فردوس عبدالباقي
تشهد سريلانكا مؤخرًا أزمة اقتصادية وسياسية عميقة جراء العجز عن سداد الديون واستقالة الرئيس بعد هروبه ورئيس الوزراء والاحتجاجات الواسعة في البلاد. يحاول الرئيس بالإنابة “رانيل ويكرمسينغ” العمل على خطة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي ستكون مقيدة بكل من الهشاشة الداخلية والمخاوف الدولية من التصعيد الذي قد يعرقل خطط الإنقاذ. تحاول الورقة في النقاط التالية إلقاء الضوء على الشق السياسي والاقتصادي، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومؤشرات تنافس القوى الإقليمية في سياسة تلك الدولة الصغيرة في جنوب آسيا.
انشقاقات داخلية وقيادات جديدة
تنفيذًا لمطالبات المتظاهرين، جاءت إعلانات الاستقالة من المسئولين مماطلة، فقد أعلن كل من الرئيس “جوتابايا راجاباكسا” ورئيس الوزراء “رانيل ويكرمسينغ” عن عزمهما الاستقالة. بينما قال الرئيس إنه سيستقيل بمجرد تشكيل الحكومة المقترحة من جميع الأحزاب، وذكر رئيس البرلمان أن الرئيس سيتنحى يوم 13 يوليو رغم رغبة الشعب برؤية استقالة الرئيس بأنفسهم. ومع ذلك فقد هرب من البلاد دون أن يستقيل إلى أن أعلن رئيس البرلمان أنه تلقى استقالة “جوتابايا” من سنغافورة، وأدى “ويكريمنسينغ” اليمين رسميًا كرئيس بالإنابة في 15 يوليو.
تم تعيين “ويكرمسينغ ” رئيسًا للوزراء في مايو، عندما دخل المتظاهرون مقر إقامة رئيس الوزراء، وأجبروا رئيس الوزراء آنذاك “ماهيندا راجاباكسا” -شقيق الرئيس- على الفرار والاستقالة. حدث ذلك بعد أن حث أنصاره على مهاجمة المتظاهرين المناهضين للحكومة.
بالنسبة لـ”ويكرمسنغ”، فرغم أن هذه هي ولايته السادسة وأنه لم يكمل ولاية كرئيس وزراء كاملة مطلقًا، لكنه كانت له جهود في عرقلة الجهود المبذولة لمحاكمة عائلة “راجاباكسا”، لذا كان تعيينه من جديد بمثابة خطوة للحد من حركات الاحتجاج، لكن طالب المتظاهرون بإقالته أيضًا.
استنادًا لذلك، طالب اجتماع لجميع الأحزاب البرلمانية دعا إليه رئيس البرلمان “ماهيندا يابا أبيواردينا” باستقالة الرئيس ورئيس الوزراء، واقترح أن يتولى رئيس البرلمان مهامه كرئيس مؤقت لمدة أقصاها 30 يومًا. خلال هذه الفترة، يجب على البرلمان انتخاب رئيس لإكمال ولاية “راجاباكسا”. وقد بدأ البرلمان الانعقاد يوم 16 يوليو لبدء عملية الانتخاب لرئيس جديد، على أن يختار البرلمان الرئيس الجديد يوم 20 يوليو.
ومن المرشحين المتقدمين كان “ساجيث بريماداسا” زعيم حزب المعارضة الرئيسي، متنافسًا مع أحد النواب البارزين بالحزب الحاكم “دولاس ألاهابيروما”، والرئيس الحالي بالإنابة؛ إلا أنه يواجه رفضًا شعبيًا كونه أحد أطراف النظام القديم، كما أن وجوده كرئيس بالإنابة يخضع لقرار المحكمة العليا، وفي حالة الإعلان عن عدم قانونيته سيصبح غير مؤهل للترشح للرئاسة.
من جانب آخر، رفض زعماء الأحزاب البرلمانية مناشدة “ويكرمسينغ” بالسماح له بإكمال المحادثات مع صندوق النقد الدولي من أجل حزمة الإنقاذ وتأمين إمدادات الوقود من الخارج، حيث ستحاول حكومة ائتلافية مكونة من جميع الأحزاب قيادة سريلانكا من خلال مفاوضات الصندوق لإنهاء الإغاثة الاقتصادية وتمهيد الطريق لانتخابات عامة جديدة.
تطور مراحل الاحتجاج
اتبع “جوتابايا راجاباكسا” في بداية حكمه سياسات شعبوية بتخفيض الضرائب وتوظيف الخريجين في وظائف صغيرة، لكن عاد ذلك بالسلب على خزينة الدولة ومواردها، وعمل في الوقت نفسه على معارضة الأقلية المسلمة واتهامهم بالإرهابيين. وقد ساهم تراجع الإيرادات العامة في إعاقة قدرة الدولة على شراء المواد الأساسية مثل الغذاء والأدوية والغاز والوقود.
من جانب آخر، تركت جائحة كورونا أثرها بحكم الإغلاق المتكرر وتوقف الاقتصادات، حيث تراجعت السياحة بسبب التكلفة الباهظة للحجر الصحي، وضآلة التحويلات المالية من العاملين في الخارج. وأدى حظر الأسمدة الزراعية لتدمير قطاع الزراعة الذي يعتمد عليه 70% من السكان، مما أضر بالأمن الغذائي للدولة.
أدت السياسات السابق ذكرها لحالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، ودخل المواطنون في حالة احتجاجية تطالب باستقالة “ماهيندا راجاباكسا”، ووضعت المعارضة شرط تشكيل حكومة جديدة من جميع الأحزاب باستقالة الرئيس أيضًا، وهو ما تم رفضه. وبالفعل تم تعيين “رانيل ويكرمسينغ” رئيسًا جديدًا للوزراء في حكومة لتسيير الأعمال.
اتسمت الاحتجاجات على الوضع الاقتصادي في البداية بالسلمية، لكن كانت هناك تخوفات من دخول العنف فيها، وهو ما حدث بالفعل حين أدت لمداهمات واشتباكات بين المدنيين وقوات الأمن وحرق المقرات الحكومية واقتحام القصر الرئاسي فيما بعد إبان هروب الرئيس من البلاد. وتحول نمط المظاهرات من جماعات صغيرة إلى سلوك اتجاه مختلف من اتساع مجالها وعدد المتظاهرين.
تشكلت الاحتجاجات من الطبقة المتوسطة بشكل أساسي حيث الشباب من المهنيين من الطبقة المتوسطة الذين نشئوا في عقد من الازدهار النسبي بعد نهاية الحرب الأهلية وتوسيع التصنيع، لكن تَرَاجَعَ طموح تلك الطبقة في أن تصبح دولتهم قصة النجاح الآسيوية القادمة، ورفعوا شعارات ضد عائلة “راجاباكسا” الحاكمة.
مؤخرًا، انضم الأطباء والموظفون والمصرفيون للاحتجاج على نقص المشتقات البترولية، وتم فرض إغلاق وحظر تجوال في المدارس والمكاتب في محاولة لإبعاد المتظاهرين عن الطرق وتهدئة الاضطرابات وارتفاع أسعار الوقود والغذاء. ثم نجحت الاحتجاجات في إسقاط حكومة “ماهيندا راجاباكسا” في مايو الماضي.
من تطور الأحداث، بدا أن هناك خلافات مؤسسية ساهمت في انهيار النظام، فقد رفضت المحاكم طلب الشرطة بحظر التجمعات بالقرب من منزل الرئيس، وتم رفع حظر التجول الذي فرضته الشرطة بناءً على طلب من مجلس نقابة المحامين، ثم استسلمت الشرطة بعد مقاومتها للمتظاهرين، وسمحت لهم بالاحتشاد واقتحام المساكن الرسمية للرئيس ورئيس الوزراء. لم يتدخل الجيش في الأمر، وأشارت تقارير إلى وجود تحذيرات من السفارة الأمريكية من استخدام القوة ضد المتظاهرين.
وقد عكس هذا التطور اندماج الجماعات مختلفة التوجهات تحت قضية واحدة، وظهور حركات تجمعهم مثل الحركة الوطنية من أجل مجتمع عادل للمطالبة بتغيير النظام الذي بدأ يشهد تراجعًا في الديمقراطية منذ رئاسة “ماهيندا راجاباكسا” منذ 2005 حتى 2015 في فترتين متتاليتين.
أزمة الدين العام
تواجه سريلانكا أسوأ ركود منذ عام 1948، وباتت أول دولة في منطقة آسيا – المحيط الهادئ تتعثر في سداد الديون الخارجية خلال العقدين الماضيين، فقد أدت أزمة الدين العام إلى نقص في الغذاء والوقود وغاز الطهي والأدوية والنقد والسلع الأساسية الأخرى، وبحلول أبريل عام 2022، وجدت البلاد أنها أمام استحقاق ديون بقيمة 7 مليارات دولار، في حين أن احتياطي النقد الأجنبي حوالي مليار دولار، وهو ما أدى للتخلف عن السداد لأول مرة منذ استقلال البلاد. بالإضافة إلى أن الحكومة أجلت مناشدة خطط صندوق النقد الدولي بخطة إنقاذ وسعت لإعادة هيكلة نظام السداد، إلى أن تم الإعلان في مايو عدم القدرة على سداد الديون الخارجية التي تبلغ قيمتها 51 مليار دولار، تستحوذ الصين منها على 11 مليار دولار.
وقد شبّه المحللون انهيار الاقتصاد السريلانكي بالفوضى المالية في أواخر التسعينيات في الاقتصادات الكبرى في جنوب شرق آسيا، وحذّر البعض من تحول سريلانكا إلى “لبنان جنوب آسيا” المثقل بالديون، حيث أفاد مسح أممي بأن حوالي 70% من الأسر في سريلانكا تعاني من نقص في استهلاك الغذاء، بسبب وصول تضخم أسعار المواد الغذائية إلى حوالي 57%.
وخلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة، ناشدت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي الدول الأعضاء بتخفيف عبء الديون عن البلدان المثقلة بها، وحاولت التأثير على الصين باعتبار أنها أكبر دائن في العالم، لكن في الواقع يرى محللون أن مشكلة ديون سريلانكا تتجاوز الصين لأن الأمر مرتبط بتغيير تكوين الدين الخارجي والضعف البنيوي للاقتصاد، فالجزء الأكبر من الدين الخارجي لسريلانكا عبارة عن سندات سيادية دولية بلغت 39٪ من إجمالي الدين الخارجي اعتبارًا من عام 2017. وأدت هذه السندات إلى ارتفاع الديون الخارجية الخدمة بسبب طبيعة الدين، وذلك على عكس القروض الميسرة التي يتم الحصول عليها لتنفيذ مشروع إنمائي معين، فإن هذه القروض التجارية ليس لها فترة استرداد طويلة أو خيار السداد على أقساط صغيرة، وهو ما قامت به الصين، فقد كانت هناك فترة سماح لكل قرض حوالي خمس سنوات وفترة سداد تزيد عن 15 عامًا.
تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية
تركت الحرب الروسية – الأوكرانية أثرها سلبًا على سريلانكا حيث مضاعفة أسعار استيراد الوقود والاحتياجات الأساسية، فالأمر قد شمل مضاعفة أسعار الأرز والقمح، بالإضافة إلى أن حظر النفط توريد قد أثر على ندرة وجود الديزل –ارتفاع سعره بنسبة 60%- وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وتعطيل زوارق الصيادين التي من المفترض أن تقضي عشرة أيام في رحلات الصيد، إلى أن اقتصرت على ثلاثة أيام لارتفاع سعر المحروقات.
وقد أشارت تحليلات إلى أن سريلانكا كانت ستواجه هذه الأزمة حتى لو لم تكن هناك حرب، لكن الحرب فاقمت الأمور. فعلى سبيل المثال، لو كان الوقود سيوفر احتياجات لمدة شهرين، فقد بات شهرًا واحدًا. وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” أن القيود التي تفرضها روسيا على صادرات الحبوب الأوكرانية قد تكون ساهمت في الاضطرابات في سريلانكا.
في هذه الأثناء، احتجزت سريلانكا طائرة ركاب روسية تابعة لشركة “إيرفلوت” بسبب العقوبات الدولية المفروضة على موسكو نتيجة للحرب في أوكرانيا، ويقال إن هذه الخطوة جاءت نتيجة قرار صادر من محكمة بناء على طلب من شركة تأجير إيرلندية تزعم أن الطائرة تابعة لها. ووجهت روسيا احتجاجًا معتبرة قرار المحكمة غير مبرر، وطالبت بحل الأمر حتى لا ينعكس سلبًا على علاقات الدولتين خاصةً أن سريلانكا إحدى أشهر الوجهات للسياحة الروسية.
تنافس صيني – هندي
منذ استقلال سريلانكا، تشهد تأثيرًا من الاعتبارات المحلية مثل التنمية الاقتصادية والأمن على خياراتها الخارجية. فعلى سبيل المثال، وقعت اتفاقية أرز المطاط مع الصين عام 1952 لمعالجة نقص الغذاء الوطني، ووقعت على اتفاقية الدفاع والشئون الخارجية مع الحكومة البريطانية لحماية الجزيرة من العدوان الهندي الذي عانت منه الجزيرة.
يأتي الدور الصيني والهندي في سريلانكا ارتباطًا برغبتها في تعزيز هويتها الآسيوية وتعزيز الدعم الدولي المقدم لها. ففي العقدين الماضيين، حصلت سريلانكا على دعم اقتصادي وسياسي وعسكري من كلا الدولتين، وخلال جائحة كورونا، قدمتا مساعدات باللقاحات وإمدادات الأكسجين والقروض والإمدادات الطبية.
ومنذ عام 2005، تزايد الدعم الصيني المقدم لسريلانكا الذي بدأ بتمويل التوسع العسكري لمكافحة المتمردين، والاستثمار في البنية التحتية خاصةً في الجنوب. ورغم عدم استجابة الصين بشأن الديون، لكن لا يزال الباب مفتوحًا أمامها لمزيد من التوسع والاستثمار بصفتها أكبر داعم اقتصادي، كما أبدت الصين استعدادها بتقديم مساعدات إنسانية، ودراسة خطة إنقاذ محتملة مع بنك التنمية الآسيوي للحفاظ على مصالح الصين في الموانئ السريلانكية المطلة على المحيط الهندي في هامبانتوتا وكولومبو.
لكن في ظل عدم القدرة على سداد الديون، اتجهت الحكومة للبحث عن طرق مختلفة لزيادة العملة الأجنبية وحاولت التماس المساعدة من القوى الإقليمية، الهند والصين، فقد تم اقتراح تأجير ميناء هامبانتوتا إلى الصين، الذي لم يكن يولد عائدًا كافيًا وتأجير مطار ماتالا راجاباكسا الدولي إلى الهند.
أما عن الدور الهندي، فتحاول الهند تقديم نفسها كشريك يمكن الاعتماد عليه واللعب على وتر عدم الاستجابة الصينية بخصوص الديون بأنها سبق أن حذرت سريلانكا من مسألة القروض الصينية. وفي ظل انخفاض احتياطيات سريلانكا من العملات الأجنبية في فبراير، تفاوضت الدولة على خط ائتمان بقيمة 500 مليون دولار مع الهند لاستيراد النفط لتشغيل النقل والصناعة، خاصةً أن النفط يمثل 40% من توليد الكهرباء في البلاد.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، قدمت الهند تسهيلات ائتمانية بقيمة 3.5 مليارات دولار أمريكي لشراء المواد الأساسية، وشحنت الهند 40 ألف طن من الأرز في أبريل. وفي الأسبوع الأخير من مايو، كانت نيودلهي مستعدة لتقديم 40 ألف طن من البنزين، و5.6 مليون دولار أمريكي من المواد الغذائية ومسحوق الحليب والأدوية، والموافقة على مساعدة إنسانية بقيمة 16 مليون دولار أمريكي.
يمكن لما تقوم به الهند أن يعزز ثقة سريلانكا، وإظهار قوتها واستقرارها ومكانتها الدولية خاصةً في ظل مساعيها لتشجيع المجتمع الدولي لتقديم الدعم لسريلانكا، وفي نفس الوقت يساهم هذا الدور في تخفيف المخاوف الهندية من النفوذ الصيني. في الجانب الهندي نفسه، يظهر الدعم الذي قدمته دول الحوار الأمني الرباعي، فقد قدمت أستراليا 2.5 مليون دولار أمريكي لتعزيز الأمن الغذائي، ومن المقرر أن يقوم فريق من وزارة الخزانة الأمريكية بزيارة الجزيرة، مما يعكس حرص المجموعة على استغلال التردد الصيني في سريلانكا.
مما سبق، بعد أن نجحت الاحتجاجات في توفيق مختلف الفئات العمرية والوظيفية والعرقية والدينية، والاستحواذ على الاهتمام الخارجي، وإسقاط حكومة قوية في غضون أسابيع؛ تبدأ سريلانكا مرحلة جديدة مع تمديد حالة الطوارئ في البلاد واستعداد البرلمان لقبول أوراق المرشحين للرئاسة.
إذا تم بالفعل اختيار رئيس جديد يوم 20 يوليو، فسيكون تشكيل حكومة من جميع الأحزاب أمرًا صعبًا نظرًا للتباين الكبير بين وجهات نظر تلك الأحزاب، وعدم وجود زعيم واحد قد تحتشد معه مختلف الجماعات خاصةً الأقليات. من التحديات أيضًا، هناك عدم الاستقرار الاقتصادي في ظل توقف الاستثمار الأجنبي والمساعدات الخارجية، وتأخر خطة الإنقاذ من صندوق النقد الدولي، واستغراق مزيد من الوقت في مسألة إعادة هيكلة الديون.
من جانب آخر، تفتح الأزمة التي شهدتها سريلانكا المجال أمام ضرورة تفكير الدول الصغيرة الأخرى المثقلة بالديون حتى يمكنها تجاوز أية صعوبات مستقبلية قد تضاف عليها، خاصةً في ظل الانسحابات المتكررة لرؤوس الأموال الأجنبية والأزمات التي يشهدها العالم مؤخرًا. كما أن الأزمة تعكس تنافس القوى الإقليمية للاستحواذ على نفوذ جديد، وهو ما ظهر في تزايد الدور الهندي في مقابل الصين.
.
رابط المصدر: