هذه الأسباب وغيرها التي تلقي شرائح مجتمعية كبيرة من الاوربيين بها على عاتق الأحزاب التقليدية التي لم تحاول معالجتها كما ينبغي في نظرهم، قد خلق حالة قلق مستمر وجوا مشحونا لدى بعض الناس ضد السياسات الحالية المتبعة، مما دفع ذلك الكثير من الناخبين إلى تغيير خياراتهم سخطا…
ما هي أسباب صعود احزاب اليمين المتطرف وخصوصا في أوروبا؟ وكيف ستكون تأثيرات هذا الصعود عالميا وبالخصوص على المسلمين؟
الحركات اليمينية والأحزاب المتطرفة في أوربا التي تبالغ في مناهضتها لوجود الاجانب هي ليست حالة غريبة أو وجود استثنائي آني، إنما هي ظاهرة كائنة ومعروفة منذ القدم. الجديد في هذه الظاهرة هو أن الأحزاب اليمينية المتطرفة قد تألق نجمها وبرزت سطوتها بشكل متزايد مع حركة الزمن، بعدما كانت أحزابا معزولة مغمورة لا تنتخبها إلا قلة من الناس، حيث تبقى عاجزة عن تولي السلطة، بل حتى في المشاركة في حكومات هذه الدول.
بدأ حديثاً العد التنازلي للأحزاب التقليدية الحاكمة في دول أوربا الغربية، في حين تنامت الأحزاب اليمينية المتطرفة وازدهرت آفاقها إذ أصبحت حصصها من أصوات الناخبين ملموسة في كل الإنتخابات التي جرت خلال العقدين الأخيرين بشكل عام وخصوصا في العقد الأخير منهما.
لقد توضحت الصورة خلال أزمة عام 2008م الإقتصادية والمالية التي ضربت أوربا بعد انهيار البنك الأمريكي العملاق “ليمان بروذرز”. كردة فعل للأزمة الإقتصادية آنذاك فرضت السلطات المعنية تقشفا في الصرف أدى إلى تقلص في مساحة الرفاه الإجتماعي وسخط من بعض شرائح المجتمع المتضررة في معاشها وسبل رفاهها. منذ ذلك الحين بدأت الأحزاب اليمينية في حصد أصوات الناخبين في كل عملية انتخابية جديدة حتى بانت النتائج المتميزة في الإنتخابات المحلية والفيدرالية والانتخابات الأوربية الأخيرة، إذ حصلت الأحزاب اليمينية على نسب قياسية من أصوات الناخبين وخصوصا في دول أوربا الغربية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا والنمسا والسويد وغيرها، مما أربك هذا الحالة السياسية بشكل عام وجعل هذه الأحزاب فارضة لنفسها كي تقود سدة الحكم أو على الأقل المشاركة فيه!
لم تقتصر هذه الظاهرة الجديدة على بلدان أوربا الغربية فحسب إنما مضت الحالة أيضا في دول أوربا الشرقية. فحزب “اتاكا” البلغاري وحزب “فيدس” و “يوبيك” المجريان وحزب “القانون والعدالة” البولندي وغيرها هي أفضل أمثلة على ذلك، وتناغي هذه الأحزاب أحزاب اليمين المتطرف في أوربا الغربية مثل حزب “إخوة إيطاليا” و “الرابطة” الإيطاليين وحزب “الجبهة الوطنية” الفرنسي، والحزب “القومي” وحزب “البديل” الألمانيين، وحزب “الشعب” الدانماركي، وحزب “الشعب والحرية” الهولندي و”التحالف الفلمنكي الجديد” وحزب “الفلامز بلانك” البلجيكيين، وحزب “الحرية” النمساوي وغيرها.
شكلت هذه الأحزاب كتلة كبيرة في البرلمان الأوربي خلال الانتخابات الأوربية الأخيرة التي جرت بين السادس والتاسع من شهر حزيران “يونيو” الماضي، سميت بـ “نادي اليمين الأوربي” حيث تلتقي هذه الأحزاب، وان اختلفت في أمور كثيرة، في أمرين رئيسيين هامين وهما “النزعة القومية ورفض المهاجرين”، حيث ترفض هذه الأحزاب اليمينية الإندماج مع الثقافات الأخرى معتبرة إياها تهديدا لهويتها القومية. تنامي الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوربا وانجرار الاوربيين في منح أصواتهم الإنتخابية لها هو ردة فعل قوية ضد السياسات المتبعة من قبل الأحزاب التقليدية الحاكمة التي كانت سببا مباشراً أو غير مباشر في صنع هذه الأزمات بمختلف ميكانيكياتها! هذه الأزمات المبنية على أصول الخلل في الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتي حولت خيارات الناخبين نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة، يمكن إيجاز بعضها بما يلي:
أولا/ تنامي الهجرة إلى أوربا: تنامت الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى أوربا الغربية في الآونة الأخيرة بشكل حاد وخارج عن نطاق السيطرة، إذ بلغت مستويات فاقت الاستيعاب مما أثقل كاهل الدول المضيفة للاجئين إداريا واقتصاديا وماديا. توسعت مطالب دوائر الضمان الإجتماعي ولوازمها من أجل تأمين احتياجات المهاجرين من جهة، وتزايدت بواعث المنافسة على مواقع التوظيف والعمل في دوائر ومنشآت الدول من جهة أخرى. هذا الكم المتزايد من المهاجرين هو حصيلة أجواء جيوسياسية واقتصادية وحروب أهلية وغير أهلية كان للغرب يد فاعلة في صناعتها!
الحروب والأوضاع غير المستقرة الناتجة عنها في كل من أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من جهة، والحرب الروسية الأوكرانية التي تلتها من جهة أخرى، كان لها الأثر الكبير في هروب جماعي للمهاجرين من أوطانهم المبعثرة إلى أماكن الأمان والسلامة. فوق هذا وذاك لعب كل من ” الربيع العربي” و”مشروع الشرق الأوسط الكبير” دورا هاما في نشر الفوضى العارمة في البلدان المستهدفة وضاعف نسب الهجرة الجماعية منها إلى أوربا الغربية أيضا.
ثانيا/ هشاشة الوضع المالي والاقتصادي الأوربي: تعاني كثير من الدول الأوربية المضيفة للمهاجرين من وهن في المنظومة الإقتصادية حيث تفاقمت الأزمات الإقتصادية والمالية نتيجة لمضاعفات جائحة كورونا التي اجتاحت أوربا أوائل العشرينات من هذا القرن.
قبل أن تتعافى أوربا من تأثيرات ومخلفات هذه الجائحة المؤثرة، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، غير الضرورية، والقت بظلالها المؤلمة وبآثارها ومضاعفاتها الثقيلة. لقد أربكت هذه الحرب ميزانيات هذه الدول نتيجة تكاليفها المباشرة من جهة، وارتفاع أسعار الطاقة والتضخم الإقتصادي من جهة أخرى، مما فاقم في معاناة الناس وزاد في احتياجاتهم اليومية ورفع نسب العوز والفاقة في المجتمعات المعنية. انعكست مردودات هذه الأمور بصور الضجر والتذمر من واقع الحال ومن تزايد الهجرة المصاحبة لها والتي زادت في الطين بلة! وأثرت سلبا على ميزانيات هذه الدول وعلى مصاريفها!
ثالثا/ الحالة الأمنية غير المستقرة: كثرت حوادث العنف والاعتداء على أرواح الناس وممتلكاتهم في دول أوربا الغربية حيث كانت نسبة صناعها من الأجانب في تزايد مستمر. لقد لعبت الحرية غير المحدودة والاسترخاء المستمر في أجهزة الدولة الأمنية، في قمع حالات الإعتداء المتزايدة، عاملا هاما في استغلال المغامرين من المهاجرين لهذه الحرية وشجعتهم في اقتراف الاعتداءات والمثالب والجرائم ضد بعض السكان المحليين مما خلق جوا مشحونا ضد الأجانب بشكل عام.
تزايد الضجر والخوف من الأجانب المسلمين خصوصا بعد حوادث الإرهاب التي اقترفتها قوى المنظمات الإرهابية المتسمية باسم الإسلام مثل قوى “القاعدة” في أوربا الغربية مما أحدث ظاهرة الـ “الإسلام فوبيا” او “رهاب الإسلام” اي التخوف والرهبة من الإسلام والمسلمين. لعبت هذه الأحداث دورا هاما في تخلي بعض الأوروبيين عن التصويت لصالح الأحزاب التقليدية التي لم تأبه في معالجة مخاوف المجتمع رغم الوعود المتكررة ورغم متطلبات الأحداث المتزايدة ونواصيها.
رابعاً/ صعوبة اندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة: التباين الثقافي والعقائدي والديني والإجتماعي والنفسي بين المهاجر والبيئة الجديدة يشكل عقبة كبيرة في اندماج المهاجرين بمجتمعاتهم الجديدة. في كثير من الأحيان لا يتقن المهاجر لغة البلد المضيف ولا يحاول التأقلم على البيئة الإجتماعية الجديدة، مما يخلق فجوة واسعة بينه وبين من حوله، حيث يتقوقع المهاجر في كثير من الأحيان على ذاته ويعيش بجسده في مكانه الجديد دون توافق ادراكي حسي منسجم مع الجو الاجتماعي الجديد.
هذا التباعد النفسي والاختلاف المنهجي والسلوكي مع الواقع الجديد قد يخلق حاجزا ومانعا هاما في عملية اندماج الأجنبي في دائرة العيش الجديدة. ليس المهاجر وحده مسؤول عن هذا الخلل، إنما هو خلل تشترك فيه عوامل متعددة تجتمع مع بعضها في تصعيب عملية الاندماج بين بعض المهاجرين والبيئة الجديدة.
خامسا/ ديموغرافية المسلمين في أوربا: تزايد أعداد اللاجئين المسلمين في أوربا وسرعة تكاثرهم وعدم التوازن في النمو السكاني بين الاوربيين المسيحيين والمهاجرين المسلمين بدأ يشكل هاجسا محسوسا لدى الاوربيين الذين لديهم رهاب الاسلام. وهكذا بدأ الحديث عن مصطلح “أسلمة أوربا” وبدأ الخوف يتوسع في نفوس بعض الاوربيين أمام هذا المد الديموغرافي الوافد والذي ينذر، في نظرهم، بعواقب قد لا تحمد عقباها.
سادساً/ دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة: لم تعد الأحداث والحوادث تخفى على أحد في عصر إنتشار المعلومة، فكل صغيرة وكبيرة تصل الى عيون القراء والمشاهدين واسماعهم بأسرع من لمح البصر. وهذا ما يكشف بسرعة بعض التصرفات غير السليمة وغير اللائقة التي يرتكبها بعض المهاجرين، حيث تصل الآخرين بشكلها الحقيقي وربما المشوه مما يزيد حنق الناس ومخاوفهم من الأجانب. تلعب الدعاية العدائية للمسلمين دورا محسوسا في هذا المضمار، حيث تستغل الموقف وتملي أجندتها المدروسة في تشويه الصورة أكثر فأكثر!
هذه الأسباب وغيرها التي تلقي شرائح مجتمعية كبيرة من الاوربيين بها على عاتق الأحزاب التقليدية التي لم تحاول معالجتها كما ينبغي في نظرهم، قد خلق حالة قلق مستمر وجوا مشحونا لدى بعض الناس ضد السياسات الحالية المتبعة، مما دفع ذلك الكثير من الناخبين إلى تغيير خياراتهم سخطا وجزعا من أحزاب تقليدية لا تسمعهم، وهي إشارة امتعاض لهم! عسى أن تنتبه هذه الأحزاب وترعوي لهواجسهم ومخاوفهم ومعاناتهم التي تتزايد مع حركة الوقت والزمن…!
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/39402