل الانتخابات المحلية المقررة في نوفمبر المقبل، التي كان يتوقع أن يحقق فيها حزب الكومينتانغ المعارض مكاسب كبيرة. وتكمن أهمية هذه الانتخابات في طبيعتها كمؤشر دقيق (في الغالب) على النتائج المتوقعة في الانتخابات الرئاسية في 2024.
لا ينبغي إغفال النتائج العكسية ذات الطابع الاستراتيجي التي قد يخلقها التصعيد حول تايوان بالنسبة للقادة الصينيين. ويعكس استعداد بيجين لاستيعاب هذه الخسائر إصرار الرئيس شي المتزايد حول ضرورة “توحيد” الصينيين على ضفتي المضيق باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لتحقيق هدف “تجديد” الأمة الصينية
خلاصة واستنتاجات
تبنَّت القيادة الصينية، رداً على زيارة بيلوسي إلى تايوان، إجراءات غير مسبوقة تهدف إلى تغيير الوضع الراهن في مضيق تايوان وحولها. وفي مضمونها، لم تشكل هذه المناورات العسكرية تهديداً لسيادة تايوان وحدها، وإنما بات يُنظر لها من قوى إقليمية كبرى، على رأسها اليابان، باعتبارها ضغطاً مباشراً على النظام الأمني الإقليمي في منطقة الإندو-باسيفيك.
وكشفت المناورات عن بعض ملامح الخطط العسكرية الصينية في حالة النزاع مع تايوان، لكن الأهم أنها أظهرت استعداد الصين لاستغلال الانقسامات الداخلية وثغرات النظام السياسي في الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب جديدة وزيادة الضغط على تايوان. وفي المجمل، قد تكون زياة بيلوسي جاءت لدعم انفتاح تايوان على العالم والتخفيف من العزلة الدبلوماسية المفروضة عليها من الصين، لكن هذه المكاسب، المتصلة بالأساس بدوافع قيمية وأيديولوجية أمريكية، قد لا تضاهي خسائر واشنطن طويلة المدى في المسألة التايوانية.
وهناك خطوات حتمية ستتخذها الصين في المستقبل القريب. إحدى أهم الأهداف ستكون ردع المسؤولين الأجانب عن زيارة تايوان، وتقليص العدد القليل من الدول التي لا تزال لديها علاقات دبلوماسية مع تايوان.
لكن، في المقابل، لا ينبغي إغفال النتائج العكسية ذات الطابع الاستراتيجي التي قد يخلقها التصعيد بالنسبة للقادة الصينيين. ويعكس استعداد بيجين لاستيعاب هذه الخسائر إصرار الرئيس شي المتزايد حول ضرورة “توحيد” الصينيين على ضفتي المضيق باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لتحقيق هدف “تجديد” الأمة الصينية والوصول إلى بناء مجتمع مزدهر بخصائص صينية. أي، بشكل مبسط، تحوُّل الصين إلى قوة عظمى تُضاهي الولايات المتحدة.
.
رابط المصدر: