بدأت أجواء الدعاية الانتخابية تظهر على الساحة السياسية والاجتماعية في العراق في ظل انقسامات سياسية ناتجة عن تداعيات داخلية تتعلق بتعدد الطوائف والاثنيات والقوميات ونزاعات وصراعات إقليمية ودولية في المنطقة على النفوذ، وفي ظل توافق سياسي هش في بلد خرج من احتجاجات شعبية مضادة للطبقة السياسية الحاكمة فيه.
مع ذلك، مشهد الانتخابات النيابية مابعد الاحتجاجات أخذ يفرض نفسه، إذ يعد الاستحقاق الانتخابي مرحلة مهمة على درب التحول الديمقراطي، ورهانا على بروز جيل سياسي جديد يفرز مخرجات سياسية تختلف إلى حد ما عن المراحل السابقة، في ضوء الرهان على التغيير الحاصل في قانون الانتخابات ومفوضية الانتخابات والتغيير في وعي المواطن العراقي وحماسه لرفض كل ما يتعلق بالقوى السياسية التقليدية القديمة، لكن هذا الاستحقاق والتفاؤل نحو التحول لا يحجب مشاهد واحتمالات مقلقة عن ديمقراطية متوعكة نتيجة مشاكل بنيوية وطبقات سياسية منقسمة ليس بسبب انتمائها الحزبي أو بسبب الزعامات الشخصية فحسب، بل تبعاً لانقساماتها الطائفية والعرقية والإيديولوجية، ناهيك عن تدخلات خارجية وسلطانيّ المال والفساد وخاصة في مواسم الانتخابات.
في ظل هذه المعطيات ليس هناك من توقعات ايجابية متفائلة، بالعبور نحو واقع سياسي يخرج البلاد من حالة متردية مفتوحة تتقاسمها أحزاب منذ ١٨ عام يحكمون بمنطق التوافق والمحاصصة والشعارات.
لكن في ظل أي ديمقراطية نيابية سليمة يعد انتخاب أعضاء مجلس النواب الآلية التي تضع البلاد على سكة الحوكمة الرشيدة القائمة على أساس التنمية المستدامة وتطوير المؤسسات، كما تسمح الانتخابات بتعزيز اللامركزية، وزيادة إسهام المواطن في صناعة القرار وإدارة الشأن العام.
أما في العراق فالقضية مختلفة إذ كل المعطيات تشير إلى أن الانتخابات القادمة لن تكون الحد الفاصل لترتيب المشهد السياسي الذي نتج عن تسويات وصفقات في تشكيل الحكومات السابقة وتقاسم السلطات والثروات مع الشك بحصول اختراق كبير يكسر المعادلة السياسية التي تتلخص بالمحاصصة والطائفية للمكونات الثلاث سواء في الرئاسات الثلاث أو في بقية مفاصل العملية السياسية، فمن المتوقع أن تبقى القوى السياسية الرئيسة تحت قبة البرلمان دون تغيير كبير على الأرجح في ميزان القوى لصالح أي طرف سوى تخلل المعادلة داخل المكونات، فالبيت الشيعي انشطر إلى أكثر من خمس تحالفات متنافسة وغير متفاهمة، مع تعقيدات داخل البيت السني والكردي، ليست أفضل حالا من البيت الشيعي ولكن الأرقام قد تكون كما كانت في السابق مع ميلان طفيف لصالح هذا الطرف أو ذاك، مع صعود محدود للقوى المستقلة والشبابية التي قد تضطر للتحالف مع القوى السابقة أو تفقد فاعليتها وحماستها وعمقها الشعبي بسبب انخراطها في الشأن السياسي وعدم قدرتها تقديم شيء يذكر.
ورغم كل هذه المؤاخذات يبقى هنالك ترقب لدى العراقيين لتشكيل مشهد ما بعد الاحتجاجات يعمل على ترتيب أوضاع العملية السياسية وتشكيل تحالفات حاكمة قوية ومنسجمة ومرتبطة بنتائج الانتخابات تأخذ بنظر الاعتبار مشاكل الجميع بين الأطراف الثلاثة ذاتيا وعلاقتها مع الأطراف الأخرى وخاصة حل المشاكل بين بغداد وكردستان.
التشاؤم والإحباط لدى الناخب العراقي سينعكس بضعف مشاركته في الانتخابات مما يتيح للقوى التقليدية أن تبقى مهيمنة على العملية السياسية.
في ضوء ذلك تطرح مسألة الانتخابات المبكرة في العراق جملة من الأسئلة بحاجة إلى إجابات:
1- هل سيتمكن العراقيون من انتخاب مجلس نواب جديد، يضم شخصيات سياسية جديدة قادرة على ضمان التغيير والإصلاح المطلوب؟.
٢- هل ستسمح القوى السياسية للمواطن العراقي أن يسهم بفاعلية في المجال السياسي، فيما لو شارك في الانتخابات عبر احترام رغبته بالتغيير والإصلاح أم سينتهي دوره بعد الاقتراع؟.
٣- كيف سيتمكن العراق من التواجد في ظل توازنات وتفاعلات إقليمية ودولية جغرافية دقيقة متداخلة، تترجم إلى توازنات سياسية داخلية في ظل تزايد الصراع بين إيران وأمريكا وحلفاءهما؟.
٤- هل سيكون مشهد التقاطعات والتدخلات الإقليمية والدولية حاضرا بقوة في ملف الانتخابات العراقية وتشكيل الحكومة القادمة كما كان سابقا؟
٥- هل ستقوض الأجندات الخارجية وطموحات القوى السياسية التقليدية خيارات المواطن المحتج، ومساعي المرجعيات الدينية في ضمان إجراء انتخابات نزيهة غير مزورة بعيدة عن سطوة السلاح والمال السياسي والتأثير الطائفي؟.
إجابة هذه التساؤلات لدى القوى السياسية التي ستشارك في الانتخابات وبالإمكان تحقيق المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنين عبر ضمان نزاهة الانتخابات وعدالة الفرص واحترام نتائج الانتخابات واحترام الشخصيات الجديدة التي ستصل أول مرة للبرلمان بإعطائها الدور والمكانة في العمل السياسي دون مصادرة لإيصال رسالة للمواطن بإيجابية المشاركة وتحقيق طموحاته بالتغيير، وهذا يتم عبر تخفيف منسوب المحاصصة والتوافقات في تشكيل الحكومة وتقلد المناصب واحترام رأي وإرادة المواطن العراقي، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن يكون سياق العمل التشريعي والرقابي والحكومي ينسجم مع تلك المطالب والاستحقاقات لاستعادة ثقة المواطن الذي قاطع الانتخابات عبر جره للمجال السياسي وهذا حقيقة لابد أن تعمل عليها القوى السياسية ولو نسبيا بإشعار المواطن بدوره في الفعل السياسي.
أما على صعيد التجاذبات الإقليمية والدولية إزاء العراق، فلابد أن تكون الإجابة استمراراً للنهج القائم على احتواء المعطيات والمتغيرات الحاصلة في المنطقة مع توجيه وتحرك حذر تجاهها، بما ينعكس على حفظ مصالح العراق من تأثير تداعيات الصراع الإقليمي وعدم جره لتجاذبات المحاور المتشكلة ما يعمل على إضعاف موقف العراق ويجعله ساحة للتدخل وعدم الاستقرار، وهذا يكون عبر تقوية منظومة الرقابة على ملف العلاقات الخارجية وتوسيع دائرة مشاركة القوى السياسية الوطنية بهذا الملف وتوفير غطاء سياسي داعم وموحد مع توفير أدوات تنفيذ السياسة الخارجية العراقية، وكلما كان هنالك تشاركية أوسع وتماسك أقوى داخليا أنعكس ذلك على صعيد الملف الخارجي، وهذه الإجابة ممكنة التحقق كون العراق لديه مستلزمات ومقومات تسمح له أن يكون محور فاعل ومحايد يكسب الجميع لقضيته، وهذا إذا ما حصل سينعكس على مسألة إعادة الإعمار والبناء والتنمية والاستقرار المطلوب لتجاوز التحديات واستثمار الفرص المتاحة عبر الأخذ بإجابات الأسئلة المطروحة بعد الانتخابات القادمة في العراق.
رابط المصدر: