- تاريخياً، انسجمت تركيا أكثر مع الإدارات الجمهورية الأمريكية (عدا فترة جورج بوش الابن) التي كانت تُغلِّب المصالح على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- يفضّل الرئيس أردوغان وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إذ يعتقد بإمكانية إقناع ترمب بالانسحاب من سورية وعقد صفقة بشأن “قسد”، وأن ترمب سيتدخل لوقف الصراع في أوكرانيا، ما سيخفف الضغط على أنقرة من قبل الغرب وموسكو معاً.
- بالنسبة لأنقرة، ستشكل كامالا هاريس استمراراً -على الأغلب- لنهج أوباما، وبايدن الذي رفض أن يدعو أردوغان إلى زيارة البيت الأبيض طوال فترة حكمه.
- هناك عامل إيجابي وحيد في وصول هاريس إلى الحكم من وجهة نظر أنقرة، وإن كان غير كاف لتفضيلها، وهو موقف الإدارة الديمقراطية، وهاريس تحديداً، من الملف الفلسطيني، والذي يبدو أقرب إلى وجهة النظر التركية التي تدعم حل الدولتين.
- لن تتأثر سياسات تركيا تجاه الصين والعالم العربي والاتحاد الأوروبي وأفريقيا وآسيا الوسطى، بفوز ترمب أو هاريس، فهذه السياسات تقوم على مصالح تركيا والأمن القومي والسياسات الداخلية الحزبية التي تُناقَش مع الإدارات الأمريكية بشكل براغماتي وبعيداً عن تدخلها المباشر.
دخلت علاقات حكومة العدالة والتنمية التركية والرئيس رجب طيب أردوغان بواشنطن في خلاف طويل وعميق اعتباراً من عام 2013، بصرف النظر عن وجود رئيس جمهوري أو ديمقراطي في البيت الأبيض. وعلى الرغم من هذه الخلافات، كان الرئيس أردوغان يُرسل رسائل إيجابية إلى واشنطن، مع بداية عهد كل من دونالد ترمب (2017-2020)، وجو بايدن (2021-2024)، مُعرباً عن نيته تقريب وجهات النظر وتطوير العلاقات بين البلدين.
وفي ضوء الانتخابات الرئاسية التي تشهدها الولايات المتحدة في نوفمبر 2024، والتي تشهد منافسةً محتدمة بين مرشحة الحزب الديمقراطي ونائبة الرئيس الأمريكي حالياً كامالا هاريس، ومرشح الحزب الجمهوري والرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب، فإن من المهم استكشاف تفضيلات أنقرة حول المرشح الرئاسي الأمريكي، ولكن قبل ذلك يتعيَّن تحليل تجارب تركيا السابقة مع الإدارات الجمهورية والديمقراطية.
تجربة أنقرة مع الإدارات الجمهورية والديمقراطية
في خلال الحرب الباردة كانت أنقرة تفضل التعامل مع الإدارات الجمهورية في الولايات المتحدة، بسبب أن الإدارات الديمقراطية كانت أقرب إلى اللوبي اليوناني واللوبي الأرمني في واشنطن، واللذين كانا ينشطان ضد أنقرة، هذا بالإضافة إلى رؤية أنقرة بأن الإدارات الديمقراطية الأمريكية كانت أكثر ميلاً إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بدعوى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن وجهة النظر هذه بدأت تختلف مع غزو الولايات المتحدة العراق عام 2003، تحت حكم الرئيس الجمهوري جورج بوش (الابن). ويمكن التأكيد على تغيير المزاج التركي تجاه الإدارات الأمريكية، مع وصول الرئيس باراك أوباما إلى الحكم، والذي خص تركيا بأول زيارة خارجية له وراء البحار عام 2008، وألقى حينها خطاباً “محفزاً” للدور التركي في البرلمان، متحدثاً عن “الجمع بين الإسلام والديمقراطية”.
لكنّ هذا التفاؤل التركي بالإدارة الديمقراطية تراجع مع ظهور الخلافات بين أنقرة وواشنطن حول مسارات ما سُمي “الربيع العربي” في المنطقة، وخصوصاً في سورية حين بدأت خلافات الرأي بين الطرفين تظهر إلى السطح عام 2013، حين رفضت تركيا تصنيف “جبهة النصرة” (تنظيم القاعدة سابقاً) بالتنظيم الإرهابي حينها، وهادنت وجود تنظيم “داعش” على حدودها، فيما بدأت واشنطن بتنظيم صفوف الأكراد السوريين وأنشأت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي تصنفها أنقرة منظمة إرهابية. وهنا يمكن اعتبار تلك الفترة الأسوأ في العلاقات بين البلدين الحليفين، حيث تراجعت من نقطة “التحالف الاستراتيجي لبناء شرق أوسط جديد وموسع” إلى دعم كل دولة تنظيماً تَعتبره الدولة الأخرى إرهابياً، وحدث هذا التحول الكبير خلال فترة حكم الرئيس أوباما الديمقراطية، ناهيك باتهام أنقرة لواشنطن بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016.
وبسبب المعرفة الشخصية بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس دونالد ترمب، من باب الاستثمارات لشركات ترمب في تركيا، استقبلت أنقرة وصول ترمب إلى البيت الأبيض باعتباره بداية صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد الأزمة الكبيرة مع إدارة أوباما. لكنْ مع ذلك، وعلى رغم الحوار الجيد الذي بدأ بين الرئيسَين ترمب وأردوغان، فإن أنقرة شهدت عدة أزمات مع واشنطن في خلال حكم ترمب الذي لم يوقف الدعم الأمريكي لـ”قسد”، كما كانت أنقرة تأمل، بل إن ترمب اضطر لمجاراة الكونجرس وفرض عام 2017 عقوبات على أنقرة ضمن قانون “مكافحة أعداء أمريكا” CAATSA بسبب شرائها “صواريخ “إس400” الروسية، ثم إخراجها من برنامج تصنيع طائرات “إف 35”. وتأزمت العلاقات أكثر بين البلدين على خلفية اعتقال أنقرة القس الأمريكي أندرو برونسون عام 2018، والذي اضطرت للإفراج عنه بعد تدابير عقابية اقتصادية فرضها ترمب أدت إلى أزمة مالية في تركيا ذلك الصيف، لتنتهي هذه العلاقة العاصفة بنشر رسالة ترمب الخطية إلى الرئيس أردوغان التي هدده فيها وحذره من شن عملية عسكرية ضد الأكراد في شمال سورية، مستخدماً عبارات خارج إطار الدبلوماسية مثل “لا تكن أحمقاً”.
وعلى رغم كل هذا التوتر في العلاقة، وُقِّعَت اتفاقية ثنائية مكونة من 13 بنداً بين واشنطن وأنقرة في عام 2019 بشأن شمال سورية، وبهذه الاتفاقية شَرعنت الولايات المتحدة التدخل العسكري التركي في سوريا، وقبلت بالإدارة التركية في المنطقة الآمنة التي تم إنشاؤها. ومع ذلك، لم تتوقف الولايات المتحدة عن إرسال الأسلحة إلى “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تعد المكون الرئيس لقوات “قسد”.
اقرأ المزيد من تحليلات «وحدة الدراسات التركية»:
هنا يمكن رسم حدود التعاون “الشخصي” بين أردوغان وترمب، فعلى الرغم من العلاقات الشخصية الجيدة بين الطرفين، إلا أن ترمب يتجاوز ذلك في السياسات الخارجية، خصوصاً عندما يجد تعنتاً أو معارضةً من الطرف الآخر. وهنا نستشهد بحديث لريتشارد جرينيل، السفير الأمريكي السابق في ألمانيا، وهو أحد داعمي ترمب في ترشيحه الحالي ومن المتوقع أن يُعينه وزيراً للخارجية إذا تم انتخابه، إذ قال في مقابلة طويلة مع صحيفة “بيلد” الألمانية، في 19 يوليو، إن ترمب لن يتردد في استخدام عنصر التهديد في السياسة الخارجية، وأنه فعل ذلك في فترته الأولى، مُستشهداً بقضية القس برونسون. وروى جرينيل أن ترمب اتصل بأردوغان وقال له “سأدمر اقتصادك”، وأنه فعل ذلك، وبعد ذلك أطلقت السلطات التركية سراح برونسون.
وكانت بداية عهد إدارة بايدن سيئة بالنسبة للعلاقات بين أنقرة وواشنطن. فقبل الانتخابات الرئاسية، أثار بايدن ردة فعل خطرة من أنقرة عندما قال إنه سيعمل على تغيير أردوغان من طريق دعم المعارضة في تركيا. كما أن عدم استجابة بايدن لتوقعات أردوغان بعقد اجتماع ثنائي في خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في سبتمبر 2021، في بداية فترة ولاية بايدن، أدى إلى رد فعل قاسٍ للغاية من أردوغان، حيث قال: “لسوء الحظ، النقطة التي وصلنا إليها في علاقاتنا مع أمريكا في خلال حياتي الإدارية التي استمرت 19 عاماً تقريباً بصفتي رئيس وزراء ورئيساً، ليست نقطة جيدة. لقد عملت بشكل جيد مع بوش الابن، وعملت بشكل جيد مع السيد أوباما، وعملت بشكل جيد مع السيد ترمب، لكنني لا أستطيع القول إننا بدأنا بشكل جيد مع السيد بايدن”.
لم يدعُ بايدن أردوغان إلى البيت الأبيض بشكل خاص ولم يخصص له وقتاً، كما أراد أردوغان طوال فترة ولايته، كما لم يدعُ تركيا إلى قمة الديمقراطية التي نظمها في عامي 2022 و2023 على التوالي. وأصبح بايدن أول رئيس أمريكي يستخدم مصطلح “الإبادة الجماعية” لوصف الأحداث ضد الأرمن عام 1915، بدلاً من استخدام تعبيرات مثل “الكارثة الكبرى” كما فعل أوباما وترمب.
كما شهدت فترة بايدن توتراً آخر مع أنقرة نتيجة لتوثيق السياسة الأمريكية باليونان، فعلى الرغم من كل اعتراضات تركيا أنشأت الولايات المتحدة قواعد عسكرية في الجزر اليونانية، وزاد عدد التدريبات العسكرية المشتركة مع اليونان، فضلاً عن توقيع صفقة مع اليونان لبيعها طائرات “إف 35”. لكنْ في المقابل، أعلنت إدارة بايدن في يناير 2022 أنها سحبت دعمها لمشروع “خط أنابيب غاز شرق المتوسط” EastMed، الذي يهدف إلى نقل الغاز المستخرج من إسرائيل وشرق المتوسط إلى اليونان عبر جنوب قبرص، ومن هناك إلى إيطاليا. ومع وضع المشروع على الرف بدأ التوتر في منطقة شرق المتوسط في الانخفاض، ودخلت تركيا في عملية تطبيع مع دول المنطقة. كما تراجع منسوب التوتر بين أنقرة وواشنطن مع رفع أنقرة “الفيتو” عن انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”، في مقابل توقيع صفقة بيعها طائرات “إف 16″، كتعويض عن إخراجها من برنامج طائرات “إف 35”.
خيار أنقرة المفضل: ترمب أم هاريس؟
وفقاً للتجربة المذكورة أعلاه حول علاقة الرئيس أردوغان وتركيا بالإدارتين الجمهورية والديمقراطية في الولايات المتحدة، وبالنظر إلى أنه من المتوقع أن تسير كامالا هاريس على نهج كلٍّ من أوباما وبايدن في حال فوزها في الرئاسة، فإن الخيار المفضل للرئيس أردوغان سيكون بالتأكيد فوز ترمب في هذه الانتخابات، وذلك بسبب الملفات والأسباب الآتية:
- العلاقات الشخصية التي تجمع أردوغان مع ترمب على رغم كل الخلافات التي حدثت بينهما، وهنا نورد تصريحاً للرئيس ترمب في أثناء حملته الانتخابية ضد بايدن حول تركيا والرئيس أردوغان، حيث قال: “أستطيع التعامل معه. إنه يستمع لي”، وأضاف أن بايدن “ليس لديه القدرة العقلية للتعامل مع قادة مثل أردوغان”.
- تتوقع أنقرة أن يسعى الرئيس ترمب إلى حسم الصراع في أوكرانيا وتحسين العلاقات مع روسيا، وهو أمر سيخفف الضغط الغربي على تركيا والضغط من طرف موسكو أيضاً، مما يجعل تركيا في وضع سياسي أفضل.
- بالنظر إلى أن الرئيس ترمب رجل أعمال ويميل إلى عقد الصفقات التجارية، فإن أنقرة والرئيس أردوغان يتوقعان مساعدة أكبر من ترمب للاقتصاد التركي من دون اشتراطات تتعلق بإصلاحات في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
- قد تمر تركيا باضطرابات اقتصادية أو حتى شعبية بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية، ومعها ستكون الانتخابات الرئاسية التركية المقررة في صيف 2028 غير مضمونة النتائج، ناهيك باحتمال إجراء انتخابات مبكرة، وعليه فإن وجود شخص مثل ترمب في السلطة في واشنطن سيكون أمراً مريحاً للرئيس أردوغان الذي سيضمن أن ترمب لن يتدخل في شأن الانتخابات التركية في حال شابها أي اعتراضات حول نزاهتها، على عكس إدارة هاريس الديمقراطية.
- نظرة ترمب إلى الملف السوري لا تختلف كثيراً عن نظرة الإدارة الديمقراطية له، مع احتمال أن يميل ترمب إلى سحب قواته من سورية بشكل أسرع، وهو أمر يصبّ في صالح تركيا.
ويبقى العامل السلبي الوحيد في التعامل مع إدارة ترمب الجديدة، هو الملف الفلسطيني بسبب دعم ترمب لحل “اقتصادي” للقضية الفلسطينية وتأييده الإجراءات الإسرائيلية لفرض الوقائع على الأرض في الضفة الغربية والقدس الشرقية، لكن هذا الملف قد تتعامل معه أنقرة بطريقة براغماتية.
ووفقاً لحسين باغجي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأوسط التقنية، فإن العلاقات بين أنقرة والولايات المتحدة في خلال رئاسة ترمب الثانية، ستكون قائمة أكثر على نهج الأخذ والعطاء، وتأمل أنقرة أن تكون قادرة على التفاوض مع ترمب الذي لا يُدير علاقات قائمة على القيم، والذي تنظر إليه بصفته خصماً معروفاً، في حين أن هاريس ليست شخصية توحي بالثقة لدى أنقرة.
في المقابل، فإن وصول كامالا هاريس إلى البيت الأبيض قد يكون له سلبيات عديدة على العلاقات بين تركيا وواشنطن، أهمها:
- احتمال استمرار الحرب في أوكرانيا أو تطورها بشكل يستفز موسكو أكثر، مما سيزيد الضغط على أنقرة لأخذ موقف محدد.
- الإدارات الديمقراطية مهتمة بملف حقوق الإنسان في تركيا، وتربط تقديم مساعدات اقتصادية لتركيا بتحسين هذا الملف، وهو ما لا يبدو ممكناً حالياً بسبب تحالف الرئيس أردوغان مع القوميين.
- الدعم الذي تقدمه الإدارات الديمقراطية للملف الكردي في منطقة الشرق الأوسط أكبر من ذلك الذي تقدمه الإدارات الجمهورية، وعليه فإن دعم كامالا هاريس لـ”قسد” قد يزداد، وقد يؤدي فعلياً إلى تقسيم سورية، وهو أمر يهدد الأمن القومي التركي.
- من غير المتوقع أن تقف إدارة هاريس مكتوفة الأيدي في حال حصول شكوك بخصوص النزاهة في الانتخابات التركية الرئاسية المقبلة.
لكنْ في المقابل، فإن هناك عاملاً إيجابياً وحيداً في وصول هاريس إلى الحكم من وجهة نظر أنقرة، وإن كان غير كاف لتفضيلها، وهو موقف الإدارة الديمقراطية، وهاريس تحديداً، من الملف الفلسطيني، والذي يبدو أقرب إلى وجهة النظر التركية التي تدعم حل الدولتين.
وأخيراً، فإن سياسات تركيا تجاه الاتحاد الأوروبي والصين وآسيا الوسطى والدول العربية وأفريقيا، لن تتأثر كثيراً بالفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إذ إن المحرك والدافع لسياسات تركيا تجاه هذه الملفات يقوم على مصالح تركيا والأمن القومي والسياسات الداخلية الحزبية التي تُناقَش مع الإدارات الأمريكية بشكل براغماتي، وبعيداً عن التدخل الأمريكي المباشر.
الخلاصة
تُفضِّل أنقرة والرئيس أردوغان وصول دونالد ترمب إلى الحكم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، باعتباره “خصماً” معروفاً يمكن التعامل معه وعقد صفقات مشتركة معه، بينما وصول كامالا هاريس إلى الحكم سيعني استمرار توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن، كما هي عليه الآن.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/anqara-waintikhabat-alriyasa-al-amrikiya-hal-tufddil-trump-um-harris