أسباب وتداعيات: ماذا يعني سقوط النظام السوري؟

قادت التطورات المتسارعة في الساحة السورية منذ بدأت تحركات التنظيمات والفصائل المسلحة في السيطرة على المدن والبلدات السورية في نهاية نوفمبر 2024 إلى سيطرة هذه الفصائل في النهاية على العاصمة دمشق في 8 ديسمبر 2024، وإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد نحو 13 عامًا من اندلاع الأزمة ونحو 9 سنوات من التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام. وبينما مثّلت هذه التحركات العسكرية خطوات مفاجئة في بدايتها فإن تطورات الأحداث في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة علاوة على سلوك النظام في التعامل مع التحديات والتطورات الجارية من حوله تجعل من هذه النتيجة النهائية أمرًا طبيعيًا إلى حد كبير، إلا أنه يرتب تداعيات ونتائج غير طبيعية على الإطلاق لمستقبل سوريا والمنطقة برمتها.

وقفت مجموعة من المسببات المباشرة وراء مشهد سقوط نظام الأسد وسيطرة التنظيمات المسلحة على العاصمة دمشق، وهي تتمثل في التالي:

تصلب المواقف: لم يبد الرئيس السوري بشار الأسد أي مرونة طوال 13 عامًا مضت في التعامل مع التطورات الجارية في البلاد، وكذلك في الانفتاح على إجراء إصلاحات سياسية تمهد للولوج في مسار سياسي شامل يجمع الشعب السوري بجميع أطيافه. وعلى الرغم من وجاهة هذا التصلب في مواقف النظام بعض الشيء بالنظر إلى تحول الثورة السورية إلى حرب انخرطت فيها تنظيمات إرهابية وميلشيات عابرة للحدود، فإن مواجهة هذه التنظيمات انضوت هي الأخرى على جعل الأراضي السورية مستباحة لعشرات الفصائل والميلشيات متعددة الجنسيات وتابعة لإيران، مما جعل سوريا في المحصلة ساحة للحرب بالوكالة بين العديد من الفاعلين من الدول وغير الدول.

يضاف إلى ذلك أنه على الرغم من الانفتاح العربي على النظام السوري والذي توج بإعادة شغله مقعد سوريا في الجامعة العربية في 7 مايو 2023 بعد تعليق استمر 12 عامًا وهدف بشكل أساسي إلى موازنة النفوذ الإيراني هناك وتلافي التأثيرات والتداعيات التي ترتبها الأزمة السورية على الدول العربية والأمن القومي العربي؛ فإن النظام السوري قد واجه هذا الانفتاح بنفس التصلب في المواقف الذي تعامل به مع كافة التطورات. فعلى الرغم من أن الانفتاح العربي ارتهن باتخاذ سوريا خطوات عملية وفاعلة للتدرج نحو حل الأزمة وفق مبدأ خطوة مقابل خطوة، وتحميل النظام مسؤولية الالتزام بإيصال المساعدات للسوريين في جميع المناطق، والعودة الطوعية والآمنة للاجئين، والتعاون بينه وبين الدول المعنية لبلورة استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب، وتعزيز التعاون لإنهاء عمليات تهريب المخدرات، ودعم سوريا لبسط سيطرتها على أراضيها وإنهاء وجود الجماعات المسلحة والإرهابية؛ فإن المحصلة النهائية لهذا المسار هو عدم اتخاذ النظام أي من هذه الخطوات طيلة عام ونصف من اجتماع عمّان التشاوري الذي انعقد في 1 مايو 2023 ووضع خطة عمل للتعاون العربي السوري واتُخذ على إثره قرار الجامعة العربية.

وعلاوة على ذلك، يأتي مسبب مباشر لما جرى في سوريا بل ومحركًا رئيسًا للأحداث التي جرت هناك هو تصلب النظام السوري في التعامل مع الرغبة التركية على إجراء مصالحة معه وتطبيع العلاقات بمبادرة وضغط من روسيا. حيث أغفل الرئيس الأسد حسابات الأمر الواقع في البلاد ورهن أي انفتاح على تركيا بسحب قواتها من شمال سوريا، وهو أمر لم يكن ولن يكون واردًا في المستقبل القريب. مما دفع تركيا في النهاية إلى تحريك الفصائل المسلحة التابعة لها على النحو الذي ظهر خلال الأيام الأخيرة وصولًا إلى السيطرة على دمشق. وهو الهدف الذي لم تعلنه الفصائل والتنظيمات المسلحة بشكل مباشر وإنما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 6 ديسمبر 2024.

التغير الجيوسياسي: تعد التغيرات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 عاملًا دافعًا ومسببًا مباشرًا من مسببات الوضع الحالي في سوريا؛ وذلك على أكثر من وجه. فمن ناحية، أدت التطورات التي أعقبت “طوفان الأقصى” من تغول إسرائيلي في المنطقة وتمدد الحرب إلى لبنان بما أفضى إلى تدمير الكثير من القدرات العسكرية لحزب الله بالإضافة إلى اغتيال قائده حسن نصر الله وتأثير ذلك بانسحاب الكثير من قوات حزب الله من سوريا إلى لبنان والكثير من الميلشيات الإيرانية؛ إلى وجود فراغ في الميدان السوري سارعت التنظيمات المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام -بدعم تركي- إلى ملئه بصورة مباشرة. وعلاوة على ذلك، أدى انتقال المواجهة بين إسرائيل وإيران من حروب الظل إلى المواجهة المباشرة بالاستهداف المتبادل للعمق إلى تآكل معادلة الردع بين الجانبين وبشكل أكبر لدى إيران، خاصة وأن الضربات الإسرائيلية الأخيرة في إيران أظهرت انكشافًا واضحًا في قدرات إيران دون رد حتى الآن، فضلًا عن التأثير البالغ على صورة إيران كقائد لمحور المقاومة. وهي كلها عوامل أدت إلى جعل الوضع في سوريا -بوصفها مرتكزًا أساسيًا لإيران- قابلًا للحلحلة والتغير بدفع تركي إسرائيلي أمريكي مشترك، مستغلًا تراجع إيران وأذرعها.

ارتفاع تكلفة الدعم: طرح التقدم السريع للتنظيمات والفصائل المسلحة في المناطق السورية بدءًا من ريفي حلب وإدلب ووصولًا إلى العاصمة دمشق تساؤلات كبيرة حول غياب الدعم الروسي والإيراني للنظام والجيش السوري. ويمكن القول إن التغيرات الجيوسياسية في المنطقة قد أفضت إلى إدراك إيران أن تكلفة استمرارها في دعم النظام السوري ستكون كبيرة للغاية على ما تبقى من وكلائها وأذرعها في المنطقة وبما يعرضها إلى تهديد أكبر من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة مع إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. وحتى إذا لجأت إلى دعم النظام من خلال الفصائل المسلحة في العراق كما تم التلويح فإن ذلك يعرض العراق هو الآخر إلى انتقام إسرائيلي أمريكي.

أما روسيا فإن ما نجم عن حربها في أوكرانيا من تداعيات واسعة النطاق على قدراتها العسكرية وتحويلها العديد من قواتها ومعداتها التي كانت موجودة في سوريا إلى روسيا، علاوة على عدم استجابة الرئيس السوري للضغوط الروسي بالانفتاح والتصالح مع تركيا قد قادها إلى النتيجة ذاتها وهي ارتفاع تكلفة الاستمرار في دعم النظام السوري على المستويين السياسي والعسكري على حد سواء. بل يمكن القول إن روسيا أدركت أن غض الطرف عن تمدد التنظيمات المسلحة في سوريا وصولًا إلى دمشق قد يكون ورقة مهمة في التحاور مع الإدارة الأمريكية الجديدة لا سيّما فيما يتعلق بتسوية الأزمة الأوكرانية، ومن هنا يمكن تفسير دعوة روسيا مواطنيها في سوريا يوم 6 ديسمبر إلى المغادرة، خاصة بعد التراجع الكبير لقوات الجيش السوري والذي يرجع في أحد أسبابه إلى غياب الدور الروسي الناظم والمنسق بين وحدات الجيش السوري وفرقه.

إن سقوط النظام السوري يمثل نقطة تحول غاية في الأهمية بالنسبة للمستقبل السوري بل وكذلك بالنسبة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط بأسرها، إلا أن استشراف هذا المستقبل لا يزال معلقًا على ما ستتخذه مجريات الأحداث في دمشق خلال الفترة المقبلة وشكل التفاعل الإقليمي والدولي معه. ورغم ذلك يمكن الإشارة إلى بعض النتائج أو التداعيات لسقوط النظام على هذا المستقبل على النحو التالي:

تغير موازين القوى: يُحدث سقوط النظام السوري تغييرًا واسعًا في موازين القوى في سوريا، حيث يمثل هذا السقوط ما هو أقرب إلى الإنهاء للدور الإيراني في سوريا وتقويض كافة ميلشياتها وأذرعها هناك، لا سيّما وأن سقوط النظام يعني انتفاء المسوغ القانوني الذي كانت تستند إليه إيران في تبرير وجودها في سوريا وهو أنه بطلب من الحكومة السورية الشرعية، مما يضطر إيران إلى إعادة حساباتها واستراتيجياتها السياسية والأمنية والعسكرية.  وعلى الرغم من عدم سهولة تحقيق هذا، فإن الأمر ذاته قد ينطبق على الوجود الروسي في سوريا وخاصة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، ولكن هذه المسألة ستكون رهنًا بالتوافقات الدولية أكثر من كونها مرتبطة بمواقف الفواعل المحليين.

أما التغيير الأكبر فيكون في صالح تركيا، على اعتبار أن التنظيمات والفصائل المسلحة التي تحركت في نهاية الشهر الماضي ونجحت في السيطرة على العاصمة دمشق مدعومة من أنقرة بصورة مباشرة، وهو ما يجعل لتركيا الكلمة الأولى في تحديد المستقبل السوري ورسم مساره سواء كطرف إقليمي مؤثر أو كمعبر عن التطلعات الغربية في سوريا بوصفها ممثلًا للمعسكر الغربي وحلف الناتو. كما أن هذه التغيرات تصب مباشرة في صالح إسرائيل بإطلاق يدها لتوسيع حدودها باتجاه سوريا وضم الجولان وهو ما بدأ فعليًا بإحكام السيطرة الإسرائيلية على مناطق جبل الشيخ، بما في ذلك المناطق التي كانت ضمن السيطرة السورية خلال السنوات الماضية.

إعادة إحياء المسار السياسي: قد يعجل إسقاط النظام السوري بإعادة إحياء المسار السياسي لحل الأزمة السورية المتمثل في مسار جنيف وتسريع عمل اللجنة الدستورية والاتفاق على ترتيبات الحكم الانتقالي وما إلى ذلك، وذلك بمشاركة الفصائل المسلحة التي سيطرت على العاصمة وكذلك الفصائل المعارضة في الخارج مثل الائتلاف السوري المعارض. إلا أن النفوذ الأقوى في هذه الترتيبات سيكون للطرف المسيطر على الأرض والمتمثل في هيئة تحرير الشام. ويعني ذلك انتهاء التفاهمات التي تم الاتفاق عليها بين الدول الثلاث الضامنة للأزمة وهي تركيا وروسيا وإيران سواء ضمن مسار أستانة البديل لمسار جنيف أو ضمن مسار سوتشي الذي جمع موسكو وأنقرة وأقصى إيران.

شرعنة “الجهاد” المحلي: تطرح سيطرة الفصائل والتنظيمات المسلحة بزعامة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) على العاصمة السورية دمشق احتمالات تكرار النموذج الأفغاني المتمثل في سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول بعد الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة في أغسطس 2021، حيث تعاطت عدة قوى دولية مع نظام الحكم الجديد في أفغانستان بغض الطرف عن كونه تنظيمًا إرهابيًا وفق التصنيفات الأمريكية والغربية. ويتضح من لغة الخطاب التي يتبناها زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني منذ ما قبل السيطرة على دمشق وخاصة في حواره مع شبكة “سي إن إن” الأمريكية ثم كلماته وخطبه بعد السيطرة على دمشق بدعوته إلى الحفاظ على الممتلكات العامة واستمرار تقديم الخدمات للسوريين وتبني نهج شمولي لكل السوريين دون تمييز أو إقصاء؛ أنه قد يكون هناك انفتاح على التعامل مع أحمد الشرع (الاسم الحقيقي للجولاني) كبديل للنظام السوري، حتى لو كان بديلًا مؤقتًا، خاصة وأن التحليلات الغربية المحسوبة على دوائر صنع القرار باتت تؤكد أن هيئة تحرير الشام -على الرغم من تصنيفها إرهابية في قوائم الإرهاب الأمريكية- انفصلت عن تنظيم القاعدة والحركة الجهادية العالمية، ولا تقصي الأقليات، وتحسنت الحريات الدينية تحت حكمها في إدلب.

إجمالًا، يمثل سقوط النظام السوري برئاسة بشار الأسد حدثًا فارقًا في مستقبل الدولة السورية، ولا يزال من غير الواضح المستقبل الذي ستكون عليه دمشق بعد سيطرة الفصائل والتنظيمات المسلحة عليها. وعلى الرغم من إبداء هذه الفصائل خطابًا مشجعًا على الحوار وإطلاق عملية سياسية تشمل جميع الأطراف وما إلى ذلك، فإن احتمالات شيوع الفوضى وعدم الاستقرار بل وحتى الاقتتال الداخلي لا تزال قائمة، خاصة وأن العملية السياسية التي تؤكد الأطراف جميعها إطلاقها والمشاركة فيها ستكون بطيئة وغير مضمونة النتائج، وأن موقف هذه التنظيمات -ومعها تركيا- من الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا لا يزال غير واضح.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M