مع رجحان استمرار الحرب التي اندلعت في السودان بين قوات الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد محمدان دقلو (الملقب بحميدتي)، في 15 أبريل 2023، يتوقع أن تكون للحرب امتدادات إقليمية واسعة، باعتبار أن السودان يشكل محوراً مهماً في المجال الإقليمي الذي ينتمي إليه. وعليه، تحاول هذه الورقة استكشاف التداعيات الإقليمية للحرب في السودان.
السودان في مجاله الإقليمي
يشكل السودان بمساحته الجغرافية الهائلة (الدولة الثالثة أفريقياً من حيث المساحة)، وتركيبته البشرية الخاصة، منطقةً محورية في ثلاثة مجالات حيوية: شمال أفريقيا، ومنطقة الساحل والصحراء، والقرن الأفريقي. ومن هنا يمكن النظر إلى أزمته السياسية-الأمنية الحالية فيما وراء المعطيات الداخلية، بكونها مظهراً لتحولات إقليمية تطال بؤر التوتر والصراع المتفجرة في هذه المجالات الثلاثة، والمتمثلة في: الأزمة الداخلية الليبية، والوضع السياسي الانتقالي المتأزم في تشاد، والصراع الداخلي الأثيوبي، والحرب الأهلية الكامنة في جنوب السودان وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، فضلاً عن الصراعات الإقليمية المتمثلة أساساً في الصراع المصري-الأثيوبي.
وإذا كان التداخل الكثيف بين أوضاع السودان ودولة جنوب السودان التي انفصلت عنه عام 2011 معروفة (إذ تصدَّر كل موارد النفط المنتجة من حقول جنوب السودان عبر الموانئ السودانية)، فإن الارتباط العضوي بين إقليم دارفور وتشاد لا يحتاج إلى التبيين، فمن هذا الإقليم السوداني انطلقت جل الحركات المتمردة التي انتهت إلى قلب أنظمة الحكم في نجامينا أو هددتها بالسقوط. والحكم نفسه يصدق على علاقات السودان بجمهورية أفريقيا الوسطى التي تعرف صراعا دينياً عرقياً معقداً متوازياً مع سباق روسي روسي-فرنسي على السيطرة والنفوذ في هذا الإقليم. وبالإضافة إلى المثلث الحدودي المصري-الليبي- السوداني، يرتبط جنوب ليبيا عضوياً بالسودان، وبخاصة أن المجموعات المسلحة السودانية تُعد مكوناً رئيساً من مكونات الصراع الداخلي الليبي. وفي منطقة القرن الأفريقي، شكلت حدود السودان مع إقليم تيغراي الإثيوبي محوراً لأخطر حرب أهلية عرفتها إثيوبيا في السنوات الأخيرة، وانعكس الاستقطاب السوداني الداخلي على هذه الحرب التي لا تزال آثارها ملموسة باقية.
وهكذا، فإن السودان بحدوده المفتوحة على سبعة بلدان أفريقية، وبنسيجه الديمغرافي المتنوع، وثرواته المعدنية المعتبرة، يُعد من الدول الإقليمية التي لا يمكن فصل محددات سياساتها الداخلية عن اعتبارات الجوار الجغرافي، ومن ثم يتعين النظر إلى الحرب الأهلية المتفجرة داخلياً في هذا النطاق الإقليمي.
الحالة السياسية في الإقليم: التنظيمات المسلحة الحاكمة والمتمردة
يبدو الصراع الحالي في السودان صداماً بين قوات نظامية وميليشيات مسلحة، إلا أن الحقيقة هي أن السودان عرف على غرار عموم دول المنطقة ظاهرةَ تعدد المجموعات المسلحة وما يترتب عليها من عسكرة العمل السياسي.
فمع سيطرة عمر البشير على السلطة عام 1989، بدأت هذه الظاهرة من خلال ضم الأجنحة الإسلامية المسلحة إلى الجيش، وإخضاع المؤسسة العسكرية لعقيدة أيديولوجية، قبل تشجيع إنشاء مجموعات للدفاع المسلح في الأقاليم المتمردة، مثل قوات حرس الحدود ثم قوات الدعم السريع في دارفور. كما تفرعت عن “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي أسسها جون قرنق وقادت انفصال الجنوب، مجموعةٌ من الحركات المسلحة في كردفان ودارفور والنيل الأزرق تحولت إلى مكونات فاعلة في الحقل السياسي، خصوصاً بعد توقيع اتفاق جوبا في أغسطس 2020. وقد شجعت حكومة البرهان تأسيس مليشيات جديدة يُعتقد أنها ذات تركيبة إخوانية، من بينها قوات ” درع السودان ” النشطة في أقاليم عديدة.
وهكذا ندرك أن الصراع الحالي لا يمكن اختزاله في مواجهة ثنائية بين “الجيش الشرعي” و”المليشيات” المتمردة عليه. وباستثناء مصر، التي لها مؤسسة عسكرية مركزية عريقة، لا تتمتع دول المنطقة بجيوش منظمة، بل تحكمها تنظيمات سياسية مسلحة في كثير من الأحيان تتصارع مع تنظيمات من النوع نفسه. ففي إثيوبيا، تقوم الفيدرالية الإثنية على اندماج الحركات المسلحة في أقاليم الأورومو والأمهرة والتيغراي، مع العلم أن البلاد عانت حرباً أهلية دموية في السنوات الأخيرة ناتجة عن تمرد الجماعات المسلحة من التيغراي، ولا يزال موضوع الإقليم الصومالي في إثيوبيا مطروحاً أيضاً.
وفي إريتريا، يحكم الحزب الوحيد “الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة” التي تعد الغطاء السياسي للتنظيم المسلح الذي أسسه الرئيس أسياس أفورقي “جبهة التحرير الإريترية”. ولا يتعلق الأمر هنا بجيش تقليدي بل بحركة أيديولوجية مسلحة قادت مسبقاً عملية التحرر من السيطرة الإثيوبية، وتصارعت مع تنظيمات أخرى لا تزال تشكل بؤر توتر في داخل البلاد.
وفي تشاد، يحكم تنظيم قبلي-إثني مسلح هو امتداد لجبهة الإنقاذ الوطنية التي أسسها الرئيس السابق إدريس ديبي، وليس الجيش التشادي الرسمي سوى الغطاء الشرعي لهذا التنظيم، الذي يواجه عدة مجموعات سياسية مسلحة أخرى، مثل “جبهة التناوب والوفاق في تشاد”FACT) )، و”اتحاد قوى المقاومة” (UFR) ، و”اتحاد قوى الديمقراطية والتقدم” UFDD) )، وهي المكونات الفاعلة في الحقل السياسي التي تم معها الحوار الوطني الأخير المنطلق في الدوحة والمستمر في نجامينا.
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، ليس حزب “القلوب الموحدة ” الحاكم سوى تنظيم سياسي صغير مدعوم من مجموعة “فاغنر” الروسية، في دولة لا تزال مدار صراع عرقي-ديني بين عدد كبير من التنظيمات المسلحة التي تتصارع على السيطرة والنفوذ على طول البلاد.
وفي ليبيا، نلاحظ نفس ظاهرة عسكرة الحياة السياسية، بانتشار الجماعات السياسية المسلحة المتصارعة؛ من جيش وطني في الشرق وتنظيمات مسلحة في الغرب والجنوب، مع الحضور الملموس للأطراف الإقليمية والدولية في الساحة الليبية.
مسارات التمدد الإقليمي للصراع
من الصعب حالياً التنبؤ في مسار الأزمة السودانية، ولكن يمكن استشراف سيناريوهَين رئيسين بخصوص مستقبل هذه الأزمة في أبعادها الداخلية وارتداداتها الإقليمية.
السيناريو الأول، التهدئة التي تسعى إلى فرضها المجموعة الدولية والعديد من الأطراف الإقليمية. ولئن كان هذا السيناريو احتمالاً قائماً، إلا أنه لن يُحل المشكلة في جذورها المعقدة، بل سينتج عنه انتقال الصراع إلى مناطق التوتر التقليدية، بما بدأ عملياً في غرب دارفور وكردفان، حيث يأخذ الصراع شكل الحرب الأهلية العرقية. ويكمن الخوف مستقبلاً في قيام حالة قريبة من وضعية الكونغو الديمقراطية، حيث لا يزال الصراع في إقليم شمال كيفو، ذي الموارد المعدنية، مستمراً بعد نهاية الحرب الأهلية، بما له من أبعاد إقليمية تشمل دولاً عديدة مثل رواندا وأوغندا وبوروندي.
السيناريو الثاني، استمرار الصراع وإطالة أمده بالنظر إلى حالة توازن القوة بين الطرفين المتحاربين وصعوبة الحل التوافقي. في هذه الحالة من المتوقع أن تتجذر وتتوسع السياقات الإقليمية للصراع، وقد تتحول الساحة السودانية إلى مسرح لصراع إقليمي ودولي أكبر. ووفق هذا الاحتمال ستتركز المواجهة حول منطقة النيل، التي هي اليوم مدار صراع حاد حول الموارد المائية بين عشر دول أفريقية، في مقدمتها مصر وإثيوبيا؛ ومنطقة البحر الأحمر الضرورية لأمن الجزيرة العربية، وهي موضوع اهتمام متزايد من قوى دولية من بينها روسيا وتركيا فضلاً عن ارتباطها بدول القرن الأفريقي التي تعتمد على موانئها؛ ومناطق الثورة المعدنية في غرب السودان التي يُعتقد أن روسيا حاضرة بقوة فيها وهي في قلب تفاعلات أزمات الساحل الأفريقي.
ومع أن الدول المجاورة للسودان والقوى الدولية الكبرى لم تعبّر إجمالاً -إلى حد الآن- عن مواقف صريحة ودقيقة من الأزمة السودانية باستثناء الموقف الدبلوماسي التقليدي الداعي إلى وقف إطلاق النار وتحقيق المصالحة السلمية بين الطرفين المتحاربين، إلا أنه يمكن افتراض أن إطالة أمد الصراع قد يؤدي إلى قيام محورين إقليميين لهما مظلتهما الدولية:
الأول، محور مُسانِد للجيش السوداني من خلفيات ومحددات متغايرة، ويجمع بين أطراف ليست بالضرورة حليفة أو متناغمة المصالح. يضم هذا المحور مصر، التي لا تخفي دعمها لحكومة البرهان وحرصها على استمرار الجيش في السلطة ومن ثم التحفظ على مبادرة إحالة السلطة إلى القوى المدنية، وهو موقف يتناسب مع رؤية القيادات الحاكمة في القاهرة لمسألة السلطة السياسية في بلد يعاني من مصاعب الاندماج الوطني. كما ينتمي لهذا المحور تشاد التي تعاني من المعارضات السياسية المسلحة، وتتهم قوات الدعم السريع بالوقوف مع المعارضة الخارجية، وتتخوف من حلف بين قوات الدعم السريع والجيش الوطني الليبي والجماعات العسكرية التشادية النشطة في الحدود المشتركة بين تشاد وليبيا والسودان. وقد تجد حكومة جنوب السودان نفسها مضطرة أيضاً للوقوف مع قوات البرهان بالنظر إلى ارتباط مصالحها العضوية بالخرطوم من حيث الجوانب الأمنية والاقتصادية. وفي الاتجاه نفسه، يعتقد أن تركيا التي كانت لها علاقة وثيقة بنظام عمر البشير وكانت تتطلع إلى إقامة قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن السودانية ستنحاز إلى قوات البرهان، وقد تتدخل في النزاع من طريق وكلائها في ليبيا.
الثاني، محور مُساند لقوات الدعم السريع، يضم إثيوبيا وإريتريا، وهما الدولتان المحوريتان في القرن الأفريقي. وكان الفريق حميدتي قد زار بالفعل إثيوبيا في يناير 2023، كما زار إريتريا في مارس 2023، في إطار التنسيق السياسي مع قيادتي الدولتين. ووفق المعلومات المتداولة، يُعتقد أن الفريق حميدتي يتمتع بروابط قوية مع النظام الحاكم في جمهورية أفريقيا الوسطى. ولعل الذراع الدولية المهمة لحميدتي هي روسيا التي يُعتقد أنها حاضرة بقوة في مناطق الثروات المعدنية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وقد سبق لحميدتي أن زار موسكو والتقى بشخصيات رفيعة فيها، كما يشاع أن له ارتباطات قوية بقوات فاغنر الروسية التي تدعم عدداً من حلفائه في المنطقة.
أما إسرائيل فتحتفظ بعلاقات قوية مع البرهان وإن كانت على صلة بخصمه في الوقت نفسه، لذا فإن هدفها الأساس هو عدم التفريط في ورقتها السودانية ومن ثمّ عدم إظهار الانحياز لأي من الجهتين انتظاراً للحظة الحسم. في حين تقف الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي مع مسار الانتقال الديمقراطي المدني، وتبذل كل جهودها لإيقاف الحرب من أجل استكمال مخطط الحل السياسي، ولئن كانت تقف مبدئياً مع المؤسسة العسكرية “الرسمية ” إلا أنها تحافظ على صلاتها بقوات الدعم السريع التي التي تعول عليها الدول الأوروبية، خصوصاً في ملف محاربة الهجرة غير الشرعية.
استنتاجات
لا يمكن عزل الصراع السوداني الداخلي عن المجال الإقليمي في شمال أفريقيا، والساحل والصحراء، ومنطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وفي حال استمرار الصراع وإطالة أمده، ستتفاقم مخاطر التمدد الإقليمي في منطقة تتميز بعسكرة المشهد السياسي، وضعف الجيوش الوطنية المركزية، وكثرة التنظيمات المسلحة والحركات الانفصالية، ومن هذا المنظور ستكون الحرب في السودان الشرارة لاشتعال نار الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم الواسع.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/scenario/azma-mutaharika-altadaeiat-al-iqlimia-lilharb-fi-alsuwdan