خالد عكاشة
يُنظر إلى منطقة بحر الصين الجنوبى باعتبارها المسرح الذى سيشهد قريباً متغيرات استراتيجية كبيرة، ما بين فرض الصين لإرادتها باستعادة ضم تايوان بالقوة العسكرية، وبين قدرات الولايات المتحدة فى تعطيل هذا الأمر عبر دعم قدرات «تايبيه» الذاتية، أو من خلال الانخراط المباشر فى حال اضطرت إلى ذلك. داخل تلك الاحتمالات هناك العديد من التفاصيل والأسئلة التى باتت تصوغ نفسها تلقائياً، وتتردد على ألسنة المراقبين وصنّاع القرار فى الدول الكبرى مع كل إبحار لسفينة عسكرية على ضفاف هذه المياه الشاسعة الغامضة، أو خلال المناورات والدوريات البحرية التى لم يخلُ شهر واحد فى العام الماضى منها. بامتداد 2.5 مليون كم مربع يقع…
منذ شهور بدأت تايوان تتجهز بقوة بحرية استثنائية، ممثلة فى الطرادات البحرية المقاتلة المجهزة بقدرات تسليحية فائقة، حيث تضم منظومة صواريخ متوسطة المدى أسرع من الصوت مضادة للطائرات، مع مدافع رشاشة ومدفع بحرى كبير «OTO Melara» عيار (76 مم) على سطحها الأمامى، كما ضمت 8 صواريخ دون سرعة الصوت مضادة للسفن. هذا ظهر أثناء حضور الرئيس التايوانى إطلاق أول مدمرة صواريخ بحرية من طراز (TUO CHIANG) 15 ديسمبر الجارى، بعد أيام من ظهور نسخة أخرى حديثة مع البحرية التايوانية أقل تسليحاً مخصصة للدوريات والتأمين البحرى، لكنها قابلة للتحويل للنمط التسليحى الفائق بسهولة. تم الترويج حينها لهذا التطوير البحرى الدفاعى للجزيرة شبه المستقلة باعتباره تدعيماً للعنصر العسكرى فى مواجهة الصين، الجارة الأكبر على البر الرئيسى، وأُطلق على المدمرة الجديدة المنتجة محلياً لقب «قاتلة حاملات الطائرات» فى حين تنتظر البحرية التايوانية أن تستقبل ما مجموعه (11 طراداً حاملاً للطائرات الشبحية) على مدار السنوات الخمس المقبلة، على أن تبدأ ستة منها العمل فى 2023، وخمسة بحلول عام 2025.
بكين بدورها لم تكن بعيدة عن تتبع ورصد مثل هذا التحديث والنقل النوعى للقدرات العسكرية التايوانية، الموجَّه بالأساس لها ولطموحات إعادة تشكيل تلك المنطقة وفق الاستراتيجيات الصينية. مما دفعها هذا العام إلى القيام بأكبر تمرين عسكرى «نوعى»، مثّل هجوماً برمائياً ضخماً على جزيرة «هاينان» التى تماثل فى مكونها نسخة طبق الأصل بالحجم الطبيعى لجزيرة تايوان، من حيث المساحة والمكون الساحلى وطبيعتها الجغرافية. جرى هذا التمرين فى منتصف ديسمبر الجارى، مكوَّناً من عديد التدريبات الهجومية «الجوية المحمولة بحراً» والبرمائية، والبحرية التى افترضت وجود قوة دولية محتملة قادمة لدعم الجزيرة تزامناً مع شن هجوم قادم من البر الصينى. نُفذ الجهد الهجومى من ثلاثة محاور مختلفة، واستُخدمت فيه الذخيرة الحية فى مناطق حُظرت فيها الملاحة تماماً طوال الأيام الثلاثة التى استغرقها، ووفق مساحات الحظر تلك استُنتج أن حجم القوات التى شاركت فى هذا التمرين كانت ضخمة، فضلاً عما تم حشده من قوة جوية على البر المقابل للجزيرة، المأهول منها ظل على وضع الاستعداد للتدخل، فى حين تولت المسيرات مهام الاستطلاع والتصوير الجوى وبث المعلومات الاستخباراتية للقوات المشاركة طوال أيام العمل العسكرى.
فى المقابل واشنطن مع إدارة بايدن أعلنت، منذ يومها الأول، أن الصين ومشروعها الذى خرج عن «الطوق» من وجهة نظرها، تمثَّل اهتمامها وجهدها الرئيسى فى المستوى الاستراتيجى، والقدرة العسكرية جزء منه بلا شك. لذلك كان تحالف «أوكوس» سريعاً وصريحاً فيما تمت صياغته بينها وبين بريطانيا وأستراليا، وما اشتمل من توسيع لنطاق تقنية الغواصات العاملة بالوقود النووى والقادرة على حمل صواريخ ورؤوس، يمكنها أن تعادل وتتفوق على التطوير الصينى المناظر، والأهم أن نطاق عملها يظل قريباً من المسرح الذى تريد الصين أن تستحوذ على اليد العليا فيه. هذا قفز بساحة المحيطين الهندى والهادى وبمصطلح «Indo – Pacific» لتصبح ساحة لتنافس أمنى استراتيجى لن يقف عند حد الدول المنخرطة فيه من التحالف الغربى، بل قد يشمل جهداً جديداً لضمانة اصطفاف مجموعة من الحلفاء الرئيسيين فى المنطقة. هذا شمله جزء كبير من زيارة «كامالا هاريس» لكل من فيتنام وسنغافورة فى أغسطس الماضى، ربما كان يهم البلدين الوقوف على حجم تقنيات الأمن الإلكترونى والذكاء الاصطناعى وقدرات الأعماق البحرية، التى ستشهدها المنطقة التى يطلون عليها وأُعلن عنه فى طيات تحالف «أوكوس». فضلاً عن استشعارهما بقلق من عدم إفصاح الولايات المتحدة عن المدى الذى يمكنها المضىّ تجاهه فى حال تطور شكل التمدد الصينى بدائرة بحر الصين الجنوبى فى حالة تايوان، وغيرها من المهددات.
فبالنسبة لهاتين الدولتين وغيرهما، مثل الهند واليابان، فقد صاروا أمام حتمية زيادة إنفاقهم العسكرى رغم تأكيدات واشنطن التزامها تجاه تأمين جنوب شرق آسيا ضد الإكراه والترهيب الذى باتت الصين تمارسه ضد مصالح تلك الدول، وقد ظلت لعقود مرتكنة من الناحية العسكرية على دفء الغموض الاستراتيجى الأمريكى الذى كان فعالاً فى معطيات غير ما هى عليه اليوم بالتأكيد. لهذا أكد مؤخراً «مارك ميلى»، رئيس أركان الجيوش الأمريكية، أمام «منتدى آسبن الأمنى» الذى عُقد نوفمبر الماضى، تمسُّك واشنطن بمفهومها للردع فى وقت تمتلك فيه القدرة على إيقاف أى هجوم صينى باتجاه جزيرة تايوان، مشيراً إلى أن قرار التدخل العسكرى من عدمه سيظل رئاسياً، فى الوقت الذى حاول فيه إرسال رسالة طمأنة ببعض من الإفصاح عن التقديرات الأمريكية، التى ترى أن بكين لن تقوم بعمل عسكرى ضد الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتى على الأقل خلال عامين قادمين.
فهل تقوم تلك التقديرات الأمريكية على قراءة دقيقة لمكونات المشهد، الذى سال بأسرع مما يتوقع الكثيرون، وبات يحمل معه أكثر من تساؤل يمس عمق القدرات الأمريكية فى مسرح عمليات تزدحم فيه، بجوار السفن العابرة، الاستراتيجيات واقتصاديات الحلفاء وأمنهم ومستقبل شراكاتهم أمام ما صار يطلق عليه «ذروة الصين».