د. علي المعموري
نتيجة التفاعلات في العلاقات الدولية وتطورها جعل كافة دول العالم تعتمد على التمثيل الدبلوماسي بشكله الحالي، والذي يعتمد في نظريته على تبادل كافة أنماط الحركات الإنسانية من تبادل المصالح التجارية والإقتصادية والسياسية وحتى الثقافية، لذا جاء ذلك التمثيل الدبلوماسي بين الدول ليلبي حاجتها إلى خلق أنماط وسلوكيات معينة تحتم على الكل احترامها من قبيل التعاون وتحقيق المصالح المشتركة، وهذا أدى بالنتيجة إلى التزام جميع الدول إلى خلق التزام دولي لحماية البعثات الدبلوماسية المتواجدة على إقليمها، فكان لابد من وجود قواعد قانونية تنظم العمل بذلك، لكي تقوم تلك البعثات بالعمل ضمن إطار قانوني محدد يضمن لها العمل ضمن ظروف أقل ما يقال عنها بأنها مناسبة وبعيدة عن كل الضغوط.
لذا جاءت إتفاقية فينا 1961 من أجل أن تكفل الحماية الدولية للبعثات الدبلوماسية ضمن إقليم الدولة وتقوم بوضع آليات لعل من أهمها المسؤولية الدولية عن إنتهاك البعثات الدبلوماسية، حيث تشكل المقرات الدبلوماسية من أهم العناصر المكونة والمهمة والمكونة للبعثة الدبلوماسية، حيث يجب أن يشعر أعضاء البعثة الدبلوماسية بالحرية والطمأنينة من أجل أداء وظائفهم وهذا ما ركزت عليه في الحقيقة إتفاقية فينا لعام 1961 المذكورة في المادة 1/ط على “عبارة المباني وتشمل الأجزاء من المباني والأرض التابعة لها والتي تستعمل لإغراض البعثة أياً كان مالكها وتدخل فيها إقامة رئيس البعثة”.
من هذا نجد أن القانون الدولي وبإجماع الدول تؤكد على وجوب إحترام البعثات الدبلوماسية ومقراتها، وتوجب على من يتعرض لها الإمتثال للعقوبات التي تنص عليها القوانين الدولية, والتي من الممكن أن تدخل ضمن إطار العقوبات الإقتصادية وإلى ما ذلك.
إن تحقيق الأمن في حماية البعثات والمقرات الدبلوماسية في العراق هو إحدى مهام الحكومة القائمة التي يقع عليها هذا الأمر، والذي يمكن أن يرسل رسالة إلى دول العالم التي لديها ممثلين فيها مفادها أن قدرتها بتحقيق الأمن ماهو إلا إحدى مهامها الطبيعية والتي قد تقود إلى جلب الاستثمارات من دول تلك الممثليات والحصول على المساعدات الإقتصادية وتبادل الخبرات العلمية والأكاديمية ورفع مستوى العراق في المحافل الدولية، مما سينعكس إيجابا في حالة إرساء الأمن وسلباً في انعدامه.
لم يكن بيد أحد أن ينظر إلى ما يجري في العراق من استهداف البعثات الدبلوماسية على أنها صدفة محضة في ظل توقيت سيء، كما لم يكن يبدر ببال أحد أنه إذا لم ينظر إلى موضوع استهداف مقرات البعثات الدبلوماسية، والتي كانت في البدء مجرد حالات فردية إلا أنها تتطور طردياً بهذا الشكل الخطير لتشمل مساحة أوسع نطاقاً، والتي استعدت من بعد ذلك إلى إصدار بيانات شجب واستنكار ودعوة من قبل عدة دول لها سفارات وممثليات وبعثات دبلوماسية إلى الحكومة العراقية إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وأكثر حزما من ذي قبل وفتح تحقيقات مكثفة من أجل الوصول إلى نتائج أكثر واقعية.
حيث طلب سفراء أكثر من 25 دولة في العراق بلقاء رئيس الوزراء العراقي وتم ذلك في 30/سبتمبر 2020، من أجل مناقشة التطورات الخاصة بأمن البعثات الدبلوماسية في العراق، من أجل هذا كله خرج اللقاء بعدة معطيات، حيث وعد رئيس الوزراء العراقي سفراء الـ 25 دولة في العراق حرص العراق على فرض سيادة القانون وحصر السلاح بيد الدولة وحماية البعثات والمقرات الدبلوماسية، كما شدد على أن مرتكبي الاعتداءات المتكررة على أمن البعثات الدبلوماسية يهدفون إلى زعزعة أمن واستقرار العراق وإعاقة بناءه وتخريب علاقاته الإقليمية والدولية، كما أكد على أن من يقوم بذلك هم لا يستهدفون البعثات والمقرات الدبلوماسية فقط، وإنما هو استهداف المواطنين الأبرياء ويشذون بفعلهم هذا إلى الإساءة للعراق والتزاماته الدولية انطلاقاً من دوافع غير وطنية، مما يؤدي إلى الإساءة للشعب العراقي والمرجعية الدينية.
ولعل ما أكد عليه الكاظمي في وعوده لسفراء تلك الدول من أجل إتخاذ ما يلزم من أجل إيقاف وإلقاء القبض على من يقوم بتلك الإستهدافات هو قد جاء من إيقانه التام من أن أهم مقومات إرساء الأمن في العراق هو القضاء على السلاح المنفلت والخارج عن سيطرة الدولة، وفرض هيمنتها.
ومن نافلة القول، لا يمكن جزم ذلك بسهولة فعملية السيطرة على الجماعات المنفلته والخارجة عن سيطرة الدولة ليست بالأمر البسيط كما يعتقد الكثيرون، ذلك أن تشعب عمل هذه الجماعات بشكل أفقي ومنقطع الخيوط وارتباطها بأجندات إقليمية ودولية تجعلها متدربة ومؤهلة لمثل هكذا عمل، يصعب اصطيادها لاسيما في ظل ظروف أمنية غير مستقرة وعملية سياسية تتنفس الصعداء من أجل الخروج بمعطيات وطنية بحته.
ونتيجة لتصعيد الهجمات المسلحة طالبت وزارة الخارجية الفرنسية في وقت سابق أيضا بضرورة تعزيز أمن السفارات والبعثات الدبلوماسية في العراق لا سيما بعد تهديد الولايات المتحدة الأمريكية سفارتها في العراق والذي سيترتب عليه أيضا انسحابها من التزاماتها مع العراق سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو سياسية، هذا وقد أكدت قيادة العمليات المشتركة العراقية أنها قامت بإلقاء القبض على إرهابيين متورطين باستهداف البعثات الدبلوماسية، وسيتم الإعلان في وقت لاحق عن نتائج التحقيق بكل إنسيابية وشفافية، وهذا يحسب على الجهود التي بذلت من قبل القوات الأمنية والتي تحاول بكل ما لديها من قدرات إلى تحييد هذه الجماعات وسبل عملها وتفكيكها.
على الرغم من ذلك، أعلنت خلية الإعلام الأمني في العراق استهداف السفارة الأمريكية وإطلاق صفارات الإنذار من مبنى السفارة، كما تم استهداف قاعدة فكتوريا الأمريكية العسكرية في محيط مطار بغداد الدولي، وجاء هذا الاستهداف على الرغم من التعهدات التي قدمها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من حماية البعثات والمقرات الدبلوماسية من الهجمات المتكررة بالصواريخ. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على الصعوبة التي تواجهها حكومة الكاظمي في معالجة هذا الملف المعقد، حيث أن مستوى التحدي والتهديدات التي تواجه الحكومة في هذا الملف تراكمي بتراكم أخطاء الحكومات السابقة.
وهذا يحتم على الحكومة العراقية إتخاذ عدة إجراءات حاسمة، ومنها:
1- إثراء المؤسسة الأمنية والاستخبارية بمراجع أكاديمية علمية لتطويرها لرفع من مستواها الإستراتيجي والتخطيطي وإعطاء مساحة أكبر لإيجاد منافذ مستحدثة ومتطورة للرقي بها.
2- تحديد مكامن الخطر الذي يهدد أمن الدولة القومي من خلال إجراء مسح ميداني أمني للمناطق التي تنطلق منها الهجمات المسلحة والتي تم من خلالها استهداف السفارات والبعثات الدبلوماسية.
3- فرض هيبة الدولة يجب أن تكون من أولى أولويات الحكومة بغض النظر عن من يرضى أو لا يرضى، ويتم ذلك من خلال عدة مستويات، أولها حصر السلاح بيد الدولة، وتحديد حركة من لديهم سلاح مرخص، ضمن إطار جغرافي ثابت.
4- إبعاد المؤسسات الأمنية والاستخبارية والعسكرية عن التأثر بحالات الشد والجذب في الوسط السياسي وعدم الانجرار وراء أفكار لا تمت بمؤسسات الدولة بذات صلة.
5- حصر السلاح لا يجب أن يتم بطريقة تقليدية ومؤقتة لحين إنتهاء أزمة استهداف البعثات والمقرات الدبلوماسية، وإنما يجب أن يكون وفق خطة معدة مسبقاً تتبنى عدة مراحل وعدة مستويات لكي لا تعاد الكرة بعد فترة وأخرى.
لعل من أهم ماذكر، يوجب أن توجد إرادة سياسية حقيقية تمكن من مساعدة الحكومة في تحقيق فرض سيطرتها وتحقيق أهدافها التي جاءت بها ورفع مستوى الأمن في البلاد من خلال التخلي عن دعم بعض الجهات السياسية غير المرغوب بها.
رابط المصدر: