ماثيو فيلدمان
بعد مرور أسبوع على حادثة القتل المفجعة لرجل أسود مكبّل اليدين يُدعى جورج فلويد، خرج دونالد ترمب إلى “حديقة الورود” في العاصمة واشنطن لإلقاء كلمة. وحدث ذلك في الأول من يونيو (حزيران) 2020. يومها، توقعت قلة قليلة من الناس أن يصدر عنه تطمينات من أيّ نوع. وجاء خطابه أقصر من مقطع الفيديو الذي جال العالم، وبيّن بالصوت والصورة كيف خرجت الروح من جسم فلويد، بعدما جثم شرطي على عنقه دقائق عدة. في المقابل، إن الثواني الخمسمئة التي خصصها ترمب لخطابه ذلك، كانت أكثر من كافية لوصمه بالفاشية.
وقد أُثيرت شكوك قبل سنوات حول فاشية دونالد ترمب. في المقابل، فضّل متخصصون من أمثالي، وصفه بالـ”نرجسي” أو الـ”بيروقراطي”. وكاد هذا الوصف أن يكون توافقياً لولا الانقسامات المعهودة في ما بيننا نحن الأكاديميين. لكنني أرى اليوم أننا ربما تسرّعنا في موقفنا. لِمَ لا وأحداث الاثنين إن دلّت على شيء فإنما تدل على تطرّف يميني، إن لم يكن قومية ثورية كاملة، وتلك هي الفاشية؟
ومع تركيزه بشكل كبير على أعمال الشغب والنهب التي تلت مقتل فلويد، هدّد الرئيس الأميركي باللجوء إلى “قانون الانتفاضة 1807” لنشر القوات العسكرية في الشوارع. ودعا إلى اتخاذ إجراءات أمنية أكثر صرامة تجاه اليساريين، حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الغاز المسيل الدموع المحظور دوليّاً، على تجمعات احتجاجية سلمية، على غرار ما حدث بالقرب من “منتزه لافاييت”، حينما أراد الوصول إلى “كنيسة القديس يوحنا الأسقفية”، لالتقاط صور تذكارية، حاملاً الإنجيل المقدّس رأساً على عقب، كما لو أنه أنشوطة.
ويُمكن لتدنيس المقدسات على هذا النحو أن يلقى ترحيباً لدى المدافعين الشرسين عن ترمب، ومعظمهم مسيحيون إنجيليون من أصحاب البشرة البيضاء. ولقد بالغ هؤلاء في تحريف مبادئ الإنجيل عن الرحمة والعدالة والأمل، وصولاً إلى المسيحيانية. وصحيح أن ترمب غير قادر على اقتباس ولو آية واحدة من الكتاب المقدّس، لكنّه خير من يُجسّد “إنجيل الرّخاء” الأميركي الفريد، حتى في مواجهته الحالية مع الديمقراطية الأميركية، على اعتبار أنها سياسة معادية المسيح.
وليس بيت القصيد هنا تسليط الضوء على تاريخ ترمب الشخصي، بدءاً بعضوية والده فريد في أخويّة “كو كلوكس كلان” (كيه كيه كيه KKK)، منظمة عنصرية متطرفة، وانتهاءً بتصريحاته العنصرية الكثيرة. يتمثّل القصد فعلياً في إماطة اللثام عمّا يمثله ترمب، وليس الحديث عن الرجل بحد ذاته، ونعني بذلك المسيحيانية التي تُعتبر تشويهاً صارخاً للإيمان المسيحي، على غرار كون الإسلاموية تشويهاً للإسلام. الواضح أنّ رجلاً مشوّه الأخلاق على شاكلة ترمب محظوظ جداً، لحيازته تصريحاً سلوكياً يمنحه حرية الاضطلاع بدور العقل المدبر. بكلامٍ آخر، ترمب محظوظ لأن بإمكان مناصريه أن يكرّموه ويُكرّسوه “رمزاً لهوية بيضاء جديدة وهدفاً مشتركاً”، بدلاً من “صانع سياسات وزعيم”، من دون أدنى شعور بالذنب.
وعلى العموم، لقد أُخذَت تلك الاقتباسات الواردة آنفاً من البيان الرّسمي للمتهم الرئيس في الهجوم على كرايستشيرش العام الماضي. إذ تُعبّر بصدق عمّا يجول في خاطر “الآخرين” الذين سيفرضون وجودهم قريباً على الولايات المتحدة، مستغلّين حالة الفوضى العارمة والشغب، وادّعاء اليمين المتطرّف وجود إرهابيين معادين الفاشية ويساريين محرّضين على الفتنة في أميركا. وبهذا، يُمكن القول إن التقارير التي تتحدّث عن حُرَّاس ليليين من أصحاب البشرة البيضاء يجوبون منطقة “فيشتاون” في ماساتشوستس، أو عن فاشيين أميركيين يُروّجون السلب والنهب عبر حسابات مزيفة باسم حركة “أنتيفا” (حركة معادية الفاشية)، ليست سوى البداية.
وحسب محللين سابقين في “وكالة الاستخبارات الأميركية” (سي آي إيه CIA)، ما نعيشه حاضراً يشكّل انحداراً ديمقراطيّاً كلاسيكيّاً، أقرب ما يُمكن إلى الحلم الذي طالما تاق إليه اليمينيّون المتطرّفون، ولن يهدأ لهم بال حتى يُحوّلوه إلى حقيقة.
والمعروف عن ترمب أنه خالف القانون أكثر من مرة في غضون السنوات الأخيرة. وبسبب مخالفاته تلك، تمكّن اليمين المتطرف من المراهنة على حرب عنصرية أميركية. وقد صعدت مدموجة بأوهام عن حرب أهلية أقل دموية، تُعيد الحياة إلى “بوغالو” و”بيغ إيغلو” و”بيغ لو” وسواها من المصطلحات المنقوشة على قمصان “هاواي” السّخيفة. وبالمقارنة مع الجهادية المسيحية، يُمكن القول إنّ حرب اليوم لقيطة، ولها أكثر من أب وهدف وحيد مُنحلّ أخلاقياً.
ومن وجهة نظر المتخصصين، وفي ضوء أحداث وتطوّرات الأسبوع الماضي، اليمين المتطرّف يشكل التهديد الإرهابي الأكبر في الولايات المتحدة اليوم. من الصّعب جداً تصوّر موقف أو حالة لا تتفاقم فيها الأمور من سيئ إلى أسوأ. فما نواجهه في هذه المرحلة يعتبر الأسوأ بالنسبة إلينا نحن المراقبين الأميركيين والدّوليين على حد سواء. وما يحدث في أميركا قد يحدث في كل مكان.
تلك كلمات تحذير مدوية، وقد كتبها سينكلير لويس منذ 85 عاماً، بالتزامن مع أوّل ظهور للفاشيين في أوروبا. وفي روايته بعنوان “لا يمكن أن يحدث هنا” (It Can’t Happen Here)، تمتّعت شخصيّة الديكتاتور بخلفية عسكرية، لكنّها تُشبه ترمب إلى حدٍّ غريب. ووفق تلك الرواية، “لقد أدركوا أنّ هذه البلاد قد ضعُفت وترهّلت إلى حدّ كبير، وبات باستطاعة أيّ عصابة جريئة بما يكفي، ومعدومة الضّمير بما يكفي، وذكية بما يكفي لتتستّر تحت عباءة الشّرعية، أن تكون قادرة بالتالي على إحكام قبضتها على الحكومة، وامتلاك ما تُريده من نفوذ وإطراء ولوائح وأموال وقصور”.
وفي الوقت الحاضر، يُمكن تطبيق هذا القول إمّا على المدّعي العام الذي اعتبر غياب التنظيم (عن الاحتجاجات) تهديداً إرهابياً، وإمّا على العناصر التمكينية التابعة للكونغرس التي روّجت استخدام عنف الدولة من أجل تهدئة الاضطرابات، مثل “كوتون” و”غايتز”. وبتحريض من حسابه على “تويتر” ومسؤوليه الإداريين المتملّقين، لم يتردد ترمب في إطلاق العنان لغرائزه التسلّطية، واستمر على تلك الحالة منذ بداية يونيو (حزيران) 2020.
إن الأمر يحدث هنا. وقد رأينا أخيراً رئيس هيئة الأركان المشتركة مرتدياً بزات عسكرية في أثناء استطلاعه ساحة المعركة، بالقرب من نصب لينكولن التذكاري. وقد التُقطَت صور للجنود المسلّحين بالأمس وهم يحرسون المعالم التاريخية التي ترمز إلى الحرية والتّحرر، فتبدو كأنها مشاهد من رواية المتشائمة “يوميات تورنر” The Turner Diaries (التي كتبها الأميركي ويليام لوثر بيرس، وقدم فيها رؤية حالكة عن مستقبل مشؤوم).
لكن، هل “هذه” هي الفاشية؟ بالطبع، فإدارة ترمب تسير بمثل خطاها وتصرخ بمثل صراخها. ولم تعد الإجابة عن هذا السؤال مهمة أو طارئة الآن. وبصرف النظر عمّا إذا كانت هذه هي الفاشية فعلاً أو “الديمقراطية غير الليبرالية”، ثمّة شيء واحد أكيد، يتمثّل في أنّ ما يرتكبه ترمب حاليّاً يفتك بالحريات الدستورية، ويُطيح الأقليات العرقية والدّينية بالولايات المتحدة.
نعم، هذا صحيح. اعتماد ترمب على شبه الشرعية التي تخرق الأنظمة بطريقة قانونية يشكّل جانباً مهماً من جوانب الاستيلاء الفاشي الذي لا يُقاوم. لكن ترمب ليس صاحب فكر وأيديولوجيا، بل إنه يفضّل الاندفاع الغريزي على التخطيط، والعلاقات العامة على القيادة. وبقدر ما يمثّل مشكلة كبيرة بحدّ ذاته، فإنّ تصرفاته بوصفه رئيساً في هذه الآونة أقرب ما يمكن إلى الفاشية.
في ذلك الصدد، مَن قال إنه يتوجب علينا البحث عن دليل على الفاشية في رواية سنكلير، بما تحتويه من ديكتاتوريين قصار القامة يؤدون التحية في بزّات شبه عسكرية؟ إن الواقع مليء بدروسٍ أكثر قابلية للتطبيق، ونعني بها السياسات ذات الطابع العسكري والقواعد الديمقراطية – الليبرالية المحدودة، وانعدام الدّعم الشعبي لسيادة القانون، لا سيما في الديمقراطيات الأوروبية التي ظهرت للمرة الأولى عقب انهيار النُظم الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى. والأفضل برأيي، أن نركّز على الجروح المفتوحة في الولايات المتحدة، بدل أن ننبش التاريخ أو الخيال بحثاً عن مقارنات فاشية منظمة. صدّقوا أو لا تصدّقوا، لن يطول الوقت قبل أن يُظهر الفاشيون أنفسهم للعيان.
إن لحظة “حريق الرايخستاغ” باتت قريبة، وناقوسها يقرع على نحو لا تُخطئه الآذان. وباتت المؤسسات الديمقراطية والأفراد المسؤولون عنها في خطر كبير. وكذلك يتهدد الخطر فئات المجتمع الأشد ضعفاً، والأكثر عرضة للتنمر من قِبل اليمين المتطرف. وسيعتقد كثيرون بأنهم محصنّون، ولن يُصابوا بمكروه، متناسين تحذير مارتن نيمولر الشهير، “في البدء أتوا من أجل اليهود…” (وعندها لم أفعل شيئاً، وعادوا من أجل الشيوعيين، وعندها لم أفعل شيئاً. ولمّا جاؤوا من أجلي، لم يكن هنالك أحد ليفعل شيئاً).
وقد لا تتمكّن الولايات المتحدة من إنقاذ نفسها من لجّة الأحداث التي ستشهدها من اليوم وحتى موعد الانتخابات الرئاسية 2020. إذ أنهك المرض قواها. وعلى المجتمع الدولي أن يتدخّل ومن دون تأخير. ويجب أن لا يقتصر الأمر على استدعاء السفراء وإصدار الإدانات المتعددة الأطراف وفرض العقوبات، لأنها قد لا تكون كافية لوقف ذلك المد (الفاشي). وبالنسبة إلى تدخّل جوزيف بوريل غير المسبوق بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي، فلا بدّ من أن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، مع الاعتراف بقدرة الأحداث الأخيرة على مساعدة ترمب في الفوز بولاية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني).
نعم. إن الأمور بهذا السوء، وما من دليل تحسّن في تصرفات الرئيس الأميركي. ومن هذا المنبر، أتوجّه إلى دول العالم التي تراقب ما يحدث مكتوفة اليدين. (ولتكن تلك كلماتي) إن لم تولد هذه التصورات اليمينية المتطرفة ميتة، كونوا على ثقة بأن ما يحدث هنا قد يحدث هناك أيضاً.
رابط المصدر: