ستيفن روش
نيوهافين ــ إن التنبؤ بالأزمة القادمة ــ المالية أو الاقتصادية ــ لعبة لا يمكن الفوز بها. صحيح أن كل أزمة لها بطلها الذي حَـذَّر عن حق من شيء ما على وشك أن يأتي. وبحكم التعريف، قوبِل البطل في كل مرة بالتجاهل (فاندلعت الأزمة). لكن سجل التنبؤ الحديث يحتوي على سبب للحيطة: فكل من يتنبأ بشكل صحيح بحدوث أزمة نادرا ما يصيب مرة أخرى.
الواقع أن أفضل تصرف من قِبَل خبراء الاقتصاد هو أن يعكفوا على تقييم نقاط الضعف. إن النظر إلى الاختلالات التي تعيب الاقتصاد الحقيقي أو الأسواق المالية يعطي حسا بالعواقب المحتملة التي قد تترتب على صدمة كبرى. ولا يتطلب الأمر الكثير من الجهد لتصحيح عمل الاقتصادات والأسواق. لكن التصحيح المعتاد يختلف كثيرا عن التعامل مع أزمة. إذ تشكل شدة الصدمة ودرجة الضعف أهمية كبيرة: فالصدمات الكبرى التي تتعرض لها الأنظمة التي تعاني من ضعف شديد وصفة أكيدة للأزمة.
في هذا السياق، يكمن مصدر الضعف الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق في اعتقادي في حالة الميزانيات العمومية المفرطة في التوسع للبنوك المركزية. ويرجع قلقي إلى ثلاثة أسباب.
أولا، لا مجال لإنكار حقيقة مفادها أن ميزانيات البنوك المركزية العمومية مفرطة في التوسع حقا. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، كان مجموع أصول البنوك المركزية الكبرى ــ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان ــ 14.5 تريليون دولار أميركي، وهذا أقل قليلا من الذروة التي بلغت نحو 15 تريليون دولار في أوائل عام 2018 وأكثر من 3.5 أضعاف مستوى ما قبل الأزمة الذي بلغ 4 تريليون دولار. ويأتي استنتاج مماثل من قياس حجم الأصول تبعا لحجم اقتصاداتها على التوالي: فيأتي بنك اليابان في الصدارة بنحو 102% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، ويليه البنك المركزي الأوروبي بنحو 39%، ثم بنك الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 17% فقط.
ثانيا، كان توسع الميزانية العمومية للبنوك المركزية تجربة سياسية فاشلة في الأساس. صحيح أنها كانت تجربة ناجحة في دعم الأسواق المنهارة قبل أكثر من عقد من الزمن، في أوج الأزمة في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009. لكنها فشلت في تحقيق أي إنجاز في إطلاق التعافي الاقتصادي القوي.
تصور القائمون على البنوك المركزية أن ما نجح خلال الأزمة سينجح بذات القدر خلال فترة التعافي. لكن هذا لم يحدث. فقد ارتفع مجموع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان بنحو 5.3 تريليون دولار في الفترة من 2008 إلى 2018، أو ما يقرب من نصف إجمالي توسع ميزانيات بنوكها المركزية مجتمعة والذي بلغ 10 تريليونات دولار خلال ذات الفترة. ويُـعَد المبلغ المتبقي (4.7 تريليون دولار) المعادل الوظيفي لضخ السيولة الهائل الذي دعم أسواق الأصول على مدار فترة ما بعد الأزمة.
ثالثا، عادت البنوك المركزية مرة أخرى، وهي غارقة في حالة من الإنكار، إلى رفع الرهان على توسيع الميزانية العمومية كوسيلة لتحفيز التعافي الاقتصادي الهزيل. وقاد تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في أواخر عام 2018 الطريق، فعكس أولا اتجاه التطبيع المخطط لسعر الفائدة الرسمي ثم سمح لميزانيته العمومية بالنمو مرة أخرى (لأغراض إدارة الاحتياطي حسب زعمه) بعد التخفيضات المنتظمة من منتصف 2017 حتى أغسطس/آب 2019. وتظل المشتريات من الأصول عند مستويات مرتفعة بالنسبة لبنك اليابان كعنصر بالغ الأهمية في حملة إنعاش الاقتصاد في إطار “اقتصاد آبي”. وقد سارعت رئيسة البنك المركزي الأوروبي المنصبة حديثا كريستين لاجارد، أحدث محافظة للبنوك المركزية في العالم، إلى التأكيد علنا على أن السلطات النقدية الأوروبية سوف “تفتش وتبحث في كل مكان” ــ وهو ما يفترض أن يشمل الميزانية العمومية.
لماذا يُـعَد كل هذا مريبا إذن؟ في عصر يتسم بانخفاض معدل التضخم، يبدو من الواضح أن البنوك المركزية التي تستهدف التضخم ليس لديها ما تخشاه من الاستمرار في ارتكاب الأخطاء على جانب الملاءمة النقدية غير الاعتيادية، سواء كانت تقليدية (أسعار الفائدة الرسمية القريبة من حد الصِفر) أو غير التقليدية (التوسع في الميزانية العمومية). تكمن المشكلة جزئيا في تفويض استقرار الأسعار ذاته ــ المعمول به منذ فترة طويلة، لكنه أصبح غير مناسب الآن كمرساة للسياسة النقدية. فهذا التفويض يتناقض بشكل بائس مع التضخم الأدنى من المستوى المستهدف بشكل مزمن والمخاطر المتنامية التي تهدد الاستقرار المالي.
تُـعَد حالة عدم الاستقرار المحتملة في سوق الأسهم الأميركية مثالا واضحا على ذلك. فوفقا للمقاييس المستشهد بها على نطاق واسع التي وضعها رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل روبرت شيلر، أصبحت أسعار الأسهم نسبة إلى الأرباح الطويلة الأجل المعدلة دوريا حاليا أعلى بنحو 53% من متوسطها خلال فترة ما بعد عام 1950، وأعلى بنحو 21% من متوسطها في فترة ما بعد الأزمة منذ مارس/آذار 2009. وما لم يحدث تسارع كبير للنمو الاقتصادي ونمو الأرباح أو جولة جديدة من التوسع في ميزانية بنك الاحتياطي الفيدرالي العمومية، فمن غير المرجح أن نشهد المزيد من الارتفاعات الحادة في أسواق الأسهم الأميركية. في المقابل، سوف تؤدي أي صدمة مميزة أخرى ــ أو تسارع مفاجئ في التضخم وارتفاع مصاحب في أسعار الفائدة ــ إلى رفع الاحتمالية الواضحة لحدوث تصحيح حاد في سوق الأسهم الأميركية المبالغ في تقدير قيمتها.
تكمن المشكلة أيضا في الاقتصادات الحقيقية الضعيفة القريبة للغاية من سرعة التوقف. فمؤخرا خفض صندوق النقد الدولي تقديراته لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2019 إلى 3% ــ مسافة متوسطة بين الاتجاه الذي دام 40 عاما بنحو 3.5% والعتبة المرتبطة عادة بفترات الركود العالمية (2.5%). ومع اقتراب العام من نهايته، يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة إلى ما دون 2%، أما توقعات نمو منطقة اليورو واليابان في عام 2020 فهي أقل من 1%. بعبارة أخرى، لا تكتفي الاقتصادات المتقدمة الكبرى بمغازلة الأسواق المالية المبالغ في تقدير قيمتها والاستمرار في الاعتماد على استراتيجية فاشلة في التعامل مع السياسة النقدية، بل إنها تفتقر أيضا إلى أي سند للنمو في لحظة حيث أصبحت في مسيس الحاجة إليه.
في مثل هذا العالم المعرض للمخاطر، لن يتطلب الأمر الكثير لإشعال شرارة الأزمة في عام 2020. فعلى الرغم من المخاطر التي تنطوي عليها ممارسة لعبة لا يمكن الفوز بها، تأتي ثلاثة عوامل على رأس قائمة تخوفاتي: سياسات الحماية، والشعبوية، والخلل الوظيفي السياسي. ويُـعَد الميل الدائم نحو سياسات الحماية أمرا مثيرا للانزعاج بشكل خاص، وخاصة في أعقاب اتفاق “المرحلة الأولى” التجاري الفارغ بين الولايات المتحدة والصين. وربما تكون حملة “الأمة الهندوسية” التي يقودها رئيس الوزراء نارندرا مودي في الهند التطور الأكثر إزعاجا في التحول العالمي نحو الشعبوية. كما تدفع ملحمة مساءلة العزل الأميركية الكبرى الخلل السياسي في واشنطن إلى منطقة مجهولة.
من المحتمل للغاية أن تكون الشرارة شيئا آخر ــ أو ربما لا تحدث أي شرارة على الإطلاق. لكن تشخيص الضعف يجب أن يؤخذ على محمل الجد، خاصة وأنه يمكن التحقق من صحته من أكثر من منظور ــ الاقتصاد الحقيقي، وأسعار الأصول المالية، والسياسة النقدية المضللة. وبإضافة صدمة إلى هذا المزيج سرعان ما يصبح وقوع الأزمة في 2020 احتمالا شديد الترجيح.
رابط المصدر: