احتجاجًا على الارتفاع القياسي لأسعار الطاقة والمواد الاستهلاكية وفشل الحكومة البريطانية بقيادة “ريشي سوناك” حتى الآن في احتواء الأزمات التي يعاني منها البريطانيون منذ أكثر من عام، قام الآلاف بالتظاهر في شوارع بريطانيا محتجين على سوء الأوضاع، لتؤدي هذه الاحتجاجات إلى مواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين، وتدفع ريشي سوناك إلى أن يعلن أنه سيضرب بقبضة من حديد، وقد يصل الأمر إلى استدعاء قوات الجيش للتعامل مع الفوضى.
تهديدات بإضرابات عمالية بقطاعات مهمة
في ظل الارتفاعات المهولة في الداخل البريطاني، خاصة مع بدء فصل الشتاء الذي لطالما تخوفت منه المملكة المتحدة هذا العام بسبب ما تعانيه بالفعل من أزمتي الطاقة والكهرباء، واللتين تفاقمتا عقب الحرب الروسية الأوكرانية، هذا بالإضافة إلى خطط الحكومة الاقتصادية التي تسببت بالفوضى في الأسواق المالية وأضرت أكثر بالاقتصاد البريطاني المتعثر بالأساس؛ أراد المحتجون التعبير عن غضبهم جراء الارتفاعات بشتى الطرق من أجل الضغط على الحكومة لتنفيذ مطالبهم.
فانتشرت الإضرابات عبر شبكة النقل البريطانية، وأعلنت نقابة كلية التمريض الملكية البريطانية مواعيد الإضراب الأول لأعضائها منذ أكثر من 100 عام، وأعلنت نقابة عمال السكك الحديدية والبحرية والنقل أن عمال النظافة سينضمون أيضًا بسبب الأجور، ما يفاقم موجة من الإضرابات العمالية التي تجتاح البلاد.
قام المتظاهرون بتنظيم احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، محتلين مباني بريطانية ضخمة، من بينها مقر شركة الكهرباء بإسكتلندا “سكوتش باور”، وكذلك المتحف البريطاني، والذي لديه أكبر ساحة عامة داخلية في أوروبا، مطالبين بوقف المشاريع النفطية، وتخفيض فواتير الكهرباء، وقد وصل الأمر إلى تأسيس حملات “للامتناع” عن سداد الفواتير، ورفع شعارات تحمل “ضعوا حدًا لفقر الوقود الآن”، مهددين بإضرابات عمالية كبرى في القطاعين العام والخاص، قد تشل حركة بريطانيا لزمن غير معلوم.
تشهد بريطانيا بالفعل إضرابات في عدد من القطاعات، ولكنها الآن تواجه موقفًا حرجًا جدًا، إذ إنها تواجه إضرابًا من قبل آلاف الممرضين والممرضات في إنجلترا، وموظفتي الإسعاف في إنجلترا وويلز، بسبب الأجور وظروف العمل، خاصة بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية أنها ترفض التفاوض حول الأمر، بعد المطالبات بزيادة الأجور بنسبة 19%، أي ما يعادل 18 مليار جنيه إسترليني، مؤكدة أنها لا تستطيع أن تتحمل أية زيادات في أجورهم بما يتماشى مع التضخم.
وحتى لو استطاعت، فإن مثل هذه الزيادات ستزيد من التضخم، وبالتالي الدوران في حلقة مفرغة ستزيد من أعباء الدولة وفقط، وتخشى الحكومة كذلك من تقديم عرض أكبر إلى مجموعة واحدة من العاملين؛ خشية أن يصبح الرقم هو القاعدة بعد ذلك، قائلة إن هذا من شأنه أن يخلق دوامة على صعيد الأجور-الأسعار ستضر بالجميع، وهذا ما أشعل فتيل الغضب عقب حالة الإحباط التي أعربت عنها النقابات وحزب العمل.
والجدير بالذكر أن الاحتجاجات ليست وليدة اليوم، فقد نظم عمال السكك الحديدية والموانئ والمحامون وآخرين سلسلة من الإضرابات خلال الأشهر الأخيرة، مطالبين برفع الأجور بما يتناسب مع التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته خلال أربعة عقود عند 11.1%، ومن شأن ذلك أن يشل الحياة في البلاد.
استجابة الحزب الحاكم للإضرابات
أعرب سوناك عن دعمه للشرطة في مواجهة المظاهرات التي يرى أنها “غير قانونية”، متعهدًا بمنحهم صلاحيات جديدة لوقف الاحتجاجات التي تتعمد خرق قانون البلاد، معتبرًا أنه “من غير المقبول بتاتًا أن تتعطل حياة الناس من قبل أقلية أنانية تشارك في مظاهرات غير قانونية”، وقد توعد المحتجين والداعين للمظاهرات، مؤكدًا أن من يخالف القانون، عليه أن يواجه عواقب ذلك.
“نحن ننظر إلى الجيش، ونتطلع إلى قوة استجابة متخصصة أنشأناها منذ عدة سنوات”، بهذه التصريحات، أكد حزب المحافظين الحاكم أن الحكومة البريطانية قد تستعين بالجيش للمساعدة في ضمان استمرار الخدمات العامة حال قرر المتظاهرون الدخول في حالة من الإضراب، خاصة إذا كان الإضراب سيشمل قطاعات رئيسية على رأسها هيئة الصحة العامة، وهذه رسالة أخرى يوجها الحزب الحاكم للنقابات العمالية، إذ يؤكد أن الوقت العصيب الذي تمر به بريطانيا الآن ليس وقتًا للإضرابات وتعطيل مصالح البلاد، وإنما هو وقت للسعي والتفاوض، ومحذرًا من أنه حال غياب ذلك، ستلجأ الحكومة لخطط بديلة.
ويؤكد مجلس الوزراء البريطاني أن الجيش كان جزءًا من التخطيط لحالات الطوارئ، حيث يمكن تجنيد الجنود ليحلوا محل أولئك الموجودين في صفوف الاعتصام، أيًا كانت المجالات، ولكن في النهاية، يعكس تهديد حزب المحافظين البريطاني باستخدام الجيش للتصدي للتظاهرة البريطانية مدى عمق الأزمة الحالية التي لا توجد بوادر لانقشاعها في القريب العاجل.
كيف ترى الحكومة الإضرابات؟
تعلم الحكومة البريطانية جيدًا حجم الأزمة التي تقع على عاتقها منذ بداية تشكيلها، فقد وصلت وتعاقبت حكومات عدة في فترة قصيرة شهد فيها المشهد البريطاني أزمات وانقسامات متعددة، ومن الطبيعي أن تكون الإضرابات جزءًا من رد فعل متوقع من الشعب البريطاني احتجاجًا على الأداء الحكومي في هذا الوقت الحساس، ولكن الفارق يكمن في طريقة التعامل ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي من تداعيات قرارات الحكومة السابقة والحالية.
ومن جانب الشرطة البريطانية التي أعطاها سوناك الضوء الأخضر للتعامل مع الأمر، فقد نشرت بيانًا أكدت من خلاله أن الشرطة ليست ضد الاحتجاج، وإنما هي ضد الجريمة، مؤكدة التزامها بشكل فعال وعاجل لمواجهة النشطاء اللذين يتعمدون تعطيل حياة الناس من خلال الأعمال الإجرامية والمستفزة، وتدخل الجيش لن يكون لقمع الناس كما يزعم المتصيدون للأخطاء.
ولكن من زاوية أخرى، يرى حزب المحافظين أن روسيا هي السبب الرئيس فيما آلت إليه الأوضاع في بريطانيا وأوروبا بأكملها، وأن الإضراب الصناعي والعمالي الذي تخطط له النقابات الآن، هو بلا شك في مصلحة فلاديمير بوتين الذي يسعد كثيرًا من خلال تقسيمه المجتمعات الأوروبية، من خلال أجندة تقتضي استخدام أسعار الطاقة المرتفعة التي تغذي التضخم كـ “سلاح” في حربه ضد أوكرانيا.
بينما يرى الديمقراطيون الليبراليون أن الحكومة الحالية بعيدة كل البعد عن الشعب البريطاني والمعاناة التي تلاحقهم، وأنه من السخف والإهانة أن تتم الإشارة إلى بوتين على أنه المسؤول عن إضراب طاقم التمريض مثلا، وأنه يجب أن تقع المسؤولية بشكل صارم على الفشل الذريع للحكومة المحافظة هذه في إيجاد حل، مؤكدين أن الوزراء المحافظين قد أهدروا المليارات من أموال دافعي الضرائب على عقود معدات الوقاية الشخصية المخادعة، والآن يرفضون تقديم زيادة عادلة في الأجور للممرضات.
أما حزب العمال، بقيادة “كير ستارمر” فنأى بنفسه تمامًا عن النقابات وقراراتها بالإضراب، ولكن في نفس الوقت دافع الحزب داخل البرلمان عن الحق في الإضراب دون تأييد أي تحرك محدد؛ إذ أنهم يخشون تنفير الرأي العام، وتأثر شعبيتهم حال عطلت هذه الإضرابات مظاهر الحياة في البلاد، ولكنهم سيكتفون بالتفاوض فيما يتعلق بحق زيادة الأجور على أمل حل المنازعات في جميع القطاعات العمالية.
مظاهرات في أنحاء القارة العجوز
كل من يتابع الشأن الأوروبي يعلم جيدًا أن هذا الشتاء تحديدًا لن يمر بسلام، فبالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها الاقتصادية حول العالم، وما فعلته هذه الحرب تحديدًا بالتأثير على الطاقة في القارة كلها، يجعلنا نشهد موجة كبيرة من الإضرابات والمظاهرات تجتاح عواصم دول الاتحاد الأوروبي احتجاجًا على الأوضاع المعيشية، ومطالبات برفع الأجور في ظل موجة الغلاء المصاحبة للتضخم.
ففي فرنسا، والتي تبلغ نسبة التضخم بها 6.2%، وهي الأكثر انخفاضًا في منطقة اليورو، نجد أن عمال السكك الحديدية والنقل والمدرسين وموظفي المستشفيات العمومية قد استجابوا لنداء اتحاد عمال قطاع النفط؛ للمطالبة بزيادة الأجور والاحتجاج على تدخل الحكومة في إضرابات عمال المصافي، الذي تسبب في نقص الإمداد بالوقود.
ومع بداية الشتاء، شهدت باريس مظاهرات تطالب باستقالة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، رافضة عضوية فرنسا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ورافضة إمداد أوكرانيا بالسلاح، ومطالبة بوقف الاستثمار في السبل الدبلوماسية، إذ يرى المتظاهرون أن ماكرون يمد أوكرانيا بأسلحة من أجل حرب لا تهم الشعب الفرنسي، وأنها تتنازل عن جزء من أموالها في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الفرنسي من قلة الوقود والتدفئة.
أما ألمانيا، فكانت بداية الشرارة لتعطل عمليات العبور بعد أن توقفت القطارات، وكذلك اضطربت حركة النقل الجوي، بسبب إضرابات طياري خطوط “لوفتهانزا” الألمانية والتي انتقلت إلى شركات أخرى وموظفي المطارات في أنحاء أوروبا، الساعين إلى رفع أجورهم تماشيا مع معدلات التضخم.
وكذلك شهدت مدن شرق ألمانيا مظاهرة احتجاجًا على ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، ومطالبات واسعة تتضمن خفض التضخم وإيقاف محطات الطاقة النووية وزيادة دعم أسعار الطاقة للفقراء. وكان قد دعا إلى المظاهرة تحالف يتألف من أكثر من 40 مجموعة يميل أكثرها إلى الطيف اليساري من نقابات وناشطي مناخ إلى حزب اليسار، وذلك بعد أن وصل التضخم بألمانيا إلى أعلى مستوى فيما يزيد عن ربع قرن عند 10.9%، وتزايد عدد الفقراء بها حتى وصلوا إلى 13.8 مليون شخص يعيشون على أو تحت خط الفقر.
وخلال الأسابيع الماضية، شهدت إيطاليا تظاهر عشران الآلاف من الإيطاليين في العاصمة روما لمطالبة حكومة بلادهم بالتوقف عن إرسال أسلحة لمواجهة الغزو الروسي في أوكرانيا، وكذلك نظم الاتحاد العام الإيطالي للعمال مسيرات؛ احتجاجًا على ارتفاع تكلفة المعيشة والتضخم وزيادة أسعار الطاقة، وعبروا عن غضبهم من خلال الشعارات المناهضة للفاشية والمسالمة.
وفي النمسا، تجمع المئات من المتظاهرين في العاصمة النمساوية فيينا، معربين عن رغبتهم في خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، مشددين على أهمية تكوين صداقة مع “روسيا”، وأهمية عدم فرض عقوبات عليها، وبالتالي سيؤدي الأمر بالتأكيد إلى خفض أسعار البنزين والكهرباء والغاز والغذاء.
كذلك الأمر في التشيك، فقد طالبت حشود المحتجين باستقالة الائتلاف الحكومي الموالي للغرب، منتقدين دعمها لعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، وانتقدوا الحكومة التي لم تقم بما يكفي لمساعدة الأسر والشركات التي تمر بوضع خانق، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة.
وبالعودة إلى بريطانيا، نجد أن تصريحات سوناك المتوعدة لم تتطرق إلى أسباب اندلاع المظاهرات من الأساس، أو الوعد بإيجاد حلول لها، أو أي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي الناتج عن زيادة تكلفة المعيشة ومعدلات التضخم، ما يضع رئيس الوزراء الجديد تحت بؤرة الضوء؛ فهذه النبرة الهجومية لم يعتد البريطانيون عليها، وبالتأكيد سيواجه سوناك انخفاضًا ملحوظًا في شعبيته وانتقادات لاذعة عقب هذه التصريحات العدائية؛ إذ يرى الكثيرون أنه لامس بتصريحاته جزءًا يتعلق بحقوق الإنسان في بريطانيا، والحق في التظاهر السلمي اعتراضًا على أداء الحكومة.
ما يضع حزب المحافظين بأكمله على المحك، خاصة مع اقتراب الانتخابات واستمرار الانقسامات والانخفاض الملحوظ في شعبية الحزب خلال استطلاعات الرأي الأخيرة. ويبدو أن الوحدة التي كان من المفترض أن يقدمها ريشي سوناك لحزب المحافظين في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها الأشهر أو حتى السنوات الأخيرة، لم تكن وحدة متكاملة على النحو الذي كان متوقعًا من وجهة نظر الكثير من البريطانيين.
.
رابط المصدر: