أنا لست حوزوياً حتى أبحث في هذه المسائل ولكني مطّلع على بعض الجوانب من هذا الموضوع فليعذرني الإخوة أصحاب الاختصاص إذا كانت هناك هفوات أو نقائص أو خلل وليصححوا لي الخطأ حتى يكون الموضوعاً كاملاً نافعاً مفيداً .
وانقدحت في ذهني بعض الأفكار أردت أن أسطرها بمناسبة ذكرى استشهاد السيد محمد باقر الصدر قدس سره الشريف الذي لم يُحتفى بذكراه – خصوصاً هذه السنة – لا على المستوى الحوزوي ولا على المستوى السياسي ولا على المستوى الإعلامي بشكل يليق بمكانة هذا العظيم ووفاء لعطائه ودمائه وروحه التي زُهِقت من أجل الدين وإحيائه في نفوسنا كي نسعد في الدنيا والآخرة .
في البداية هذا المصطلحان (أصالة البراءة وأصالة الاحتياط) هما مصطلحان أصوليان اعتمد المصطلح الأول السيد الخوئي أما الثاني فتبناه السيد محمد باقر الصدر ، ومعنى كل منهما :
أصالة البراءة : هو أن أصل كل شيء – من حيث التكليف الشرعي – هو براءة المكلف منه حتى يثبت بنص شرعي (آية أو حديث) وجوبه أو حرمته .
أصالة الاحتياط : هو أن أصل كل شيء – من حيث التكليف الشرعي – هو إشغال ذمة المكلف حتى يثبت بنص شرعي (آية أو حديث) براءته .
من هذين المصلحين والأسس التي بنيا عليها نجد فرقاً بين منهجين لا فرقاً فقط في المصطلحات والتعاريف ، وهذا الفرق لا يعني أننا إذا اقتنعنا أو تبنينا منهجاً فإن الآخر في أسفل درك من النار – والعياذ بالله – كما يفعل البعض ، وإنما أن لكل قناعته الخاصة المبرئة أمام الله سبحانه وتعالى ، وكلا العالمين هم علمان من أعلام هذه الأمة وهذه الطائفة ولكل منهما فضل على الأمة يتناسب مع عطائهما لها . ولكننا نريد أن ندرس ونناقش – تحليللاً – كيف استفاد السيد الصدر من النظرية الثانية (أصالة الاحتياط) من خلال قراءة للواقع .
إن نهج السيد الصدر – صاحب الذكرى – كما يعرفه القاصي والداني هو نهج الإصلاح والعطاء وبذل ما في الوسع لإصلاح هذه الأمة ونكران الذات كي يربي المجتمع ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، هذا النهج المعروف والمشهود له من قبل الجميع جاء نتيجة شعور بالمسؤولية ربما مفرط ، وشعور بالتقصير أمام الله سبحانه وتعالى بحيث يرى نفسه محملاً بالتكاليف الشرعية لأنه عبد لله وهذا واجبه وغاية خلقه إلا ما ثبت غير ذلك فذلك ترخيص ولطف من الباري عز وجل ، فانعكس ذلك الشعور على آرائه الأصولية وبالتالي الفقهية فتولدت عنده هذه القاعدة (قاعدة أصالة الاحتياط ) .
لا بل لم يقف عند الحدود الأصولية والفقهية بل طبق هذه القاعدة في باقي نشاطاته النظرية والعملية ، فتبنى مواجهة الفكر الماركسي الشيوعي بنفسه من خلال كتبه التي هزت المكتبة العلمية الإسلامية مثل (فلسفتنا) و (اقتصادنا) ، وتبنى مواجهة الانحراف الديني فأصدر عدة محاضرات حول حب الدنيا ، واعتبر أن من مسؤوليته أن يصلح الحوزة ومناهجها لا أن ينتظر آية أو حديث – إن لم يوجد نص حول ذلك – لتأمره ، نعم يمكن أن يوقف إصلاحه للحوزة إذا كان هناك نص شرعي يمنعه من ذلك – وهذا طبعاً أمر غير مقنع – لأن مبناه الإنساني والأخلاقي يرى أن من واجبه أن يصلح الوضع القائم وفي شتى المجالات ما دام لا يوجد نص شرعي يمنعه من ذلك .
لم يقف السيد الصدر عند الجانب النظري بل انتقل الى أرض الواقع فقد رأى أن من واجبه أن يسد الفراغ السياسي بحزب إسلامي كي يتحرك ليمثل الإسلام والمتدينين وأن لا يترك الساحة فارغة من الإسلاميين لصالح العلمانيين والشيوعيين والإلحاديين .
كما قاوم النظام الصدامي وكشف حقده على الدين وانحرافه الفكري والسياسي من خلال خطاباته ومحاضراته بل وتحداه وجهاً لوجه ورفض كل شيء يمكن أن يقربه أو يرطب الأجواء مع النظام الدكتاتوري ، ورأى أن من واجبه أن يريق دمه كي تتحرك الأمة وتعي واجبها الديني والوطني ، ولم ينتظر أن يجد آية أو رواية لتوجب عليه هذا التحرك .
إن السيد الشهيد الصدر الأول وجد أن النظرية الأخرى ( نظرية أصالة البراءة ) لا تتماشي وفطرته وتربيته وأخلاقه لأنها تساعد على التقاعس والتكاسل ، فلو فرضنا أنه لم يصل حكم من أحكام الدين – لتقصير أو قصور في العصور الماضية – لكان المكلف بريء الذمة أمام الله سبحانه وتعالى وبالتالي لا عليه شيء واجب أو مستحب ولا محرم ولا مكروه فتكون حياته فارغة تائهة خالية من الارتباط الروحي بالله عز وجل .
بينما النظرية التي آمن بها السيد الصدر وأسس لها – وهي (نظرية أصالة الاحتياط ) – تحفز على السعي المستمر لتأدية الواجب الإلهي بحيث لا يرى طعماً للراحة وإلا أصبح مقصراً أمام خالقه ، وهذا ما تؤكده النظم الأخلاقية التي جاء بها النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، فنجد الاعتراف الدائم بالتقصير من لدن المعصومين صلوات ربي عليهم أجمعين يتناغم مع نظرية السيد الصدر (نظرية أصالة الاحتياط) ، فهذه النظرية تشعر المكلف بأن المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة ولا يمكن أن تنتهي ، وبمجرد الخلود الى الراحة فهذا يستوجب الاستغفار وفق نظرية السيد الصدر ومنهج المعصومين عليهم السلام .
إن من يريد أن يسير على نهج السيد الصدر الأول عليه تطبيق هذه النظرية (نظرية أصالة الاحتياط) بحذافيرها على نفسه كي يصل الى ما وصل إليه السيد الصدر من الإصلاح والرقي والاستشهاد في سبيل الله . أما من يدّعي انتماءه للسيد الصدر فعليه أن يفكر ويسأل نفسه هل طبق هذه النظرية على نفسه كما فعل ذلك السيد قدس سره ؟!