محمد علي جواد تقي
مدخل للشفاعة
الشفاعة؛ كما هو مفهوم ديني، فانه ينصرف بألفاظ أخرى الى دلالات انسانية وتكوينية، من شأنها تعزيز التلاحم الانساني، وتبعث على الاطمئنان في غمار الازمات والملمّات في الحياة.
“فمن الناحية اللغوية: الشفاعة؛ ضمّ الشيء إلى مثله، فالشيء مرةً يكون وحده، ومرةً يُضم إلى شيء ما مُباين له، ومرة ثالثة يُضم إلى شيء يماثله، وهذه العملية الثالثة تطلق عليها؛ الشفاعة، أما من الناحية الاصطلاحية؛ فهي عبارة عن ضمّ العنصر الأقوى إلى العنصر الأضعف”، (من محاضرات آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي، طاب ثراه)، وهذا ما نلاحظه في في النبات الذي ينمو ويشقّ طريقه من تحت التراب بواسطة (شفاعة) عناصر الحياة التي تمدّ البذرة لتتحول تدريجياً الى شجرة يانعة.
ولعل من دلائل وعلائم الرحمة الإلهية للبشر، هذا المفهوم تحديداً، فالانسان المنغمس في شؤون حياته، تعترضه مشاكل وعقبات وتحديات تجذبه لصاحب القوة العظمى في الحياة والكون لينقذه مما فيه، او يحل مشكلته عندما يصل الى مرحلة العجز بعد بذل كل الطاقات والقدرات المتاحة، وقد بحث العلماء في هذا المفهوم العظيم، وخرجوا الى أن الشفاعة تمثل مخرجاً مدهشاً من أعظم الشدائد والازمات، وهي تبدأ من الله –تعالى- بنصّ الآية القرآنية: {إن الشفاعة لله جميعاً}، فهو الذي يشفي، وينقذ، ويعطي، ويخلّص، ثم جعل –تعالى- لهذه الشفاعة طرق فرعية لمزيد من الفرصة والرحمة أمام المؤمنين في عزّ الشدائد بأن يتوسّلوا بأوليائه الصالحين أن يكونوا بينهم وبين الله شفعاء لقضاء تلكم الحوائج، عندما يتعذر عليهم توفير شروط الاستجابة المباشرة لدنه –سبحاته وتعالى-، لاسيما وأن ثمة حجب من المعاصي والذنوب تحول بين العبد و ربه، بينما تكون العلاقة العاطفية الممزوجة بالايمان والحب العميق مع الأولياء الصالحين، وهم من البشر، تفتح المجال لاستجابة الدعاء ونجاح عملية التوسّل، بالضبط؛ كما هو دور الأم عندما تشفع لابنها في طلب معين لابنها عند الأب، لاسيما اذا كان غاضباً بسبب موقف سيئ، او معصية من الابن.
هذا المفهوم؛ من أرقى وأروع ما يفخر به التشيّع، وأتباع مذهب أهل رسول الله، في منظومتهم الثقافية، وتقف السيدة الجليلة؛ أم البنين، زوجة أمير المؤمنين، سلام الله عليها، في أرقى منزلة من منازل الشفاعة بين القمم الأخرى للأولياء الصالحين عند الله –تعالى-، فهي حاضرة في الوجدان الشعبي في كل صغيرة وكبيرة من الملمّات، يلهج باسمها المؤمنون، ويقيمون الطقوس العبادية مثل المجالس والموائد وتوزيع الطعام لاستحضار كرامة هذه المرأة العظيمة عند الله –تعالى- لما قدمته من عطايا استثنائية له –سبحانه وتعالى- وللدين.
قوة الشفاعة بمدى القرب الى الله –تعالى-
في مثل هذه الايام من شهر كانون الثاني من العام الماضي، جرى القلم –بالحاسبة طبعاً- في ذكرى وفاة هذه السيدة الجليلة، وذكرنا أن هذه المنزلة الموهوبة لأم البنين لم تكن لولا عطاء جزيل وعظيم منها، وإلا فان ثمة نساء كثُر حول أهل بيت رسول الله، شهدن الاحداث الجسام، ومنها؛ عاشوراء، ومواقف عصيبة اخرى، ولهنّ الفضل والكرامة عند الله، بلاشكّ، إنما موقف أم البنين؛ المرأة والأم، يختلف تماماً، ولا أجدني بحاجة الى إعادة سرد الموقف التاريخي لحظة دخول الناعي الى المدينة، وهو يبلغ أهلها بما جرى في كربلاء، إنما المهم اليوم ما نتعلمه من توفير المؤهلات الروحية للزلفى عند الله –تعالى-، لاسيما وأن البعض له ماخذٌ على الحاجة للتوسل الى البشر من دون الله في قضاء الحوائج، والاجابة تأتي في السلوك العملي لافراد المجتمع الشيعي والاسلامي على حدٍ سواء، فالجميع يدين بالولاء للنبي الأكرم، ويقرأ القرآن الكريم، ويحفظ من السيرة النبوية بعض الشيء.
فمن أهم ركائز الثقافة الاسلامية التي ارسى دعائمها الرسول الأكرم في المجتمع الاسلامي الأول في المدينة؛ تهذيب النفس من شوائب الشهوات والرغبات، وتنمية الملكات النفسية مثل الورع والتقوى، الى جانب تنمية الخصال الاخلاقية، وكل ما من شأنه صياغة شخصية ايمانية تجسد روح الاسلام في طريقة التعامل بين افراد البشر، وبين البشر وبين الخالق –تعالى-، فالاسلام؛ على لسان رسول الله، وفي آيات الذكر الحكيم يدعو مؤكداً الانسان للسعي نحو التكامل والتسامي، قبل التفكير بوجود شفعاء يعينونه في الدنيا والآخرة؛ سواء تكون الشفاعة مباشرة من الله –تعالى-، او ان تكون غير مباشرة بالتوسّل. لذا جاء في الروايات عن المعصومين أن عدم ارتكاب الذنب أسهل بكثير من الاستغفار للذنب (مضمون الحديث).
وأذا نظرنا الى خلفية الموقف التاريخي لأم البنين مع ذلك الشاعر، وطريقة سؤالها عن الامام الحسين، عليه السلام، وتجاهلها مصير ابنائها الأربعة، نجد أن هذا الموقف لم يكن لولا مسيرة طويلة من التهذيب والتنمية النفسية والروحية واظبت عليها خلال وجودها الى جانب أمير المؤمنين، ومن ثمّ الى جانب الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وربما قبل ان تتزوج، حين كانت فتاة بين مئات الفتيات في المدينة، فموقف مثل ذاك، لايمكن أن يأتي بسهولة، لاسيما وأن الامر يتعلق بغريزة الأمومة وعلاقته بالطفل، وهي غاية في الحساسية، بيد أن الايمان العميق بالولاية والتزام طاعة الامام المعصوم، وأن حياته ومصيره فوق كل شيء، هي التي تجعل هذه الغريزة طوع إرادتها، تتحكم بها كيف تشاء، لا أن تكون هذه الغريزة هي التي تتحكم بالأم كما هو المعروف في معظم الاحيان.
اكتساب مهارة الوصول الى الأولياء الصالحين
حتى الوصول الى أم البنين، سلام الله عليها، يبدو انه ليس بالسهل، فالكثير يتوسلون بهذه السيدة الجليلة، لكن يحكمهم القانون الإلهي الوارد في القرآن الكريم: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، والرضى الإلهي يتطلب سلسلة من الاجراءات والمهارات يتبعها صاحب الحاجة للوصول الى إذن الدخول الى ساحة القضاء وتغيير الحال والاحوال، ومما يرويه علماؤنا عن المقدمات الإيمانية لاستجابة الدعاء ما جرى في مدينة سامراء في نهايات القرن الماضي، عندما كانت الحوزة العلمية عامرة هناك بفضل وجود المرجع الديني الأعلى السيد محمد حسن الشيرازي، فقد انتشر وباء خطير وفتّاك أودى بحياة المئات من أهالي المدينة، وبينما الذعر والخوف مستولٍ على الناس دعا أحد ابرز العلماء هناك وهو السيد محمد الفشاركي الاصفهاني (1253 – 1316 هـ ) المؤمنون من اتباع أهل البيت، بقراءة زيارة عاشوراء بالنيابة عن والدة الإمام المنتظر، عجل الله فرجه، السيدة نرجس، عليها السلام، لكي تكون شفيعة عند الإمام المنتظر وأن تذهب إلى الإمام المنتظر وتستشفع به الى الله –تعالى- لرفع هذا الوباء.
الفقيه الشيرازي –طاب ثراه- يصف هذه الدعوة “بالإلتفاتة اللطيفة التي تجمع بين الإمام الحسين، وبين الإمام المنتظر، و بين والدة الإمام المنتظر، صلوات الله عليهم”، وينقل سماحته عن الشيخ عبد الكريم الحائري –مؤسس حوزة قم المقدسة- وهو يروي القصة، بأن الوباء ارتفع عن المؤمنين الموالين ببركة قراءة هذه الزيارة.
إن المؤمنين والموالين لأهل البيت في سامراء كان بامكانهم التوسّل مباشرة الى الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه- من البقعة المباركة في الحرم الشريف، وتحديداً في السرداب المبارك، لدفع الوباء عنهم، بيد أن معرفة ذلك العلماء الفذّ تعلمنا أن الاستجابة الى الدعاء والتوسل لها آداب وطرق، على الانسان التوسّل بهذه الطرق في “المرحلة الاولى”، يقول سماحة الفقيه الشيرازي، قبل التوسّل بالإمام والولي الصالح صاحب الكرامة العظيمة عند الله، وهذه بدورها تثقف لتعزيز العلاقة بالأولياء الصالحين، والنظر ملياً في سيرتهم وحياتهم، وكيف عاشوا؟ ثم كيف حصلوا على هذه الكرامات والمنازل الرفيعة عند الله –تعالى-، مما يمكن تسميته بنوع من “المهارة النفسية والروحية”، ولعل هذا يفسّر سبب استجابة دعاء وتوسّل اشخاص ربما ليسوا من الموالين لأهل البيت، عليهم السلام، إنما حلّقت أرواحهم في رحاب تلكم الشخصيات، والقصص في ذلك كثيرة لا تُعد.
فاذا كان ذلك الانسان غير المؤمن، او غير الشيعي، يصل في لحظة معرفة، او ومضة اتصال بالولي الوجيه عند الله، ويشفي له مريض –مثلاً- فان من ينسب نفسه لمنهج أهل بيت رسول الله، لحريٌ بأن يكون حاضراً باستمرار في حياة هؤلاء، لاسيما السيدة الجليلة التي نعيش هذه الأيام ذكرى وفاتها، حتى تكون الشفيعة لنا دائماً فيما نعانيه، بل وأكثر من هذا؛ تكون لنا عوناً وسنداً لما نحن بصدده من السعي نحو التطور والتقدم في مجالات الحياة كافة.