تعرف الدول الغربية، وهي تحاول أن تصنع من رضا بهلوي “شخصية أيقونية”، أن مشهد عودة الخميني إلى طهران حدث تاريخي لن يتكرر مع بهلوي أو غيره من شخصيات ما يُسمى بـ”المعارضة الإيرانية في الخارج”. ولذلك، فإن السؤال المنطقي الذي يجب أن يُطرح: ما الذي يجعل الدول الغربية تستثمر في معارضة تعرف أنها غير قادرة على إحداث التغيير؟ وهل بناء الصورة لهذه الشخصية أو تلك يعيد إلى الأذهان ما حدث في العراق وأفغانستان؟ والجواب أن هذا “الاستثمار” هو جزء صغير من الصورة الأكبر والتي تقول بشكل واضح إن الغرب بتحالف واضح بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكذلك مع أطراف إقليمية يتحرك ضمن إستراتيجية معدة بعناية لـ”البطش” بالجمهورية الإسلامية التي يرون أنها ذهبت بعيدًا في تحديها للسياسة الغربية ودخلت طرفًا في المعركة الدائرة مع روسيا من باب المسيرات وهو الباب الأخطر والأكثر حساسية، وهو الباب ذاته الذي فتح شهية الغرب ليتحرك بشراسة ضد البرنامج الصاروخي الإيراني واضعًا قضية الملف النووي في خانة الفشل وساعيًا لإعادتها إلى أروقة مجلس الأمن الدولي.
في الإعلام والسياسة: حرب غير معلنة
قد يكون الملف النووي قد تراجع من قائمة أولويات الولايات المتحدة الأميركية، ولكن إيران ليست كذلك، والمفاصل العديدة التي ترتكز عليها الإستراتيجية الغربية تجاه إيران قد لا تصل حد إسقاط النظام لكنها بالتأكيد تدفع بشدة لتعميق أزمته السياسية والاقتصادية والأمنية، وعزل النظام وإحراجه داخليًّا وخارجيًّا، ولا يبدو سيناريو الفوضى بعيدًا عن هذا المنظور. وإذ تبدو هذه الإستراتيجية مرغوبة ومطلوبة من قبل إسرائيل ودول إقليمية أخرى إلا أنها لعبة خطرة قد يكون لها ارتدادات خارج إيران.
وبالعودة إلى هذه الإستراتيجية، التي تتنوع أذرعها ومفاصلها فيمكن التوقف عند مجموعة من العناوين الواضحة:
- وصمة الإرهاب: يسعى الحراك الأوروبي إلى التهديد بورقة تصنيف “الدولة الراعية للإرهاب”، وبدأ برفعها في وجه إيران إما علنًا أو تلميحًا، ولعل التهديد والسعي لوضع مؤسسة الحرس الثوري على قائمة الإرهاب هو أبرز هذه الخطوات، صحيح أن هذا التهديد لم يأخذ شكلًا قانونيًّا بعد لكنه عنوان عريض يمكن أن تجري تحته كثير من الخطوات ومنها العقوبات.
- حرب أوكرانيا وقضية المسيرات: ما بدأ الغرب يقوله: إن إيران ومن خلال تزويد روسيا بالطائرات المسيرة وفي مقدمتها “شاهد 136” قد أصبحت طرفًا في المعركة، ولذلك فهي قد وضعت نفسها في مواجهة مع الدول الغربية، ويرافق ذلك تصعيد سياسي من قبل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
- حرب إعلامية: لا تتحمل الدول الغربية كلفة تمويل محطات ووسائل إعلامية معارضة لإيران في الخارج برز دورها خلال الحالة الاحتجاجية الأخيرة وتكفل بعض هذه المحطات بالترحيب بالعنف وإعطاء دروس في صناعة المتفجرات؛ إذ يتكفل بالتمويل أطراف إقليمية تعتقد أنها الطريقة الأمثل للتعامل مع نفوذ إيران الإقليمي، ولكن الدول الغربية تستثمرها أمنيا ضد طهران بصورة واضحة، وقرار انتقال مقار بعضها من لندن إلى الولايات المتحدة الأميركية لا يأتي بعيدًا عن هذه الإستراتيجية وخطة الاستثمار. واقترحت الكاتبة الأميركية، باربارا سالفين، على إدارة بايدن اتخاذ خطوات أخرى غير العقوبات التي تفرضها على طهران، ومنها تسهيل إرسال التحويلات المالية من قبل الإيرانيين المغتربين لعائلاتهم في إيران؛ مما يمكِّن العمال الذين يخشون الضرر المالي من الدخول في إضراب، بالإضافة إلى السماح للإيرانيين بالعمل عن بعد -من خلال الوسائل التكنولوجية- لصالح الشركات الأميركية والمتعددة الجنسيات للحصول على تعويض عن عملهم. ورفع دبلوماسيتها العامة لتوسيع مطالب المحتجين الإيرانيين، من خلال تخصيص المزيد من الموارد لوسائل الإعلام الناطقة باللغة الفارسية التي تمولها الحكومة الأميركية. وتوصي سالفين أيضًا: “يجب على الولايات المتحدة زيادة التأشيرات المخصصة لطلاب الدراسات العليا الإيرانيين إذا اختاروا العودة إلى ديارهم، فإنهم عادةً ما يأخذون معهم تجارب إيجابية تتعارض مع الدعاية الإيرانية وتوسع نسبة الذين يبحثون عن علاقة أفضل مع الولايات المتحدة عندما تكون الظروف مواتية أكثر”.
- تحرك الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحديث عن أن تقريرًا يقول بأن إيران تخصب يورانيوم بنسبة تصل إلى 85%، وتوتر العلاقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية هو البوابة المثلى لإعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن.
- تعزيز حالة التوتر الداخلي عبر مزيد من التضييق الاقتصادي ومزيد من العقوبات، وإيصال المواطن الإيراني إلى قناعة بأن المعارك التي يخوضها النظام في بلاده تعود بالويل عليه.
- تصاعد حرب الظل: وبالتضافر مع هذه الخطة وبموازاتها، تتحرك إسرائيل في ميدان حرب الظل ضد إيران بصورة متصاعدة، وتنفذ هدفها بإضعاف إيران في الإقليم وتفتيت جبهة حلفائها. والاستهداف المتكرر لسوريا هو الملمح الأبرز لذلك.
ماذا عن الأزمة السياسية داخليًّا؟
لا يمكن أن تفلح حالة الإنكار في تجاوز الأزمة الداخلية في إيران، صحيح أن الحالة الاحتجاجية لم تكن تشكل خطرًا وشيكًا على استقرار النظام وقوته لكنها تقدم ملمحًا من ملامح الأزمة الداخلية في إيران، وهي أزمة متعددة الأوجه ما بين اجتماعي وسياسي واقتصادي وإن كان الاقتصادي المعيشي هو الأكثر ضغطًا وإلحاحًا مع تراجع القوة الشرائية للعملة الإيرانية.
يكتب الخبير الاقتصادي، محسن ريناني، تحليلًا قاسيًا محذرًا من أن سقوط أي شركة أو منظمة أو هيكل سياسي واجتماعي له أربع مراحل؛ ويحدث” السقوط” عند حدوث المرحلة الرابعة ويرى أن الجمهورية الإسلامية مرت بالمراحل الثلاث الأولى من الخريف، ويضيف: لا أدري كم من الوقت وإلى أي مدى يمكن أن تمنع تحقيق المرحلة الرابعة بالمقاومة والعنف وجعل المجتمع مجتمعًا أمنيًّا أكثر، ويستدرك أنه يمكن تقليل احتمال الانهيار بتغيير الإجراءات، قبل أن تحدث المرحلة الرابعة من الانهيار بـ “ثورة من تحت”، من خلال “ثورة من فوق”.
يصف ريناني الوضع بالقول: في هذه الأيام، لا يوجد أي من الأخبار التي نسمعها يحمل أي علامة على “الحكمة المنهجية” للحكومة. فمن ناحية، يتجه الغرب بسرعة نحو إجماع عالمي ضد الحكومة الإيرانية. لأول مرة في تاريخ ما بعد الثورة، تحرك المهاجرون الإيرانيون نحو التضامن والتنسيق في النشاط والسياسة ضد إيران. داخليًّا، وصلنا إلى مرحلة تقارب الأزمات وصنع القرار في معظم المجالات في حالة انتظار وغموض. “الحياة السلبية” مستمرة ولكن “الحياة النشطة” معلقة والجميع ينتظرون التحول أو الانفتاح؛ تحول لا يعرفون ما هو ومن مكان لا يعرفونه. شفرة المقص تقترب من الحكومة من الداخل والخارج، وحادثة واحدة تكفي لتحريك شفرات هذا المقص.
حتى اليوم لم تفلح حكومة رئيسي في إدارة ملف العلاقة مع منافسيه وخصومه السياسيين، ولم تحدث الانفراجة السياسية التي كان البعض يأملها، وفي الظل يتحرك حسن روحاني لبناء تيار سياسي يكون قادرًا على فرض نفسه في الساحة السياسية مجددًا مستغلًّا الفشل في عدد من الملفات. وفيما بدت وحدة الصف الأصولي نقطة قوة مع مجيء رئيسي للرئاسة إلا أن الأوضاع ما لبثت أن كشفت عن أطياف متنافرة داخل التيار نفسه، ولا يخفى وجود خلاف بين كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري، الذي يجلس في مكتب داخل مجلس الأمن القومي وليس وزارة الخارجية، ووزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، بشأن إدارة ملف التفاوض.
قد تكون إيران، ومن خلال سياسة التوجه شرقًا، قد نجحت في الحصول على منظومات دفاعية وأسلحة من روسيا كانت تحتاجها بشدة، وتصب في تعزيز حالة الردع الإيرانية، ولكن المواطن الإيراني خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الصين لم يلمس حتى اليوم منافع هذه العلاقة.
وما زالت الشكوك حتى من قبل المتخصصين تحيط بالشراكة الصينية-الإيرانية. مؤخرًا، قام الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بزيارة هي الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ 20 عامًا، جرى خلالها توقيع 20 اتفاقية بين طهران وبكين لتعزيز التعاون المتبادل في مختلف القطاعات الأمنية والاقتصادية والبنى التحتية، ولا تبدو الصين معنية بأن تكون طرفًا في التوتر الإيراني-الأميركي وترجح سيناريو “لا حرب ولا سلام” بشأنه ولا تدعم بأي حال من الأحوال تحول إيران لدولة نووية. ورغم توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الموقعة بين إيران والصين عام 2021، ومدتها25 عامًا، إلا أنها وحتى اليوم لا تجد آليات لتنفيذها ولم تؤدِّ حتى إلى تلبية التوقعات الاقتصادية لإيران، وإن كانت إلى اليوم هي أكبر مشتر للنفط الإيراني وأكبر شريك اقتصادي لإيران.
أما في الإقليم ورغم أن إيران ما زالت تحافظ على نفوذها القوي، إلا أنها تواجه حالة من عدم الاستقرار في ساحة حلفائها خاصة في العراق، كما تبدو محادثاتها مع السعودية متعثرة حتى اليوم، وغياب تسوية لعدد من الملفات العالقة في علاقة البلدين يعد إخفاقًا في سياسة رئيسي خاصة مع وضعه أولوية الجوار في سياسته الخارجية.
تتعاظم الأخطار المحدقة بالجمهورية الإسلامية، ولكن ملفها الداخلي هو الملف الأكثر هشاشة وحساسية. تحتاج إيران اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إصلاحات سياسية جريئة في الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تحتاج ثورة من أعلى تفوِّت الفرصة على المتربصين والساعين إلى توظيف الاحتجاجات التي تتزايد من أسفل.
.
رابط المصدر: