انتهي فصل طويل من تاريخ ألمانيا المعاصر مع انتخاب مجلس النواب (البوندستاغ) الاشتراكي الديموقراطي أولاف شولتس مستشارًا للبلاد طاويًا صفحة حكم أنغيلا ميركل الذي استمرّ 16 عامًا.
وبذلك تكون ميركل، وهي أول امرأة تدير ألمانيا، أمضت في السلطة 5860 يومًا. إلا أنها ستغادر قبل تسعة أيام من تمكنها من كسر الرقم القياسي الذي سجّله ملهمها هيلموت كول في الحكم.
ستسلّم القائدة المحافظة مقاليد الحكم في أول قوة اقتصادية أوروبية إلى أولاف شولتس الذي كان في آنٍ معًا خصمها السياسي لكن أيضًا نائبها في المستشارية ووزير المالية في حكومتها.
بعد أكثر من شهرين من فوزه في الانتخابات التشريعية في أواخر أيلول/سبتمبر، سينتخب البوندستاغ شولتس على رأس ائتلاف غير مسبوق شُكّل بأسرع مما كان متوقعًا ويضم ثلاثة مكونات هم الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الخضر والحزب الديموقراطي الحر الليبرالي.
بعد ذلك، ستُسلّم ميركل مقاليد الحكم إلى اليسار الوسطي للمرة الأولى منذ كان غيرهارد شرودر مستشارًا للبلاد.
“انطلاقة جديدة”
رغم فترة حكم متباينة اتّسمت باستقبال اللاجئين عام 2015 وبالقدرة على إدارة الأزمات لكن أيضًأ بغياب الطموح في مجالي مكافحة التغيّر المناخي وإضفاء الحداثة على ألمانيا، تبقى ميركل بعد أربع ولايات، إحدى الشخصيات المفضّلة لدى الألمان.
وحيّا شولتس ميركل بالقول إنها “مستشارة نجحت” مشيرًا إلى أنها قائدة “بقيت مخلصة لنفسها على مدى 16 سنة شهدت تغيّرات كثيرة”.
غير أن شولتس الذي يقدّم نفسه على أنه وريث ميركل وتصفه مجلة “دي تسايت” الأسبوعية بأنه “أكثر رصانة” من ميركل، يعتزم إعطاء زخم جديد.
وقال شولتس لمجلة “دي تسايت”، “أريد أن تشهد سنوات 2020 انطلاقة جديدة” مؤكدًا أنه يريد العمل على “أكبر تجديد صناعي” في تاريخ ألمانيا المعاصر يكون “قادرًا على وقف التغير المناخي الذي سببه الإنسان”.
تعد حكومته أيضًا بانتهاج سياسة شديدة الموالاة للاتحاد الأوروبي تهدف إلى “زيادة السيادة الاستراتيجية للاتحاد” والدفاع بشكل أفضل عن “المصالح الأوروبية المشتركة”.
على خط موازٍ، تعتزم وزيرة الخارجية المقبلة أنالينا بيربوك تبني خطّ أكثر تشددًا حيال الأنظمة الاستبدادية على غرار الصين وروسيا.
لكن سينبغي على الحكومة المقبلة أن تركّز فور تشكلها على أكبر تحدّ لها وهو إدارة الموجة الجديدة من تفشي وباء كوفيد-19 التي تشهدها ألمانيا بشكل خاص.
يعتزم شولتس الذي يتمتع بخبرة كبيرة لكنه يفتقر إلى الكاريزما، جعل مجلس النواب يصوّت على إلزامية تلقي اللقاح التي يُفترض أن تصبح نافذةً في شباط/فبراير أو آذار/مارس.
يحظى هذا التدبير الذي فرضته النمسا المجاورة، بدعم ثلثي الألمان تقريبًا إلا أنه قد يصطدم بمعارضة قسم كبير من السكان خصوصًا في ألمانيا الشرقية السابقة.
في هذا الوقت، اتفق شولتس وميركل والمناطق الـ16 الألمانية على فرض قيود جديدة تستهدف حصرًا غير الملقحين، فمُنع هؤلاء من الدخول إلى الأماكن الثقافية والمطاعم والمتاجر غير الأساسية الأخرى.
وسيتعامل شولتس، رئيس بلدية هامبورغ سابقًا والذي سيتوجه في أول زيارة له إلى الخارج إلى فرنسا على غرار أسلافه، مع وضع اقتصادي غير مؤاتٍ في ظل نمو أدنى من التوقعات ونسبة تضخم ترتفع مجدّدًا.
ويتحتم على شولتس وحكومته المؤلفة بشكل أساسي من وزراء حديثي العهد، أن يعالج مجموعة مواضيع أخرى لا تحظى بالضرورة بتأييد الألمان.
بحسب استطلاع للرأي أجرته قناة “ايه ار دي” الرسمية، فإن الزيادة المرتقبة للحدّ الأدنى للأجور والتخلص من استخدام الفحم وتطوير الطاقات المتجددة هي مواضيع تحظى بتأييد غالبية الألمان.
في المقابل، لا تؤيد سوى أقلية من الألمان وعودًا أخرى للائتلاف الحكومي الثلاثي هي بيع القنب بدون وصفة طبية وشراء الجيش الألماني طائرات مسيّرة وتخفيض سنّ التصويت إلى 16 عامًا.
وفي ما يخصّ المناخ، يبدو هدف الحدّ من الاحترار العالمي عند 1,5 درجة مئويّة، غير قابل للتحقيق في الوقت الحالي رغم “البرنامج الأكثر طموحًا الذي قدّمته حكومة على الإطلاق”، بحسب دراسة أجراها تحالف المناخ الألماني.
إرث متباين
لخصت أنغيلا ميركل شعارها في 22 تموز/يوليو بالقول “الحياة بدون أزمات أسهل، لكن حين تحلّ، يجب مواجهتها”.
وعددت المستشارة عندها خمس أزمات كبرى واجهتها، من الأزمة المالية عام 2008 إلى تفشي وباء كوفيد-19، مرورا بإنقاذ اليورو وتدفق اللاجئين السوريين والعراقيين عام 2015 والاحترار المناخي.
غير أن فتح أبواب بلادها أمام اللاجئين يبقى أبرز قرار في عهد ميركل، يثني عليه مؤيدوها باعتباره قرارا شجاعا. كما أن ميركل حصدت الإشادات لتعاطيها مع الأزمة الصحية.
غير أن أزمات أخرى عرّضتها لانتقادات، وخصوصا أزمة ديون اليونان عام 2011، حين أبدت الحكومة الألمانية موقفا متصلبا دفع أثينا إلى شفير الإفلاس وأثار مشاعر عداء شديد للمستشارة في أوروبا.
شهد الدور الذي لعبته ألمانيا على الساحة الدولية تطورا مدى 16 عاما.
ففي ظل صعود النزعات الشعبوية، وصفت صحيفة نيويورك تايمز ميركل بأنها “زعيمة العالم الحر” الجديدة.
وتنامى النفوذ الألماني في آسيا كما في إفريقيا، القارة التي زارتها المستشارة أكثر بكثير من أسلافها.
غير أن حصيلة سياستها الخارجية تبقى موضع جدل إذ يبقى وزن ألمانيا الجيوسياسي أدنى بكثير من نفوذها الاقتصادي.
وعلى صعيد آخر، فإن استراتيجية التقارب والتعاون التي انتهجتها أنغيلا ميركل رغم الظروف تجاه روسيا برئاسة فلاديمير بوتين، وأبرز تجلياتها مشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” المشترك، لم تقنع الكرملين بالتخلي عن سياسته المتصلبة، ولم تساعد في تسوية النزاع بين موسكو وكييف.
كما واجهت ميركل انتقادات متزايدة لإعطائها الأولوية للتبادل التجاري مع الصين، ثاني سوق للصادرات الألمانية، رغم الاتهامات الموجهة إلى بكين على صعيد حقوق الإنسان.
أما بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي، فلم يعد بإمكان ألمانيا الاعتماد كما من قبل على المظلة الأميركية، من غير أن تضع في هذه الأثناء إستراتيجية جديدة على صعيد السياسة الأمنية، رغم مشاركتها بشكل متزايد في مهمات عسكرية في الخارج.
وذكر تقرير لمؤتمر ميونيخ للأمن العام الماضي أن “انخراط ألمانيا” على الساحة الدولية “يبقى في غالب الأحيان دون تطلعات شركائها الرئيسيين والمطالب التي تطرحها البيئة” العالمية.
المحرك الاقتصادي لأوروبا
بعدما كانت ألمانيا “الرجل المريض” في الاتحاد الأوروبي مطلع الألفية، استعادت موقعها كأكبر قوة اقتصادية في القارة، مستندة إلى فائض هائل في الميزان التجاري وإدارة مالية صارمة.
وتراجعت نسبة البطالة خلال 16 عاما من 11,2% إلى 5,7% في تموز/يوليو، في سوق لا تزال هشة على وقع تفشي الوباء.
غير أن تباينا كبيرا لا يزال يسجل بين الغرب والشرق، إذ تبقى مناطق ألمانيا الشرقية سابقا بمنأى عن المعجزة الاقتصادية الألمانية. كما تبقى نسبة الوظائف الصغرى المتدنية الدخل مرتفعة.
أقرت ميركل في 22 تموز/يوليو بأنه منذ 2005 “لم تحصل أمور كافية” لمكافحة الاحتباس الحراري، ولو أنها على اقتناع بأنها “كرست الكثير من الطاقة” لهذه المسألة.
وأثارت ميركل مفاجأة عام 2011 حين أعلنت عزمها على إخراج بلادها من الطاقة النووية بعد كارثة فوكوشيما في اليابان.
واضطرت ميركل التي لقبت في فترة “مستشارة البيئة” وكانت وزيرة للبيئة في عهد هلموت كول، إلى تعزيز أهداف ألمانيا تحت ضغط المحكمة الدستورية التي اعتبرت أنها تفتقر إلى الطموح.
أوروبا، مشروع لم يكتمل
كتبت الأسبوعية “دير شبيغل” إن “الاتحاد الأوروبي في وضع لم يعد بالجودة التي كان عليها عند وصول ميركل إلى السلطة عام 2005″، مشيرة إلى عدم امتلاك المستشارة “رؤية” وإلى “الهوة بين الشمال والجنوب حول المسائل المالية” وبريكست وصعود الديموقراطيات غير الليبرالية.
وإن كانت ميركل اعتنقت نظرية تشارك الديون في الاتحاد الأوروبي، فهي لم توافق قبل ثلاث سنوات على اقتراحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإصلاحية، في موقف واجه انتقادات حتى داخل ألمانيا.
اختراق اليمين المتطرف
تميزت انتخابات 2017 التي كرست ميركل مستشارة لرابع ولاية على التوالي، بدخول حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف لأول مرة إلى البرلمان.
واغتنم هذا الحزب المعادي للإسلام الذي انبثق جناحه الأكثر راديكالية من حزب النازيين الجدد، المخاوف الناجمة عن فتح أبواب ألمانيا أمام المهاجرين عام 2015 لينمو وخصوصا في ألمانيا الشرقية سابقا حيث يلعب دورا سياسيا من الصف الأول.
وبات الخطر الإرهابي الناجم عن اليمين المتطرف مصدر الخوف الأول، متقدما على الخطر الجهادي، بعد وقوع عدة هجمات دامية. كما تسجل زيادة في الهجمات ضد اليهود.
وبعد 16 عاما على رأس البلاد، يجد المسيحيون الديموقراطيون أنفسهم في موقع المعارضة. وإن كانت ممارسة الحكم ساهمت في تراجع موقعهم كما يحصل عادة، فإن ذلك نتج أيضا من عجز ميركل عن التمهيد لخلافتها.
فبعدما استبعدت بشكل منهجي القادة المحافظين الذين يمكن أن يشكلوا منافسة لها، مثل الليبرالي فريدريش ميترس أو نوربرت روتغن، الوزير الوحيد الذي أقالته منذ 2005، راهنت المستشارة لفترة على أورسولا فون دير لايين، قبل أن تسلط الضوء على أنيغريت كرامب كارنباور التي عدلت عن الترشح، مفسحة لأرمين لاشيت الذي ارتكب أخطاء وهفوات.
كما أن المستشارة الأولى في المانيا الفدرالية لم تنجح في ترسيخ موقع المرأة في السياسة، وتبقى نسبة النساء المنتخبات في مجلس النواب حاليا بمستوى 34%، وهي نسبة بالكاد أعلى مما كانت عند وصول ميركل إلى السلطة عام 2005 (32,5%).
القادة الأوروبيون يصفقون وقوفا لميركل
صفّق القادة الأوروبيون وقوفًا الجمعة للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في بروكسل في قمتها الـ107 والأخيرة بعد 16 عامًا في الحكم، بحسب مصدر حضر الاجتماع المغلق.
ونقل المصدر عن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال قوله لميركل “أتمنى ألا تستائين من هذه الاحتفالية بمناسبة قمّتك الأخيرة”. وأضاف ميشال أن اجتماع دول الاتحاد الأوروبي “دون انغيلا يشبه روما دون الفاتيكان أو باريس دون برج ايفل”.
وتابع “إن توديعك للساحة الأوروبية يؤثر بنا سياسيًا ولكن يغمرنا أيضًا بالمشاعر. أنت صرح”، مشيدا بـ”حكمة” المستشارة التي سيفتقدها الأوروبيون “خصوصًا في الفترات الحساسة”.
وكان رؤساء الدول والحكومات قد أشادوا في السابق بروح التسوية التي تتحلى بها المسؤولة الألمانية عند رحيلها، منهم النمساوي ألكسندر شالنبرغ الذي وصفها بأنها “صانعة سلام في الاتحاد الأوروبي” واللوكسمبورغي كزافييه بيتيل التي قال إنها كانت تتميز بقدرتها على إيجاد حلول وسط.
وفي هذه القمة الأخيرة لميركل، كانت بولندا مُحرجة بسبب انتهاكاتها لسيادة القانون فيما تركت ألمانيا بصمة جديدة بالدعوة للحوار مع وارسو.
وقدّم القادة الأوروبيون للمستشارة هديّة تمثّل المبنى الذي تُقام فيه القمم الأوروبية.
ووجّه شارل ميشال، خلال مداخلته، تحيّة لرئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفن الذي ستنتهي مهامه في تشرين الثاني/نوفمبر بعد أن أدار البلاد منذ العام 2014.
وقال له شارل ميشال “ترك حضورك القوي والمطمئن اثرًا في اجتماعاتنا” مرحّبًا بالتزامه بالـ”تقدم الاجتماعي”، بحسب المصدر نفسه.
مذكرات ميركل
تكتب أنغيلا ميركل التي غادرت السلطة بعد 16 عاما على رأس المستشارية الألمانية، مذكراتها السياسية بهدف “شرح أبرز قراراتها” كما كشفت الجمعة مستشارتها المقربة التي تخوض هذا المشروع مع المستشارة السابقة.
وقالت بيت بومان مديرة مكتب ميركل بين العام 2005 وحتى يومها الأخير في السلطة لأسبوعية دير شبيغل إن “المستشارة لا تريد أن تروي كل حياتها. تريد شرح أبرز قراراتها السياسية بكلماتها الخاصة ومن خلال الإشارة الى مسيرتها”.
تشارك المرأتان اللتان عملتا معا لمدة تناهز 30 عاما في تأليف هذا الكتاب الذي ليس له ناشر حتى الآن. ومن المفترض أن يستمر مشروع الكتابة عامين أو ثلاثة بحسب المستشارة.
هذه المذكرات السياسية ستكون فعلا من عمل ميركل وبومان التي قالت “المستشارة وأنا على يقين تام: إذا كان علينا تأليف هذا الكتاب فسنقوم به بمفردنا أي بدون +كاتب خفي+ او مؤرخ أو صحافي”.
سلمت ميركل (67 عاما) السلطة الأربعاء للمستشار الجديد أولاف شولتس. بعدما استبعدت المستشارة السابقة التي لا تزال شعبيتها في أوجها، تولي أي مسؤولية سياسية جديدة في هذه المرحلة حتى على المستوى الأوروبي. وبقيت غامضة حيال أنشطتها المستقبلية.
أولويتها وكما كررت القول عدة مرات، هي أخذ استراحة بعد 30 عاما من المسيرة السياسية.
قام قادة عالميون سابقون مثل باراك اوباما وجاك شيراك بنشر مذكراتهم والتي غالبا ما أصبحت من أكثر الكتب مبيعا.
وقلة من أسلاف ميركل بقوا لفترة طويلة بدون نشاط، فقد أصبح هلموت شميت بعد مغادرته المستشارية في 1982 ناشرا مشاركا في أسبوعية “داي تسايت”.
وتمكن هيلموت كول وغيرهارد شرودر من الاستفادة من تجربتيهما، الأول عبر إنشاء شركة استشارية والثاني عبر بعثات الضغط بما في ذلك دور مثير للجدل كرئيس لمجلس إدارة شركة النفط الروسية العملاقة روسنفت.
.
رابط المصدر: