توجه الرئيس الصيني “شي جين بينج” في زيارة رسمية إلى موسكو بين يومي 20 و22 مارس 2023، هي الأولى منذ تفشي جائحة كورونا، والأولى بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والأولى بعد اطمئنانه لترتيب الوضع الداخلي بسيطرته على مقاليد الحكم بتوليه ولاية ثالثة على رأس البلاد. جاءت الزيارة بعد إعلان “شي” عن خطة للسلام للأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وتعظيم دور الوساطة الصينية في القضايا الدولية محل الاهتمام العالمي، خاصةً بعد النجاح الذي شهدته الوساطة بين القوتين الإقليميتين في الشرق الأوسط إيران والسعودية، ما نتج عنه ترقب بشأن نتائج تلك الزيارة على مجريات الأزمة، وما إذا كان يمكن للصين القيام بدور فعال تجاهها بما لا يتنافى مع مصالحها التي تعمل على ترسيخها منذ البداية.
أهداف الصين من الزيارة
يثور التساؤل حول ما الذي يمكن لبكين القيام به في دعمها لروسيا، خاصةً أنه قبل الزيارة بأيام أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بشأن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وما إذا كان هذا الدعم المقدم سيؤدي إلى الدخول في دائرة العقوبات التي يمكن فرضها جراء إصدار هذه المذكرة. لكن جدير بالذكر أن كلًا من روسيا والصين والولايات المتحدة لم توقع بعد على معاهدة 2002 التي أسست المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لن تخضع روسيا لأي قرار صادر عنها.
لذا فإن الأهداف التي يتسنى لـ”شي” العمل عليها خلال هذه الزيارة إنما تعزيز صورة بكين الدولية، وأنها طرف محايد في الأزمة، بجانب الترويج بشكل أوسع لمبادرتها للأمن العالمي التي تستهدف تعزيز السلام والتنمية المستدامين، وتحدي أي نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة من خلال جذب مزيد من الدول إلى جانبها خاصةً الدول النامية.
من الأهداف المهمة من الزيارة أيضًا؛ إثبات أن ما تقوم به الولايات المتحدة هو في سبيل مزيد من زعزعة الاستقرار، من خلال تقديم مزيد من الدعم بريادتها للغرب إلى أوكرانيا مما يزيد أمد الحرب، فلم تقدم الصين أية أسلحة لروسيا خلال الأزمة بعكس الولايات المتحدة التي باتت أكبر مورد للأسلحة إلى أوكرانيا.
إذا كانت الزيارة تستهدف إرسال رسالة رمزية مشتركة في مواجهة الهيمنة الأحادية الأمريكية عبر تعميق التحالف بين بكين وموسكو، لكن إذا تمت مقارنة ما تم التوصل إليه من اتفاق بين طهران والرياض بما يمكن أن يتم التوصل إليه في حالة الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الأمر يبدو أصعب في الحالة الثانية أمام الصين؛ نظرًا إلى تعقيد استجابة الأطراف المتنازعة حيث قلة النفوذ الصيني على روسيا الذي يجعل لبكين ورقة ضغط على موسكو، وفي نفس الوقت حجم الدعم الغربي المقدم لأوكرانيا، وكيف يمكن لطرف أن يقدم تنازلًا للآخر في سبيل حل الأزمة.
وهو ما يجعل من المتوقع أن يسير الأمر في طريق التوصل إلى هدنة أكثر من كونه حلًا نهائيًا؛ أي ألا تنتهي حالة الحرب مثل الوضع في شبه الجزيرة الكورية، لكن في نفس الوقت تنتهي حالة الاقتتال المستمرة؛ إذ من المنتظر إجراء لقاء افتراضي بين “شي” والرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” في أول محادثة مباشرة منذ بداية الحرب، لكن بفرض أن الصين دعت لوقف إطلاق النار، فمن المرجح أن يكون الرد الأمريكي أنه أمر غير مقبول.
لكن يبدو من بعض التحليلات أن زيارة “شي” لا تستهدف التركيز على أوكرانيا أو الحرب فيها؛ بل التباحث مع روسيا بشكل أكبر للاستعداد للمواجهة المستقبلية مع الولايات المتحدة، بجانب دراسة ما ترتب جراء الحرب من أزمة في الغذاء والطاقة واضطراب سلاسل التوريد خاصةً تلك التي لها تأثير مباشر على الصين.
أما فيما يخص العلاقات الصينية الروسية، فتستهدف الزيارة تدعيم أواصر العلاقات بين البلدين وفقًا لما أكد عليه “شي” بأن علاقة بلاده مع روسيا ذات أولوية كشريكين استراتيجيين، وسيتأكد هذا حين يتوجه “بوتين” بزيارة لبكين تلبيةً لدعوة نظيره خلال هذا العام لتوسيع شراكتهما الشاملة. ومن ثم تعبر الزيارة عن الالتزام الصيني تجاه روسيا، عبر تجنيب الاختلافات البينية بينهما في سبيل الاشتراك حول رؤية موحدة حول النظام الدولي في مقابل الرؤية الأمريكية.
في سبيل ذلك؛ تستهدف الزيارة كذلك إظهار عدم عزلة روسيا، خاصةً أن بكين تؤكد دومًا على التزامها بمفاوضات السلام، فضلًا عن أنها لم توجه أية اتهامات لروسيا حتى الآن في هذه الحرب، إنما كانت تؤيد حقها الأمني، فقد تبادل الرئيسان تعليقات في الصحف الرسمية لكلا الدولتين وعبّرا فيها عن مدى تقارب البلدين وأن هذه الزيارة تحمل السلام والتعاون، ورحب “بوتين” بما يقدمه “شي” من مساهمة لتسوية الأزمة.
نتائج الزيارة
حصلت الجوانب الاقتصادية على جزء كبير من نقاشات الزيارة، بجانب قضايا التعاون العسكري التقني لتوسيع الشراكة الشاملة المذكورة بما يراه الطرفان “يتواءم مع الدخول في حقبة جديدة”؛ إذ تنتظر الزيارة نتائج تتعلق بتوقيع عشر وثائق مشتركة، بجانب توضيح الخطة المشتركة للتنمية للمجالات الرئيسة للتعاون الاقتصادي لعام 2030، كي يتجاوز التبادل التجاري في عام 2023 الـ200 مليار دولار. فتحصل الصين الآن على أكثر من 40% من إجمالي الواردات الروسية، بجانب أن روسيا حصلت على كميات كبيرة من المنتجات التي يتم استخدامها في المجالات المدنية والعسكرية، وهو ما يقال إنها موارد حيوية استخدمتها روسيا للحفاظ على استمرارية قوتها الحربية.
بالإضافة إلى ذلك، كان التوجه إلى زيادة النقل على مسارات النقل العابرة لسيبيريا وآسيا، إذ يتجاوز حجم المشاريع الحكومية التي تمت مناقشتها 165 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتزايد عدد الشركات الصينية في الداخل الروسي لتحل محل الشركات الغربية التي غادرت روسيا نتيجةً للحرب.
تُوجت الزيارة أيضًا بمناقشة التعاون في مجال الطاقة؛ إذ أبدت روسيا استعدادها لزيادة إمدادات النفط للصين بشكل غير محدود بجانب توسيع إمدادات الغاز الطبيعي. فقد زادت واردات الصين من النفط الروسي بنسبة 8% العام 2022، وزادت واردات الغاز الروسي بنسبة 50%، وهو ما يفسر بشكل جزئي تحسن أداء الاقتصاد الروسي رغم العقوبات الغربية. في نفس الوقت، ستعود هذه الاتفاقات بالنفع على الاقتصاد الصيني الذي يعمل على تفادي نتائج التحديات التي فرضتها جائحة كورونا وتعطيل سلاسل التوريد، وهو ما جعلها على رأس التحديات المحلية أمام ولاية “شي” الثالثة.
أكد البيان الثنائي الصادر عن الزيارة أمورًا تتعلق بالكيانات متعددة الأطراف التي يشترك فيها البلدان، مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس والعشرين كأطر تسهم في تعزيز التعددية بشكلها الحقيقي وتحسين نظام الحوكمة العالمي في عالم متعدد الأقطاب.
وفيما يخص الأزمة الأوكرانية؛ أكد “شي” على مبادرته الخاصة بالسلام ذات الـ 12 بندًا التي أعلن عنها في فبراير 2023 لتسوية الأزمة الأوكرانية، وأشار في ذلك إلى أن الصين التزمت خلال تلك الفترة بمعايير ومبادئ الأمم المتحدة، واتبعت موقفًا حياديًا متبنية ضرورة اللجوء إلى الحوار والسلام. ودعا البيان المشترك إلى وقف الأعمال التي تطيل أمد الحرب وتزيد التوترات، وحث الناتو على احترام سيادة الدول الأخرى وأمنها ومصالحها، في إشارة ضمنية إلى أن الغرب هو من سعى إلى استفزاز روسيا، بالإضافة إلى الإشارة للمخاوف المتعلقة بتعزيز الناتو للعلاقات العسكرية والأمنية مع دول آسيا والمحيط الهادئ.
تفاعل أمريكي متخوف
رغم أن الولايات المتحدة رحبت بالدور الصيني في نجاح الوساطة الأخيرة بين طهران والرياض، مع الإشادة باحتمالية التواصل الصيني بين طرفي الأزمة الأوكراني والروسي في سبيل إنهاء الأزمة لأنها كانت ترفض المطالبات الأمريكية في بداية الحرب بالتدخل؛ فإن رد الفعل الأمريكي الفعلي يملؤه التخوف بأن الصين تسعى بذلك إلى دور أكبر على الساحة الدولية، وأن أية محاولات صينية للتفاوض على السلام مجرد مساعٍ لخدمة المصالح الصينية.
وتذهب الترجيحات كذلك إلى أن الصين قد لا تمارس الضغط المفترض على روسيا أو توجيه الاتهامات لها من أجل تعزيز السلام؛ لأنها سبق أن اعترفت بحق روسيا في حماية أمنها القومي أو ما سبق أن تم اعتباره غطاءً دبلوماسيًا لها أثناء قيامها بالغزو، فضلًا عن أن الجانب الأمريكي يرى أن أية محاولة لوقف إطلاق النار ما هي إلا فرصة للقوات الروسية لإعادة ترتيب صفوفها لاستئناف القتال. وقد اعتبر وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” أن الزيارة تعني أن الصين لا ترى أية ضرورة لمحاسبة روسيا على ما تقوم به في أوكرانيا، ورأى “جون كيربي” المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي أن اقتراح الصين لوقف إطلاق النار يرقى إلى التصديق على الغزو الروسي وبقاء القوات الروسية في أجزاء من دولة ذات سيادة.
من التخوفات أيضًا تظهر مسألة أن تزود الصين روسيا بأسلحة في حربها ضد أوكرانيا؛ إذ هناك من يرى أن الزيارة لا تعبر سوى عن الدعم الصيني الواضح لروسيا في حربها على أوكرانيا، وهذا ما سيجعل العلاقات بينهما أقوى في حالة إقدام الصين على غزو تايوان لترد لها موسكو ما فعلته معها خلال الأزمة الحالية.
ختامًا، يبدو أن الصين تستخدم برجماتيتها لتكون المستفيد الأكبر من زيارتها إلى موسكو، بل من الأزمة الروسية الأوكرانية برُمّتها؛ بأن تكون داعية للسلام في مواجهة الولايات المتحدة، أو الاستفادة من إطالة أمد النزاع لإشغال الغرب عنها كي تتمكن من تحقيق أهدافها. بجانب ذلك، فهي تروّج لرؤيتها حول النظام الدولي التعددي باستمرار علاقتها مع روسيا رغم العزلة التي تتعرض لها حاليًا؛ تحسبًا للمستقبل بضم تايوان، بالإضافة إلى التأكيد على متابعة الأجندة السياسية والدبلوماسية الصينية دون القلق مما قد تفكر فيه الولايات المتحدة التي حذرت من عواقب وخيمة إذا باعت بكين أسلحة إلى موسكو أو إظهار الدعم الصريح لروسيا.
.
رابط المصدر: